مؤشرات إسرائيلية على العدوان الأخير على غزة

2022.08.13 | 07:04 دمشق

العدوان الأخير على غزة
+A
حجم الخط
-A

بغض النظر عن مآلات العدوان الإسرائيلي، ذي الأيام الثلاثة على قطاع غزة، لكنه أثبت مجددا للإسرائيليين مرة أخرى أن هذه البقعة الجغرافية الصغيرة والمزدحمة هي أحد أكبر التحديات التي تزعجهم، وتشكل لهم مصدر قلق حقيقي، لسنوات، وربما لعقود عديدة، مما دفع أوساطا نافذة لديهم للحديث أنه حان الوقت لتغيير ما سموه "القرص المرن"، والفهم بأن العملية العسكرية والقبة الحديدية ليستا الحل لهذا التهديد المزمن.

أعادت الحرب الأخيرة على غزة إلى أذهان الإسرائيليين ما حصل عقب الانسحاب منها في مثل هذه الأيام من 2005، حين بدأت المقاومة الفلسطينية تكثف قدراتها الصاروخية وبناء الأنفاق، الأمر الذي حوّل مستوطني غلاف غزة إلى ما يمكن تسميتهم رهائن لدى المقاومة الفلسطينية، وفق التعبير الإسرائيلي، وقد باتت تملي جدول أعمال الدولة عليهم.

كما أكدت هذه الحرب أنه رغم كل القدرات العسكرية التي تحوزها إسرائيل، لكنها في المقابل لم تتمكن من تغيير الواقع الأمني المتزعزع لمستوطني الجنوب، مما طرح تساؤلات عديدة في أوساط دوائر صنع القرار عقب انتهاء الحرب الأخيرة: وماذا بعد، بعد أن تبين لهم أن غزة هذه عبارة عن برميل متفجر، وسيستمر بالانفجار في وجوههم، طالما لم تحل ما تعانيه من مشكلات ومعاناة بسبب الحصار الظالم المفروض عليها منذ أكثر من ستة عشر عاما.

ورغم الاكتفاء الإسرائيلي بالحلول العسكرية، كما حصل في الحرب الأخيرة، والشعور السائد لديهم بما يمكن وصفه بـ"النشوة" بسبب ما قيل عن إنجازات تحققت فيها، لكنهم في الوقت ذاته على قناعة موازية بأنه من دون عمل سياسي حقيقي، فلن تكون نتيجة العدوان مختلفة هذه المرة عما سبقها في أعوام 2008، 2012، 2014، 2021.

الواقع المرير الذي يواجه الفلسطينيين في غزة يجب أن يشكل لإسرائيل مصدر قلق حقيقي، رغم مكابرة ساستها وعسكرها

مع العلم أنه في كل حرب تشنها إسرائيل على غزة تخرج الأصوات الإعلامية والدعائية التي تطالب الجيش بمهاجمة "عش الدبابير" المسمى غزة، لأنها تحولت منذ خروج الإسرائيليين منها إلى معقل للمقاومة المسلحة، تقض مضاجع الاحتلال، وتتجاوز صواريخها مستوطنات الغلاف، حتى وصلت تل أبيب والقدس المحتلة، وما بعدهما، وهي التي تمنّى إسحق رابين أن يستيقظ يوماً، وقد ابتلعها البحر، لأنها شكلت له صداعا دون علاج.

في الوقت ذاته، وفور أن هدأ أزيز الطائرات في أجواء غزة، وتوقف انفجار الصواريخ في المستوطنات الإسرائيلية، استخلص الإسرائيليون جملة من الدروس والنتائج التي حملت تشاؤما لا تخطئه العين، لأن الواقع المرير الذي يواجه الفلسطينيين في غزة يجب أن يشكل لإسرائيل مصدر قلق حقيقي، رغم مكابرة ساستها وعسكرها، لكنها ستبقى على موعد متجدد بين حين وآخر بمواجهة عسكرية ضارية ومستنزفة.

من هذه الدروس والمؤشرات أن العملية الأخيرة حصلت ضد حركة الجهاد الإسلامي تحديدا، ويمكن رصد جملة محدودة من الخسائر الإسرائيلية، بشريا وعسكريا واقتصاديا، لكن إسرائيل تعلم أكثر من غيرها أنه في حالة انضمام حماس لهذه المعركة فيمكن حينها مضاعفة هذه الخسائر والتكاليف والأعباء، الأمر الذي يعني أن تكون أمام تحديات أكثر خطورة.

مؤشر آخر تمثل بما لاحظه الجميع، وقد بلغ العدوان ذروته على غزة في الأيام الأخيرة، وجود حالة لافتة، لا تتكرر كثيرا، لدى المستويات الأمنية والعسكرية ​​والسياسية في إسرائيل، على ضرورة بذل الجهود لإنهائه، قبل أن يتطور إلى حرب أكثر شمولاً لا تريدها، وخشية التورط فيما يسميه الإسرائيليون "المستنقع الغزاوي".

درس ثالث أظهرته العديد من الأصوات الإسرائيلية المؤيدة للعدوان، لكنها سرعان ما أعلنت بعد ساعات فقط من وقفه أن ما وصفته "الاختبار الحقيقي" للقيادة الإسرائيلية والجمهور يبدأ الآن فقط، من خلال ترجمة وقف إطلاق النار إلى عملية دبلوماسية من شأنها أن توفر منظورًا لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وإلا، فهي مجرد وقفة مؤقتة حتى اندلاع جولة أخرى من القتال، خاصة وأن الوضع الإنساني في قطاع غزة مروع بكل المقاييس، وقد زادت الجولة الأخيرة من هذه المحنة، رغم أن هذا الواقع الذي يعانيه الفلسطينيون، أبقى الإسرائيليين في المقابل في حالة من عدم اليقين والقلق لفترة طويلة جدًا، وقد يبقيهم كذلك حتى إشعار آخر.

نتيجة رابعة سادت في الأوساط الإسرائيلية التي بات لديها إدراك يتنامى يوما بعد يوم، ولعله زاد بعد العدوان الأخير، ومفاده أن التسوية السياسية هي وحدها القادرة على وقف الدوامة المستمرة من العدوان الإسرائيلي وردّ الفعل الفلسطيني، رغم توفر إجماع إسرائيلي في المقابل بأن الظروف لا تسمح بإطلاق مثل هذه الخطوة السياسية الآن، ولا يُتوقع أن يسفر عن نتائج مختلفة في المستقبل، في ضوء التغذية الراجعة من فشل مسيرة التسوية التي بدأها مؤتمر مدريد، وما أسفر عنه اتفاق أوسلو.

فرضية خامسة لا يخفيها الإسرائيليون وتتركز في أن الفلسطينيين يستفيدون من الهدوء المؤقت فقط في غزة بين كل عدوان وآخر للتخطيط لكيفية تحسين قدراتهم العسكرية، مما يعني أن إسرائيل لن يكون أمامها الكثير من الوقت لفعل أي شيء سوى إدامة دائرة العنف، واستمرار المواجهات العسكرية المسلحة.

صحيح أن العدوان الأخير لم يتجاوز الأيام الثلاثة، لكنه اعتبر استمرارا لحالة الاستنزاف التي يعيشها جيش الاحتلال، فضلا عن تحول نسبة كبيرة من مستوطني غلاف غزة إلى مهاجرين في مناطق وسط إسرائيل، هروبا من جحيم الصواريخ، ورغم قساوة الضربات التي تلقتها المقاومة خلال هذا العدوان، لكن حتى ساعاته الأخيرة لم تظهر عليها مؤشرات انكسار، مما حمل اعترافاً إسرائيلياً، ولو ضمنياً، بصعوبة إخضاعها.

الإسرائيليون لديهم قناعة متحققة، قبل العدوان الأخير وبعده، بأنهم لا يستطيعون القضاء على المقاومة الفلسطينية، حتى لو استمرت عمليات الإبادة الجماعية بحق المدنيين الفلسطينيين

مؤشر سادس بدا واضحاً منذ بداية العدوان على غزة، ويتمثل في عدم وجود تماثل بين الجيش الإسرائيلي والمقاومة في تعريف النصر، حيث أمكن للأخيرة القول إنها شوشت نظام الحياة في إسرائيل كلها، ومسّت باقتصادها، وفي الوقت ذاته فإنها لم تهزم، فيما شعر الجيش أنه ملزم بإلحاق ضربة شديدة جداً بالمقاومة كي يحقق أهدافه الاستراتيجية، رغم نجاحها بنقل جزء من المعركة داخل إسرائيل، وما شهدته من نزوح آلاف الإسرائيليين من بيوتهم في المستوطنات المجاورة للقطاع.

أخيراً.. ليس سراً أن الإسرائيليين لديهم قناعة متحققة، قبل العدوان الأخير وبعده، بأنهم لا يستطيعون القضاء على المقاومة الفلسطينية، حتى لو استمرت عمليات الإبادة الجماعية بحق المدنيين الفلسطينيين، كونهم الحاضنة الشعبية لها، بل إن ما يشنونه من حروب بين حين وآخر هي جزء من استراتيجية "جزّ العشب"، دون أن تصل في النهاية إلى طي صفحة هذه المقاومة، ليس لأن إسرائيل دولة ضعيفة، أو أن جيشها ذو قدرات متواضعة، على العكس من ذلك، ولكن لأنها لن تقف في عكس حركة التاريخ، التي تؤكد أن لكل فعل رد فعل، وكل احتلال لابد له من مقاومة، وكل طغيان يستوجب رداً عليه، وهذه حقائق يدركها الإسرائيليون منذ أكثر من سبعة عقود، ومع ذلك فإنهم مستمرون في مكابرتهم!