مأزق سنة لبنان ونهاية الحريرية

2019.12.26 | 17:45 دمشق

images_7.jpg
+A
حجم الخط
-A

شكل السنة عصب ثورة 17 من تشرين الأول. لم تكن مطالبتهم بإسقاط حكومة سعد الحريري سوى رفض لهيمنة حزب الله على القرار الحكومي ومصادرته. كانوا يحاولون فك أسر سعد الحريري الحكومي من خلال إسقاط حكومة لا يمتلك قرارها. جاء دمج تلك المطالبة التي لم تقتصر عليهم بالهم المعيشي والوضع المالي والاقتصادي المتدهور ليخلق شبكة احتجاج عارمة، وضعت الحريري في مواجهة الشارع السني وشارع الثورة العام كذلك.

في المشهدية التي رافقت انطلاق الثورة لم يكن الفصل بين مكوناتها ممكنا، أو كان يحمل على الأقل سمة الافتراء، وكان مشهد بيروت وطرابلس والنبطية وصور يقدم صيغة موحدة ومتناغمة، تنادي بإسقاط حكومة الحريري بوصفها رافعة للفساد والفشل، وكان كل جهدها يتجه عمليا ضد حزب الله لأنه يمثل السلطة الفعلية.

حين خلع الحريري نفسه وأسقط عن كتفه رداء رئاسة الحكومة، كان يعتبر أنه امتلك الثورة وأنه بات قادرا أن يكون صاحبها وبطلها، ولكن حزب الله الذي كان يفاوضه على إعادة تشكيل الحكومة عمل على تقزيم المشهد الحكومي ككل، ونقل الاشتباك من الدور الإنقاذي للحكومة إلى شخص رئيسها.

وضع حسان دياب في واجهة المشهد الحكومي كان لعبة نجح من خلالها حزب الله في استجرار غضبة حريرية غير مسبوقة في علنيتها، إذ وصف الحريري حكومة دياب المنوي تشكيلها بحكومة باسيل، معلنا أنه لن يشارك فيها ولن يمنحها الثقة، وأنه لن يقبل بعد اليوم بتشكيل حكومة تضم باسيل، واستكمل حديثه بهجوم على القوات وعلى رئيس الجهمورية ميشال عون.

توقيت هذا الهجوم استجلب ردا من رئيس الجمهورية تكمن رمزيته المزدوجة أنه جاء من صرح بكركي أولاً، وثانيا في ما كرسه من خروج على الدستور مع تأكيده أن الوزير باسيل يحق له التدخل في تشكيل الحكومة لأنه يمتلك أكبر كتلة نيابية. تزامن

الدفاع عن موقع السنة في الدولة يتطلب حاليا إعادة إنتاج السلطة ضمن الشروط القائمة حاليا، أي أن الحكومة ستكون حكومة باسيل بغض النظر عن رئيسها وأعضائها

هذا الطلاق السني المسيحي الذي يتجاوز حدود سقوط التسوية، مع خلو ساحات الثورة من الثوار، واقتصارها في الفترة الأخيرة بشكل شبه كامل على مشهد سني يطالب أصحابه بإعادة تكليف سعد الحريري بتولي تشكيل الحكومة.

 شعور سنة الثورة بالخديعة والإهانة أخرجهم من دائرتها، وجعلهم يؤمنون في لحظة ما أنهم وحدهم من خلعوا صاحبهم، في حين أن كل الطوائف الأخرى عمدت إلى تثبيت أصحابها وتعزيز مواقعهم، وبذلك فإن عملية التكامل بين سنيتهم وبين الثورة سقطت، وباتوا يطالبون بموقعهم المكرس لهم في الدولة.

يتجلى في هذا البعد الأخير طبيعة المأزق السني اللبناني، إذ إن الدفاع عن موقع السنة في الدولة يتطلب حاليا إعادة إنتاج السلطة ضمن الشروط القائمة حاليا، أي أن الحكومة ستكون حكومة باسيل بغض النظر عن رئيسها وأعضائها، ومن النافل التأكيد أن عنوان حكومة باسيل ليس سوى الاسم المخفف لحكومة حزب الله.

يعني ذلك أن الغضبة السنية لإعادة تكليف الحريري فارغة من المعنى والمضمون، وهي لا تصب في أي مكان سوى سحب عصب الثورة بإخراج السنة منها، ولكن الحريري يجتهد في تحويل خروجه من رئاسة الحكومة إلى خروج للسنة من معادلة الحكم، بينما لم يكونوا فعلا خارجها بشكل جدي، إلا في الفترة التي كان فيها على رأس الحكومة.

يسعى الحريري حاليا إلى ربط السنة بشخصه في حين أن كل قرارته جاءت رغما عن إرادتهم، في كل مرة كانت ترتفع فيها وتيرة غضب الشارع السني كان الحريري يرد بالتعالي على الناس قائلا إنه يعلم ما لا يعلمون، أو يعمد إلى تنظيم حملات توظيف هزيلة داخل مؤسسات الدولة، تؤدي وظيفة شرعنة احتلال هذه المرافق من قبل باسيل والثنائية الشيعية.

يعني كل ذلك أن المأزق الذي يعاني منه الحريري حاليا لا يرتبط بشخصه بل بكل مشروع الحريرية.

ما نجح حزب الله في تكريسه حاليا يتجلى في أن الحريرية تقلصت من مشروع يصل لبنان بالعالمين العربي والغربي، ويؤمن رافعة سياسية واقتصادية له تجعل منه شريكا فاعلا لا يمكن الاستغناء عنه في إدارة البلد، إلى مجرد صراع على  موقع طائفي بزعامة منقوصة تشوبها الكثير من الثقوب والخدوش، وتعمل ضمن شبكة ريعية تتقلص مواردها باستمرار، وتدخل صاحبها في دائرة الفساد والمحاصصة، وتجعله جزءا من طبقة سياسية يثور عليها الناس.

يريد الحريري أن يكون "بي السنة "حاليا في لحظة لا يمتلك فيها أي دعم خارجي، وحتى أن الصيغة المعتادة التي يعمد من خلالها إلى ربط حضوره على رأس الحكومة بتدفق الأموال، بدت غير صحيحة أو لا تحمل سمات الدقة في التوصيف، فالعالم يطالب بإعادة إنتاج صيغة البلد ككل كشرط لتدفق الأموال، ودول الخليج وعلى رأسها السعودية أعلنت بشكل قاطع أن دروب عودتها المالية والسياسية إلى لبنان مقطوعة حاليا للأسباب نفسها التي يجاهر بها المجتمع الدولي.

هنا لم يجد الحريري سوى إعلان غضبة سنية البارز فيها إنها لا تستند سوى على المحلي، وكأن هذا المحلي يصنع نفسه بنفسه، وليس مجرد انعكاس لما يجري في المنطقة.

تراه يعلن في لحظة أنه لن يتعاون أو ينفتح على بشار الأسد في حين أنه في ظل العهد الذي جاء به  نال رجال الأسد ومموليه الجنسية اللبنانية، وتحول البلد الى مبيض لأمواله، ومسرح لتلقي العقوبات الدولية بسببه وبسبب حزب الله صاحب حكومته ومنتجها.

وهكذا فإن الحريري ليس سنيا بقدر كونه سعديا، وحتى أنه ليس حريريا إذا قسنا منطقه على عناوين الحريرية العريضة كما أرساها والده، فالحقيقة أنه لا يؤمن سوى بسعد ولا يزال ينحى في سلوكه منحى الشخصنة المستقى من التجربة السعودية

عندنا استفاقت المنطقة من سرير العاطفة وجدت نفسها أمام بلد ليس سوى منظومة أمنية إيرانية، يُعد سعد الحريري جزءا منها مباشرة أو غير مباشرة

السابقة في الوقت الذي غادرت فيه السياسة السعودية بشكل عام هذا التوجه الذي كان سائدا، واتجهت نحو تركيب سلوك مؤسساتي يسعى إلى بناء دولة تبني علاقاتها مع العالم على أساس المصالح لا العواطف، وكذلك تفعل كل دول المنطقة.

نستنج من ذلك أن علاقة السعودية وعلاقة العالم مع البلد كانت علاقة عاطفية في عمقها وجوهرها، وتاليا فإن ما أصابها هو نفس ما يصيب العلاقات العاطفية البحتة، من ملل وتآكل، في حين يبقى خطاب المصالح صلبا ومستمرا.

عندنا استفاقت المنطقة من سرير العاطفة وجدت نفسها أمام بلد ليس سوى منظومة أمنية إيرانية، يُعد سعد الحريري جزءا منها مباشرة أو غير مباشرة، ولكنه قرر الآن مواجهتها، بينما نعلم أن عودته المنتظرة والمتوقعة على رئاسة الحكومة لا تعني سوى انتصار جديد لحزب الله.

من هنا نفهم أن ما يظهر حاليا بوصفه التفافا سنيا حول الحريري لا يضمر في عمقه سوى الخوف على ضياع موقع تكمن وظيفته في تأمين العيش اليومي، ما يعني أنه غير مفصول عن الهم العام للثورة التي يسعى حزب الله ومن معه الى اختراقها بحسان دياب وغيره من ذئاب المتسلقين.

 كل هذا السياق يقود في نهاية المطاف إلى الاستنتاج إلى أنه في ظل المواجهة المفتوحة ضد إيران في المنطقة، فإن الحرب عليها لن تكون عبر الحريري ولكن عبر ثورة شكل السنة عمادها، ونجحت في وضع حزب الله في مواجهة مفتوحة مع مصالح كل اللبنانيين، وهي ثورة يرجح أن تتجدد وتتمكن معالمها مع الموجة القادمة من الانهيارات الأكيدة.