icon
التغطية الحية

ليلة فيينا.. أمين معلوف وحفيده

2020.11.08 | 11:01 دمشق

2020-11-04t164828z_1345983481_rc2gwj9qjzjf_rtrmadp_3_austria-attack.jpg
إسطنبول - مالك داغستاني
+A
حجم الخط
-A

في معرض البحث عن تفسيرٍ لأسباب الصراع الدامي الذي شهدته الجزائر، في فترة ما بات يعرف بالعشرية السوداء نهايات القرن الماضي، بين النظام العسكري والإسلاميين، يقول أمين معلوف في كتابه الهويات القاتلة "إن ما أعترض عليه هو ما درجت عليه العادة، من تصنيف كل حدث يقع في بلد إسلامي في خانة الإسلام، بينما هناك عوامل أخرى عديدة ومتداخلة توضح ما يحدث بشكل أفضل، فبإمكانك أن تقرأ عشرة مجلدات ضخمة حول تاريخ الإسلام منذ نشأته دون أن تفهم ما يحدث في الجزائر.

لكنك ستفهم أفضل بكثير لو أنك قرأت ثلاثين صفحة حول الاستعمار". معلوف أراد القول بأنك لو حاولت تفسير هذا الصراع بدلالة أو بالاعتماد على فهم الدين الإسلامي بمختلف مذاهبه فإنك تبدأ من المكان الخطأ مما سيؤدي بك إلى التفسير الخطأ وبالتالي السير في الحلول التي لن تجدي.

تتحدد مواقف نخب المنطقة مما يجري في الأسابيع الأخيرة من جرائم ضد مدنيين في عواصم أوروبية، كما كان يحدث غالباً، بين حدّين متنافرين، تنوس بينهما بعض الأفكار الباردة، والتي لا يطرب الغالبية لسماعها. طرف يرى أن إدانة العنف الإسلامي أو الإسلاموي ومجابهته واجبة بكل الوسائل دعماً للمجتمعات التي تتعرض لهذه الجرائم بدون أية تأتأة وبدون "ولكن" التي تُساق بعدها المبررات التي يمكن أن تكون أوصلت إلى تلك الكوارث.

وعلى النقيض هناك المعتقدون بأن هذه المجتمعات تدفع ثمن الظلم التاريخي الذي أوقعته بالمسلمين، وأكثر من ذلك هناك من يهلل لتلك الجرائم ويرى أنها تشفي "صدور القوم المؤمنين"، دون اعتبارٍ ( ولو مصلحيّ) لملايين البشر من المسلمين في تلك الدول، الذين يمكن أن يدفعوا أثمان باهظة، فيما لو تم تعديل قوانين اللجوء في تلك الدول، وهذا لو حدث سيكون التوطئة لظروف وربما إجراءات تاريخية أكثر سوءاً وقسوة. الـ "لكن" المكروهة التي يرفضها الطرف الأول (وهو محق في استنكارها لحظة الجريمة) قد يكون بعده وفيها المجال الأوسع للنقاش والبحث عن المخارج.

معلوف أراد القول بأنك لو حاولت تفسير هذا الصراع بدلالة أو بالاعتماد على فهم الدين الإسلامي بمختلف مذاهبه فإنك تبدأ من المكان الخطأ

يكرر يساريو اليوم وأغلبية العلمانيين ما كان يفعله الإسلاميون قبل نصف قرن، حين كان الإرهاب لدى الغرب مقترناً باليساريين وكان الإسلاميون يجارون الغرب بل ويسبقونه في مواقفهم من اليسار الشيوعي (الكافر) والإرهابي، ويساريو تلك المرحلة كما إسلاميو اليوم كان بينهم كما نعلم مقاتلون عالميون لا تحجزهم حدود الدول، ويمكننا، مع قليل من التردد بالتوصيف، القول إنهم كانوا "جهاديي" تلك المرحلة. اليوم، اليساريون هم من يسابقون الغرب أحياناً في إدانة الإرهاب الموسوم بالإسلام.

بالعودة إلى الهويات القاتلة (عنوان الكتاب كان صادماً حين صدر عام 1998). يعقد معلوف مقارنة تاريخية بسيطة فيتحدث عن مدينة إسطنبول في القرن التاسع عشر، وهي العاصمة الإسلامية الأولى والأقوى حينها، وكيف ضمت وتعايش في جنباتها اليونانيون المسيحيون والأرمن واليهود وكانت نسبتهم قياساً إلى المسلمين مرتفعة، في حين لم يكن من الممكن في تلك الفترة تصور أن تضم لندن أو باريس أو برلين وتتعايش مع نسبة مماثلة ولا حتى أدنى من المسلمين.

ويضيف بأنه بينما استطاعت عائلته المسيحية العيش أربعة عشر قرنا في بلد كلبنان محاطة ببيئة إسلامية (لم تكن تخلو من المنغّصات)، فإنه مرت مراحل في التاريخ أبيد فيها المسلمون واليهود في إسبانيا، بل وكان من المستحيل وجود أي شخص يتبع كنيسة مختلفة في إنكلترا، ليصل إلى استنتاجه بأن الحركات الأصولية ليست وليدة التاريخ الإسلامي ولا حتى العقائد الإسلامية، بل هي وليدة عصرنا واضطراباته وتشوهاته وممارساته وخيباته. فجميع الأديان مرّت في تاريخها بين الحدّين النقيضين، حالة التسامح وقبول الآخر المختلف، وحالة العصبية للهوية واعتبار الآخر تهديداً وجودياً. ولا دين سينجو في كامل تاريخه من الاتهام بجرائم الإبادة. مع أن الأديان لا تتغير كعقيدة ونصوص، وإنما يتغير متّبعوها ومعتنقوها وتتغير ظروفهم.

الـ "لكن" الكريهة والمستنكرة في لحظات الجريمة، هي ذاتها الجديرة بالبحث والتقصي في اللحظات الباردة لمحاولة تفسير ما يجري، وفي تفسير العنف الناتج عن الهوية، وهذا أمر يحتاج لعقود، لو كنّا متفائلين. اليوم في المجتمعات الإسلامية هناك تيّاران في البحث عن الحل، أحدهما يدعو لتبخيس هذه الهوية التي تنتج كل هذا العنف والتبرؤ منها نهائياً وهو الأقل، والثاني النقيض يدعو للتمسك بها والإخلاص لها ولرموزها المستندة إلى تاريخ يمتد قروناً بكل ما حملت من تشوهات أصابتها بسبب الظروف المتبدلة، والأدهى الدعوة لفرضها على الآخر الذي يهددها. هنا لن يعود مهماً إن كان هذا التهديد حقيقياً أم مُتخيّلاً في ذهن أصحابه، فالمهم هو تكوّن هذا الشعور الجمعي بالتهديد. ما بين هاتين الدعوتين غالباً صوت العقل ضائع أو غير مسموع وهو الخاسر راهناً.

يذكر معلوف فكرة بالغة الأهمية محدداً موقفه منها فيقول "ما أناضل ضده، وسأناضل دائماً، هي تلك الفكرة التي تقول بأن هناك ديانتين متقابلتين، ديانة مسيحية معنية دائماً بنقل الحداثة والحرية والتسامح والديمقراطية، وديانة مسلمة مكرسة منذ البدء للتسلط والظلامية. إنه أمر مغلوط وخطر ويجعل كل مبادرة مستقبلية، بالنسبة لجزء كبير من الإنسانية، قاتمة".

معلوف محق، فلا المسيحية كانت على هذا النحو في كامل تاريخها، وكلنا يعلم أنها ارتكبت على يد معتنقيها أبشع الجرائم في العديد من المحطات، ولا الإسلام كان الوجه المقابل دائماً. الإسلام بكل بساطة كغيره من الديانات والعقائد اتّسم في كل عصر بطوابع الزمان والمكان. ولا يحتاج الأمر منّا سوى وضعه على محور الزمن ودراسته لنكتشف هذه البديهية. فليس هناك من حكمٍ نهائي على دينٍ ما، بمعزلٍ عن الظرف التاريخي الذي يعيشه معتنقو هذا الدين. هذا الظرف هو من سيذهب بالدين ومعتنقيه إلى ما يرتسم في الواقع المُعاش.

"صراع الحضارات" اليوم محتدم سواء وافقنا على هذا المصطلح أو رفضناه، وقد يكون من المجدي اليوم أكثر، البحث عن مُسعّري هذا الصراع، وتسليط الضوء على استثمار القوى السياسية والدول أيضاً في الانتماء الديني والطائفي. هذه القوى التي تحاول جعل جمهورها يسير في ركبها دون أن يدري أنه يسير خلف مصالح تلك القوى، وليس خلف مصلحته لا الشخصية ولا الوطنية ولا حتى الدينية.

والسؤال الأهم الذي يجب الإجابة عليه هو عن كيفية تحويل أفكار كهذه إلى ثقافة شعبية. فمن هنا يمكن بدء البحث عن موطئ قدم في الحاضر والمستقبل لتقديم ما هو صالح للعيش ومواكبة بل والانخراط في الحداثة والسير في ركابها، وليس بالضد منها، ولا محاربتها اعتماداً على توكيد ذاتٍ ماضوية، وهذا ما لن تفيد به الأبحاث النخبوية راهناً. إنه رهان تاريخي معقد وطويل المدى. رهان سياسي بالدرجة الأولى وليس عقائدي.

كان حلم أمين معلوف، الكاتب الفرنسي من أصول لبنانية، وهو ينهي كتابه، أن يكتشف حفيده يومًا ما الكتاب، الذي يسهب في شرح الصراع على أساسٍ هويّاتي، بالصدفة في مكتبة العائلة، فيتصفحه ويقرأ بعض صفحاته، ثم يعيده فورًا إلى الرف المليء بالغبار، مستخفًا ومندهشًا للحاجة إلى قول هذه الأمور في الزمن الذي عاش فيه جده.

للأسف لم تسر الأمور كما تمنّى معلوف، والاعتقاد الأرجح أن حفيده اليوم وهو يتابع ما يحدث في باريس أو فيينا، سوف يحسد جدّه على نظرته الرومانسية، بل وعلى الزمن السمح الذي عاشه هذا الجدّ الطيّب عندما ألّف كتابه نهايات القرن الماضي.

كلمات مفتاحية