ليلةٌ عنيفةٌ في المعتقل السوري في سالونيك!

2022.10.01 | 06:01 دمشق

ليلةٌ عنيفةٌ في المعتقل السوري في سالونيك!
+A
حجم الخط
-A

لم يكن من السهولة الوصول إلى أحد المعتقلات السورية في سالونيك، وهي شقق استأجرها سوريون يعملون في حقل التهريب ليبيت فيها سوريون متعبون من المرحلة الأولى في رحلة تهريبهم، على طريق الوصول إلى أوروبا. ويُعَدُّ الوصول إلى هذه المحطة أحد مؤشرات تجاوز أصعب خطوات رحلة التهريب، لأنه من يتم القبض عليه قبل الوصول إلى سالونيك، سيعاد إلى تركيا بالتأكيد، وهذا يعني انتظاراً جديداً ومحاولةً جديدة وخسائر مادية جديدة، وأسئلة أهل وأصدقاء لا تنتهي.

وهناك من يرى أن هذه المعتقلات التي تسمى بيوتاً للسكن هي أبعد ما تكون عن ذلك، على مستوى الخوف واستغلال الحاجة، قد لا تختلف كثيراً عن معتقلات سلطات الأمر الواقع في سوريا!

يصل السوريون إلى تلك البيوت ليسارعوا بفك "التشْييك"، لأن مكتب التشييك تعهَّد في الاتفاق الشفوي الموثق عبر الواتساب بينه وبين كل من المهرب والراغب باللجوء أن فك تشييك هذه المرحلة من اللجوء (إسطنبول - سالونيك) سيتمُّ بعد وصول فيديو من الشخص المشيِّك، من سالونيك. وبالتالي سيستلم المهرب المبلغ المتفق عليه وهو يتراوح بين ألفين وخمسمئة إلى أربعة آلاف يورو، ومستثمر تلك الشقة/ المعتقل هو جزء من سلسلة خدمة التهريب، وبعض المهربين يستأجرونها ويشغلون عمالاً يديرونها.

كنتُ قد وصلت إلى سالونيك بالطائرة من هولندا، بعد أن سمعت مراراً بهذه المعتقلات، يضرب بي بين فترة وأخرى عِرق الصحافة الاستقصائية الذي أحبه، وهو يتقاطع مع البحث العلمي الميداني بالآليات، ويفترق عنه في أنه يتناول موضوعات حارة، أما البحث العلمي فموضوعاته وطريقة تناوله باردة.

أقنعت "المسحِّب" أبا عمار، بضمي إلى قافلته، بعد أن رفض اثنان قبله، وكانت حجتي أنني نتيجة تقدمي في العمر لم أستطع أن ألتحق بقافلتي الأساسية، التي كنت فيها من إسطنبول إلى سالونيك، وأنني خائف وجائع.

المسحّب، هو دليل الطريق من مكان الوصول في سالونيك إلى البيت المقصود الذي اتفق معه المهرب، وهو غير "الريبري"، لأن الريبري يعمل في الغابات وخارج المدن

وجدتُ نظرة تعاطف في عيني أبي عمار، وقبل أن يلعب الفأر بعبّه قلت: إنني مستعد أن أدفع له مئة يورو بدلاً من الثلاثين يورو التي اتفق فيها مع كل فرد من أفراد القافلة. وافق مباشرة، وأخذ يمشي أمامنا مستكشفاً الطريق، إلى أن وصلنا إلى الشقة. حيث استقبلنا أبو عبدو حاملاً عصا في يده، يحثنا على سرعة الدخول، ثم أقفل الباب علينا، وأخبرنا أنه سيعود بعد نصف ساعة، ليصور الفيديو. وحين عاد صوَّر كل منا بالترتيب وقوفاً المقطع الخاص به، وقلت: إنني شَّيكت عند مكتب ذكرت اسمه، إذ سبق أن "شيَّك" عنده عدد من أقاربي.

المسحّب، هو دليل الطريق من مكان الوصول في سالونيك إلى البيت المقصود الذي اتفق معه المهرب، وهو غير "الريبري"، لأن الريبري يعمل في الغابات وخارج المدن. أما المسحّب فعمله في المدينة، وقد اختير هذا الاسم له لأنه يمشي بطريقة يحاول ألا يظهر فيها أن له علاقة بالقافلة التي تتبعه، وغالباً لديه ثبوتيات تحميه.

طلب منا أبو عبدو أن نتخلص من ملابسنا إذ سيحضر ملابس جديدة بعد قليل، لأن ملابسنا متسخة، وسألنا عن مقاسات أقدامنا ليحضر أحذية لنا. لم تكن طريقة أسئلته أنه يخيِّرنا، بل هو لديه آلية عمل يجب أن نلتزم بها.

وما هي إلا دقائق حتى حضر أبو عبدو ومعه أحذية لكل منا، طالباً أن يدفع كل شخص ثلاثين يورو، وكذلك عشرين يورو ثمناً للباس، وعشرة يوروهات ثمناً للسندويشة، وثلاثة يورهات ثمناً للشامبو والصابون، ومن يريد "ليفة" فعليه أن يدفع خمسة يورهات، أما الشاي فمجاني، في حين فنجان القهوة ثمنه يوروان. كان حذائي الذي أجبرني أبو عبدو على التخلي عنه، أكثر جودة من الحذاء الجديد، لكن من سيجرؤ أن يعترض على أوامره، وقد زيَّن خصره بمسدس، وكان يحمل عصا غليظة، سيسلمني للشرطة، ربما! حاولتُ أن أقرأ روح مقاومة عند رفاقي، لكن يبدو أن مخاطر الرحلة وخوفها وجوعها قد سحب منهم أي بادرة مقاومة، فاستسلمت لأوامر أبي عبدو، غير نادم.

هدّ أولئك الشباب أسبوعان أو ثلاثة من التعب والقلق والانتظار والهلع، وصار الخوف جزءاً من حركاتهم. تعرفتُ ليلاً إلى حكاية كل منهم، ومن ينتظره في سوريا: هذا باع أهله قسماً من أرضهم، وهذا رهن بيته لدى المهرب، وآخر باعت أخواته ما يملكن من ذهب، وآخر ينتظره طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة، وآخر تنتظره حبيبة وجدتْ فيه مخلصاً لها من قسوة زوج أمها.

لا يتجاوز معظم أولئك الشباب الخمسة وعشرين عاماً، بعد أن سألوني عن اسمي أخذوا ينادونني بالعم أبي شهاب، أعادوني إلى مرحلة من عمري، حيث كان في منطقة الفرات من اسمه أحمد يكنى بأبي شهاب، ومحمود: أبو شكور، وعلي: أبو حسين..

حين يقول أبو عبدو إن الشرطة بالقرب من السكن، يغدو الصمت سيد المكان، يلتفّون على بعضهم وتشخص عيونهم إلى الأعلى، يرجون قوة سماوية تنقذهم. ليس لدينا دليل على تصديق أبي عبدو، وهل الشرطة قريبة حقاً، أم رغبته في مزيد من الابتزاز؟ ما كان الجميع متأكدين منه أنه لو جاءت الشرطة فستعيدهم إلى الحدود التركية، وسيذهب المال والتعب والجوع والخوف مجاناً.

تسمع هاهنا في هذا الجزء من الطريق وجوهاً أخرى للمأساة السورية، لا يتحدث المهرب حين تتفق معه في إسطنبول أو مع أحد وكلائه عن مرحلة الربط بين مراحل الطريق والمصروف الشخصي الذي قد يصل إلى ألف يورو. وحين تشتكي للمهرب من أبي عبدو، لا يكترث بذلك!

يمر الوقت بطيئاً في ما يدعى بشقة أبي عبدو، فيما رسائل الواتس أب القادمة من الأهل تشجع على الخطوة التالية، هذا أهله لم يعودوا يملكون شيئاً، وهذا يشتكي من تغير الزمان، وأن أقاربه الذين طلب منهم المساعدة في ألمانيا يهملون رسائله، وآخر يشتكي من أخلاق السوريين، يبرز صراع بين صاحب الحاجة، وقد قالت عنه العرب إنه أرعن وكذلك هاهنا خائف، وبين من هو مستقر في بلد آخر ولديه برامجه الحياتية، إضافة إلى مشكلة توصيل النقود إلى سالونيك، أو تشييكها في إسطنبول، وكلها تحتاج إلى مراحل، في حين يدير أبو عبدو شؤون الحوالات والاتفاقات عبر الواتس أب، ويبدو أن لديه حسابات مفتوحة معهم، وكل عملية له نسبة منها.

همس قتيبة في أذني: لن يسمح أبو عبدو بالانتقال إلى مرحلة (سالونيك إلى صربيا) أن تبدأ قبل أن يحصل على مئتي يورو عن كل شخص على الأقل، أجرة ما يقدمه من خدمات، في تلك الشقة التي تتكون الشقة من غرفتين وحمام ومطبخ وتواليت، ويبلغ عددنا ستة وعشرين شخصاً.

رووا لي حكايات زملاء لهم، مروا بظروف نفسية وجسدية صعبة، منهم من كسر رجله، وآخر جرح إصبعه جرحاً بليغاً، ليضمنوا أنه لن يعيدهم الجيش اليوناني إلى الحدود التركية؛ فيتمّ إسعافهم إلى المشفى ويتم تسجيلهم رسمياً، غير أن الجيش لم يكترث بذلك، وأعادهم بأوجاعهم.

قسَّمنا أبو عبدو عند الفجر إلى قسمين، قسم أنهى التزاماته المالية تجاهه، وقسم ينتظر. وقال: لديكم مهلة للغد، من لا يؤمِّن نقوداً سأسلمه للشرطة!

أخبروني أن طريق التهريب يديره أشخاص؛ خائبو رجاء، أو مدمرون نفسياً، أو راغبون بالثراء السريع، اكتشفوا أن جمع النقود سهل، رغم مخاطره الكبيرة. أرادوا أن يعوضوا ذلك الجزء الذي ذهب من عمرهم هدراً، يوم كانت أجرتهم اليومية في ورش الخياطة في "غازي باشا" التي تعادل ثمن سندويشة من سندويشات أبي عبدو.

قسَّمنا أبو عبدو عند الفجر إلى قسمين، قسم أنهى التزاماته المالية تجاهه، وقسم ينتظر. وقال: لديكم مهلة للغد، من لا يؤمِّن نقوداً سأسلمه للشرطة! احتج أحد الشباب، فتعارك معه، وناصره آخرون، فأقسم أبو عبدو أنه سيتصل بالشرطة، هجموا عليه وأخذوا الموبايل من يده، ليمنعوه. أخذتُ دور المصلح، معولاً على شيب ذقني، لكن الأوان فات، فقد صرخ أحد أبنائه من خارج الشقة بأنه اتصل بالشرطة، خوفاً على والده، الذي كان قد صرخ غير مرة، لا تقتلوني، لا تقتلوني! وكأنه يرسل "كودا" إلى ابنه.

بعد دقائق، كانت سيارات الشرطة تملأ المكان، وأخذ أبو عبدو يقسم أنه إنْ دفعنا له مئة يورو عن كل شخص؛ فإنه سيحلها مع الشرطة!

لكن من سيثق به بعد الذي حصل؟ حين سمعنا صوت أقدامهم على الدرج، كسر الشباب الشباك ونططنا جميعاً من الطابق الأول إلى الأرض عبر أشجار الحديقة، أو الشرفة، وهرب كل منا في اتجاه.

ألغيتُ خططي بالبقاء في سالونيكا، فالمدن التي يتعرض فيها السوريون للقسوة تنفرني منها. ونسيتُ أن اسمها "ثالونيسيكي" وهي الأخت غير الشقيقة للإسكندر الأكبر، وقلت: مدينة تدمر كذلك لها رمزيتها، لكن حافظ الأسد بنى فيها سجناً كبيراً، ارتكبت فيه إحدى أبشع المجازر في تاريخ سوريا.