لهذه الأسباب تراجعت ثقة الإسرائيليين بجيشهم

2022.02.04 | 06:31 دمشق

whatsapp-image-2017-03-21-at-17.41.33-640x400-1-640x400.jpeg
+A
حجم الخط
-A

كشفت الأسابيع الأخيرة عن ظاهرة جديدة بين الإسرائيليين تمثلت بتراجع ثقتهم في جيشهم، اعتبرتها أوساط عسكرية نافذة بأنها "مقلقة"، رغم أنها لا ترفضها، ولا تنكرها، لكنها تحاول "التستر" خلفها بالحديث أن هذه الظاهرة تشمل تدهورا عاما في ثقة الجمهور بمؤسسات الدولة: السياسية والأمنية والحزبية والبرلمانية، وهو ما أظهرته الاستطلاعات الأخيرة.

جملة من المعطيات التي يعتبرها الإسرائيليون مصدرا لهذه النتائج "المقلقة"، تتعلق بظروف خدمة الجنود في القواعد العسكرية، ونقص الطعام في الوحدات، واكتظاظ وسائل النقل، وقبل ذلك وبعده نتائج المواجهات العسكرية التي خاضها الجيش مع المقاومة الفلسطينية، خاصة في غزة، والأداء "المتواضع" الذي قدمه أمامها، وعجزه عن توجيه الضربة القاضية لها.

أمام هذه المؤشرات يبدو مطلوبا وفق المحافل الإسرائيلية إجراء تحليل معمق لأسباب هذا الاتجاه المتراجع في نظرة المجتمع لجيشه، بعد أن كشف مسح أجراه معهد الديمقراطية أنه لسنوات عديدة حظي بثقة عالية، أو عالية جدًا من 90٪ من اليهود في إسرائيل، فما الذي تغير بظهور نتائج جديدة تظهر انخفاضًا حادًا يصل 78٪ فقط، قالوا إن ثقتهم في الجيش كانت عالية أو عالية جدًا. 

يرجع بعض الإسرائيليين هذه الظاهرة بشكل رئيسي إلى المنشورات المستمرة حول مسائل داخلية تخص ظروف خدمة الجنود، ورغم أن لها مساهمة في تدهور هذه الثقة، لكن الإسرائيليين سيخطئون، ويجانفون الحقيقة، إذا لم ينظروا عن كثب إلى المصادر الرئيسية للمشكلة من وجهة نظرهم، وتكمن في الأسباب والدوافع بعيدة المدى، لاسيما ما شهدته الآونة الأخيرة من نقاشات حول الميزانية المقترحة للجيش الإسرائيلي خلال أزمة كورونا، وما سببته من خسائر اقتصادية هائلة.

تثير هذه النتائج اللافتة أسئلة ثقيلة حول دور الجيش في الخطاب الإسرائيلي العام، خاصة أن السنوات الأخيرة شهدت انخفاضًا مستمرًا في الروح القتالية لدى جنوده، بجانب الزيادة في توجههم نحو الخدمة في الوحدات التكنولوجية والاستخبارية التي لا تكلفهم أرواحهم، ولا تحمل مخاطرة على حياتهم، رغم أن قادة الجيش يسعون لتوسيع مفهوم "المحارب"، وتطبيقه على الأقسام التكنولوجية أيضا، وهذه محاولة "وهمية" لتغطية الانسحاب التدريجي لجنودهم من وحدات سلاح المشاة والعمليات الخاصة.

عبثاً يحاول كبار الضباط التغطية على هذه الحقيقة "المؤلمة"، التي لا تحمل بشرى سارة لقيادتهم العسكرية، بالزعم أن الجنود "المقاتلين" ليسوا فقط من يتعرضون للأذى والقتل بنيران العدو في الحرب أثناء خدمتهم العسكرية، لكن أيضًا من يجلسون على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، ويُطلق عليهم "المحاربون السيبرانيون"، ومن يديرون بطاريات القبة الحديدية، ويُطلق عليهم "مقاتلو الدفاع الجوي".

في الوقت ذاته، يمكن إعادة تراجع الثقة المذكورة في الجيش بما يعرف في إسرائيل بـ"تآكل" الروح العسكرية الحربية داخل الجيش، والرغبة في التشابه مع شركات التكنولوجيا الكبرى التي تدفع قادته للبحث عن حلول عسكرية وعملياتية في المؤسسات المدنية، مع إهمال الأدبيات العسكرية الأساسية، والتخلي عن أسس المهنة العسكرية، كالحديث عن دور الروبوتات القتالية بديلا عن الجندي البشري في ساحة المواجهة، وما يعنيه من زيادة في التكنولوجيا لدى هيئة الأركان العامة.

بجانب هذه الأسباب يظهر الانخفاض في المهام التدريبية داخل الجيش، بشكل غير ذي صلة بعقيدة الحرب القتالية، وإهمال العقائد العسكرية، ومع مرور الوقت نشأ التنافر بين الجيش والمجتمع بعد أن شكل لعقود طويلة ما يمكن تسميته "البقرة المقدسة".

هذا الوضع يشبهه الإسرائيليون بما حصل من عملية مماثلة للجيش الأميركي عقب حرب فيتنام، مما جعل المجتمع ينظر للجيش تدريجيا كما لو كان شركة تجارية، ويتصرف معه وفقًا لقواعد هذه الشركة، ولذلك لا عجب أن المجتمع الإسرائيلي، الذي يعمل وفقًا لقواعد السوق، قد يتعامل مع الجيش على أنه عمل تجاري، ليس أكثر، بعيدا عن المفاهيم الصهيونية الأيديولوجية.

في مسألة قد لا تبدو ظاهرة للعيان أمام غير الإسرائيليين، ويمكن منحها حيزا لا بأس به في الحديث عن تراجع ثقتهم بالجيش، تتعلق بالأموال التي تنفق عليه، خاصة على كبار ضباطه، بالتزامن مع ما عاناه الإسرائيليون، ولا زالوا، خاصة أصحاب الأعمال الصغيرة والمتوسطة الحجم خلال أزمة كورونا التي لم تنتهي بعد، حيث يتمتع ضباط الجيش بظروف أكثر سخاء من الناحية الاقتصادية، صحيح أنه ليس هناك من يجادل بين الإسرائيليين بأن الجندي والضابط يتحملون عبء "حماية" الدولة من الأخطار الخارجية، خاصة في ظل التهديدات المعقدة والصعبة التي تعانيها إسرائيل، لكن ذلك لا يعني منحهم "شيكا على بياض".

من الصعوبة بمكان أن نغادر الحديث عن أسباب تراجع ثقة الإسرائيليين بجيشهم دون التطرق إلى السبب الأهم لعله، حتى لو أخرناه إلى النهاية، وهو اختلال صيغة العقد القائم بين الجيش والمجتمع في إسرائيل، ومفاده أن الجيش يشكل بوليصة تأمين للدولة، ولهذا الغرض يتلقى أفضل القوى البشرية والموارد على أمل أن يوفر الأمن المطلوب للإسرائيليين عند الحاجة.

لا شك أن الاقتصاد الإسرائيلي مر بفترة صعبة بسبب تفشي وباء كورونا، حتى أصبحت إسرائيل الدولة الأولى في العالم في انتشاره مقارنة بعدد السكان، وتمثل ذلك بالخسائر التجارية، وتزايد معدلات البطالة، وإغلاق الشركات، ولكن بدا للإسرائيليين أن جيشهم يعمل بشكل منفصل عنهم، ودون اعتبار لضائقة الميزانية التي تواجهها الدولة خلال موجة كورونا، وهذا السلوك لا يمنح الجيش مزيدا من ثقة الجمهور، على العكس من ذلك، بل "يقضم" منها.

معطى آخر ساهم بتراجع ثقة الإسرائيليين في الجيش، ويتعلق بـ"البعد الاجتماعي"، ففي عملية طويلة ومتواصلة، أنشأ الجيش طبقات اجتماعية بين ذوي "الياقات الزرقاء والبيضاء"، من داخل وحداته العسكرية، وهي مسألة داخلية تخص أعضاء المحيط الاجتماعي والجغرافي للجنود، ممن يسكنون داخل الوحدات القتالية، وأعضاء الفئات العليا، ومن يعملون بوحدات التكنولوجيا والاستخبارات.

يرتبط هذا الأمر بالخطاب المتزايد حول الانتقال إلى "جيش الموظفين" الذي يؤدي لتآكل الدعم لنموذج "الجيش الشعبي"، مما يضر بالعلاقة بين الجيش والمجتمع في إسرائيل، مع أن خريجي الوحدات التكنولوجية والسيبرانيين يتمتعون بميزة كبيرة في بناء مستقبلهم المهني بعد انتهاء الخدمة العسكرية، أما جنود الوحدات القتالية، فبعد تسريحهم من الجيش يبدؤون العمل في ظروف سوق متدنية، وهذا التقسيم الطبقي يزيد من تدهور سمعة الجيش بين الإسرائيليين، لأن الخدمة العسكرية تحولت مع مرور السنوات إلى مقدمة لتأسيس التقسيم الطبقي الاجتماعي، وتنعكس هذه الحقيقة بشكل مباشر على نوعية قيادة الجيش الإسرائيلي. 

من الصعوبة بمكان أن نغادر الحديث عن أسباب تراجع ثقة الإسرائيليين بجيشهم دون التطرق إلى السبب الأهم لعله، حتى لو أخرناه إلى النهاية، وهو اختلال صيغة العقد القائم بين الجيش والمجتمع في إسرائيل، ومفاده أن الجيش يشكل بوليصة تأمين للدولة، ولهذا الغرض يتلقى أفضل القوى البشرية والموارد على أمل أن يوفر الأمن المطلوب للإسرائيليين عند الحاجة، لكن الحرب الأخيرة في غزة المسماة "حارس الأسوار" في مايو 2021، شكلت مثالاً صارخا على تبدد هذا العقد، من خلال محاولات قيادة الجيش إقناع الجمهور بأن نتائج العملية وسلوك الجيش أتى ممتازاً، لكن نتائج الحرب عمليا أتت متواضعة!

الجمهور الإسرائيلي أدرك جيدا هذه الفجوة التي خلقت لديه أجواء من الريبة والشكوك بمصداقية الجيش، مما يعني تعبيد الطريق أمام اتجاه عام جديد عنوانه مزيد من فقدان الثقة به، لأنه تخلى عن الشفافية المطلوبة في حديثه مع الإسرائيليين، ولم يعد واضحا في تزويده بالإجابات المطلوبة على أسئلتهم، ومن أخطرها: كيف فشل هذا الجيش المدجج بأعتى أنواع الأسلحة في مواجهة عدد من الخلايا العسكرية في غزة المحاصرة؟