لن نعيد الأرض وسنفرض السلام

2023.12.06 | 06:54 دمشق

لن نعيد الأرض وسنفرض السلام
+A
حجم الخط
-A

لعل أهم حدث في مسار الصراع العربي الإسرائيلي كان حرب الأيام الستة حزيران 1967م، فهو عدا عن كونه ضاعف مساحة إسرائيل ثلاث مرات خلال ستة أيام، وكان صادما للعرب وللإسرائيليين أنفسهم، ولم تعرفه الحروب في تاريخها، فإنه رسخ جملة أفكار داخل المجتمع الإسرائيلي، وحتى داخل المجتمعات العربية، لاتزال حاضرة في رسم سياسات التعامل مع منطقة الشرق الأوسط كلها.

أن تتمكن القوات الإسرائيلية من احتلال كامل سيناء، ومرتفعات الجولان، والضفة الغربية، والقدس الشرقية في ستة أيام، وتواجه جيوش دول عربية عديدة منها سوريا ومصر، فهذا أمر يصعب تفسيره، وهذا ما استغلته الصهيونية الدينية سواء داخل إسرائيل أو خارجها باعتباره دليلا على أن اليهود هم فعلا شعب الله المختار، وأنه – أي الله – هو من أراد ذلك.

هذه الفكرة التي روجت لها الصهيونية الدينية كثيرا، استثمر فيها ساسة اليمين الإسرائيلي، لتعزيز حضورهم في المشهد السياسي الداخلي، متجاهلين أن هذا التطرف سيضع المجتمع الإسرائيلي في مواجهة محيطه البشري، وأنه سيكون حاجزا حقيقيا أمام تقبل هذا المحيط لوجود إسرائيل.

كان يمكن لحرب تشرين 1973م أن تؤسس لحل سياسي دائم، خصوصا بعد توقيع مصر لاتفاقية السلام مع إسرائيل، لكن تعميم هذا الاتفاق وتمديده ليشمل مجمل ساحات الصراع كان سيحرم التطرف الصهيوني الديني من أهم مرتكزات خطابه، ووقفت رموز التطرف الدينية والسياسية ضد الوصول إلى اتفاقات شاملة لأنها رأت في سلام المنطقة نهاية لمعنى وجوهر وجود إسرائيل.

لم يسمح التطرف الإسرائيلي المتنامي داخل الدولة والمجتمع، حتى بأن يحظى اتفاق "أوسلو" المجحف بحق الفلسطينيين بأي جدية في التنفيذ على الأرض، وها هو بعد ثلاثين سنة من توقيعه لم ينفذ أي من بنوده، وأصبحت الدولة الفلسطينية مجرد سلطة هزيلة على مساحة صغيرة مكبلة باتفاقات أمنية، ويمكن لإسرائيل متى شاءت أن تمنع عنها كل مقومات الاستمرار، ولايزال القادة الإسرائيليون يفكرون جديا في نسف "أوسلو" وطرد الفلسطينيين من الضفة وغزة.

في ذروة هذه الغطرسة الإسرائيلية، وفي ظل تسارع العرب للاتفاق معها، جاء هجوم 7 أكتوبر 2023م ليقلب المعادلة تماماً، وليضع المنطقة كلّها أمام حدث هو الأخطر في تاريخ إسرائيل منذ نشوئها

تجاهل إسرائيل لكل القرارات الدولية، ولاتفاق "أوسلو"، وخرقها لكل القوانين والأعراف الدولية ما كان ليستمر لولا عاملين أساسيين أولهما هو التواطؤ الدولي، وثانيهما هو الانهيار التام في الموقف السياسي العربي الرسمي، وهذا ما أوصل إسرائيل إلى التخطيط لنسف كل فكرة عن قيام دولة فلسطينية وفق القرارات الدولية، ودفعها أيضا لنسف مرجعية اتفاق "أوسلو" ومعاهدة السلام مع مصر "الأرض مقابل السلام" وحفزها لتبني سياسة عنوانها الوحيد: "لن نعيد الأرض وسنفرض السلام".

في ذروة هذه الغطرسة الإسرائيلية، وفي ظل تسارع العرب للاتفاق معها، جاء هجوم 7 أكتوبر 2023م ليقلب المعادلة تماماً، وليضع المنطقة كلّها أمام حدث هو الأخطر في تاريخ إسرائيل منذ نشوئها، فما فعلته منظمة مسلّحة، لا تملك جيشاً منظماً، وهي محاصرة حتى بلقمة الخبز، وتعيش في مساحة صغيرة وبالغة الاكتظاظ، كان أمراً يشبه الصدمة الصاعقة، ويفوق في وقعه تلك الصدمة التي حدثت في حرب الستة أيام في حزيران 1967م، وبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع "حماس" ومرجعيتها، وطريقة إدارتها لقطاع غزة، أو مدى الاتفاق والاختلاف على مجريات وتفاصيل السابع من أكتوبر، فإن ما فعلته على الأرض أخرج القضية الفلسطينية من سيطرة المتطرفين الذين لا يعترفون بأي حق للفلسطينيين، وأعادها إلى دائرة الضوء بوصفها قضية احتلال، وبوصفها أزمة أخلاقية، وإنسانية وحقوقية كبرى أمام المجتمع الدولي.

يمكن قراءة الصدمة العميقة التي أحدثها هجوم 7 أكتوبر، من خلال ردّ الفعل المتوحش الذي مارسه ولايزال جيش إسرائيل بحق قطاع غزة، فحجم الرد، وتوحشه وهمجيته هو انعكاس لحجم الإهانة البالغة التي وجهها مقاتلو "حماس" للدولة الإسرائيلية وللجيش الإسرائيلي، والأهم للفكرة الأساسية التي يقوم عليها ويتغذى منها اليمين المتطرف، ويمكن قراءتها أيضا في فكرة تسليح المستوطنين واستباحتهم العنصرية الحاقدة للفلسطينيين في المناطق الفلسطينية خارج غزة.

تتوافر اليوم أهم المقدمات الضرورية لهزيمة التطرف الإسرائيلي، فالرأي العام العالمي، ودول كثيرة خرجت لتعلن عن رأيها بحقيقة دولة إسرائيل بصفتها دولة احتلال، وبصفتها دولة عنصرية، وتجتاح المظاهرات العارمة معظم عواصم ومدن العالم رافضة لتوحشها وإجرامها بحق الشعب الفلسطيني.

لم تستطع كل البروباغندا الإعلامية الإسرائيلية والأميركية الداعمة لها، أن تكسب معركة الرأي العام، لا بل هزمت فيها سريعاً، كما أن المقاومة المسلحة في غزة لا تزال بعد شهرين من بدء الحرب المجنونة عليها، قادرة على المقاومة وعصية على الانكسار، ولا تزال الأصوات الرافضة لهذه الحرب سواء داخل الكيان الإسرائيلي وخارجه في كل العالم، تتصاعد وتتصاعد.

هل يتقن العرب حكومات وشعوبا ولو لمرة واحدة البناء على هذه الفجيعة الفلسطينية التي ترتكب في غزة، واستغلال الوضع الدولي الراهن الذي يشهد صراعات أخرى كثيرة، لوضع حد للتطرف اليميني الإسرائيلي؟

نقطة الضعف الأساسية التي تمنع من فرض حل عادل لقضية الشعب الفلسطيني، تكمن في نقطتين أساسيتين:

الأولى، هي في ضعف الشعوب العربية، وعجزها وعدم قدرتها على الضغط على حكومات بلدانها، والثانية، هي في النظام الرسمي العربي، فهذا النظام يمكنه اليوم الضغط على وقف الحرب، وعلى إرغام الحكومة الإسرائيلية على احترام القوانين الدولية والاتفاقات الدولية، لكنه ظل حتى اللحظة يتلطى خلف قضايا المساعدات وحماية المدنيين، دون أن يحاول التقدم خطوة واحدة باتجاه استعمال عناصر القوة التي يملكها، وهو ما تفرضه إسرائيل وأميركا على هذا النظام.

هناك سباق مع الزمن، والظروف التي نشأت بعد 7 أكتوبر قد لا تتحقق إلا بعد زمن طويل، والرأي العام يقف في لحظة تاريخية فارقة إلى جانب الحق الفلسطيني، وتشكل اليوم قضيته الأولى، فهل يتقن العرب حكومات وشعوبا ولو لمرة واحدة البناء على هذه الفجيعة الفلسطينية التي ترتكب في غزة، واستغلال الوضع الدولي الراهن الذي يشهد صراعات أخرى كثيرة، لوضع حد للتطرف اليميني الإسرائيلي وفرض الاحتكام إلى القرارات الدولية للوصول بالشعب الفلسطيني إلى حلمه بدولة مستقلة؟