لم يصدق أحد هذه الرواية الركيكة باستثناء ترامب

2018.10.22 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بعد 17 يوماً على اختفاء الصحافي المغدور جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، صدر "الشرح" السعودي الرسمي لهذا "اللغز" باعتراف صريح بمقتله داخل القنصلية. هذا يعني أن مؤسسة الحكم لم تكن تعلم، قبل ذلك، ما الذي حدث للرجل، لفرط انشغالها برد الاتهامات "الظالمة" بحق المملكة. ثم اكتشفت، فجأة، أن الاتهامات لم تكن ظالمة، بل في محلها. فالرجل مات قتلاً داخل جدران القنصلية التي تمثل، رمزياً وعملياً، مؤسسة الحكم المذكورة.

ترافق الاعتراف السعودي الرسمي بمقتل الرجل، مع أخبار، رسمية أيضاً، عن توقيف 18 شخصاً مشتبه بضلوعهم في قتل خاشقجي، وإعفاء اثنين من كبار المسؤولين الأمنيين والسياسيين من منصبيهما، واحزروا ماذا أيضاً؟ تكليف ولي العهد محمد بن سلمان بـ"إعادة هيكلة المؤسسة الأمنية"!. 

وحده الرئيس الأميركي دونالد ترامب صرح بأنه "يثق" بالرواية السعودية لمقتل جمال خاشقجي، في حين وجدها كل الآخرين، حكومات ومنظمات وأفراد حول العالم، متهافتة أو غير مقنعة أو أنها زادت الطين بلة كما يقال.

أمام هول الجريمة ووقاحتها وغبائها وبالنظر إلى ردود الفعل عليها في الرأي العام العالمي حتى ترامب نفسه اضطر أن يوحي للسعوديين بالرواية التي سيتم تبنيها

الآن، بعيداً عن الضجيج الإعلامي الكبير، وعن الكلام الكبير حول العدالة أو حرية الرأي والتعبير أو ضرورة معاقبة المجرمين، وإلى ما هنالك مما يدور في الرأي العام، نعرف جميعاً كيف "تمشي الأمور" في مثل هذه الحالات، بالنظر إلى سوابق كثيرة، وإن كانت جريمة قتل خاشقجي فيها الكثير من "التفرد". فالقائمون على حكم الدول، أو ما نسميها بالحكومات أو حتى الأنظمة، لا يتصرفون بعاطفية مع أحداث من هذا النوع، أو أي أحداث أخرى. بل يزينون الأمور بميزان السياسة، ويحددون مواقفهم بناء على معيار المصالح والمخاطر وموازين القوة.

وفقط بهذه المعايير. وهو ما لاحظناه، بأكبر وضوح ممكن، في تغريدات ترامب وتصريحاته الإعلامية بشأن قضية خاشقجي. فالرجل كان صريحاً منذ البداية في استبعاد تأثير الجريمة على العلاقات الثنائية الوثيقة بين البلدين. يسأله الصحافيون عن موقفه من مقتل خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، فيجيب "وبراءة الأطفال في عينيه": متمسكون بصفقة الـ110 مليار دولار! ويسألونه عما إذا كانت واشنطن بصدد فرض عقوبات على المملكة السعودية، فيجيب بالدهشة نفسها: الصفقة تؤمن 600 ألف وظيفة! وهكذا..

ولكن أمام هول الجريمة ووقاحتها وغبائها، وبالنظر إلى ردود الفعل عليها في الرأي العام العالمي، حتى ترامب نفسه اضطر أن يوحي للسعوديين بالرواية التي سيتم تبنيها بتأخير كبير. فقد قال في أحد تصريحاته المبكرة: من المحتمل أن "عناصر غير منضبطة" قامت بقتل خاشقجي". أي أنه طالب السعوديين بتقديم رواية قابلة للتصديق، يسترون بها على جريمتهم، وينقذون بها الفاعل الحقيقي من خلال تقديم أكباش فداء، وبما يفيد الرئيس الأميركي في تبييض صفحة علاقاته المميزة معهم أمام الرأي العام الأميركي والعالمي.

وإذ رأى ترامب أن من خاطبهم هناك بهذا الاقتراح لم يفهموا المطلوب منهم، اضطر إلى إيفاد وزير خارجيته بومبيو ليشرح لهم "بالقلم والورقة" ما الذي عليهم أن يعملوه لإغلاق هذه القضية "المزعجة" لترامب. وهكذا قام هؤلاء بكتابة روايتهم الركيكة غير القابلة للتصديق. وبالنسبة لترامب، فقد قال إنه يثق بالرواية السعودية، لكنه طالب، هذه المرة، بالكشف عن مصير الجثة.

لا تقارب حكومات الدول الأحداث والحوادث بالمشاعر العاطفية أو بالشعارات المعدة لاستهلاك الجمهور بل بميزان السياسة والمصالح والأرباح والخسائر

"صحيح، نسينا أمر الجثة"! سيقول المكلفون السعوديون بالتغطية على الجريمة. ما العمل الآن؟ هل نقدم الجثة التي تم تقطيعها بالمنشار الكهربائي؟ وفي هذه الحالة ستطرح أسئلة وتكهنات إضافية تفاقم من عدم مصداقية الرواية الرسمية حول "المشاجرة بالأيدي". فهل كانت بعض تلك الأيدي مزودة بمناشير كهربائية مثلاً، فحدث "الخطأ" الذي أدى إلى وفاة المغدور؟

لكن أشد نقاط الرواية الرسمية تهافتاً هي وصول فريق من 15 شخصاً إلى إسطنبول، بالتزامن مع الموعد المسبق المحدد لزيارة خاشقجي للقنصلية، وبينهم خبير في الطب الشرعي، لـ"مناقشة" الرجل حول عودته إلى السعودية! "بعد ظهور مؤشرات عن نيته" بهذه العودة! غير معقول مدى الاستخفاف بعقول الناس! أو ربما مدى غباء صناع هذا السيناريو الركيك!

على أي حال، نعود للتأكيد: لا تقارب حكومات الدول الأحداث والحوادث بالمشاعر العاطفية أو بالشعارات المعدة لاستهلاك الجمهور، بل بميزان السياسة والمصالح والأرباح والخسائر.

بصرف النظر عن كل ركاكة الرواية الرسمية وغبائها، لن تقطع الدول علاقاتها بحكام السعودية الذين يملكون النفط والمال والسياسات "الواعدة" من وجهة نظر الأميركيين، ولن تفرض عقوبات عليهم، أفراداً أو مؤسسة حاكمة. أقصى ما يمكن أن تأمله الشعوب التواقة للعدالة في هذه المنطقة المنكوبة، هو أن يشكل الاهتمام الذي حظيت به هذه الجريمة رادعاً للمجرمين الآخرين المتنكرين في هيئة حكام، حتى لو لم تنتهِ قضية خاشقجي بمعاقبة القتلة.