لم تهبط التفرقة علينا من السماء..

2024.01.03 | 06:49 دمشق

لم تهبط التفرقة علينا من السماء..
+A
حجم الخط
-A

لم تعد الحروب العسكرية حاسمة كما كانت في السابق، ففي ظل التطور الكبير في القدرة التدميرية التي امتلكتها دول كثيرة، أصبح اللجوء إليها غير مضمون النتائج، فضلاً عن أنه يتسبب بخسارة كل أطرافه، هذا ما دفع أطرافاً كثيرة للبحث عن وسائل أقل كلفة وأكثر جدوى، لا سيما وأن الويلات التي جرّتها الحرب العالمية الثانية على البشرية، أجبرت الجميع على الإقرار بمدى فظاعة الحروب، وكلفتها ووحشيتها.

بعد الحرب العالمية الثانية، ورغم أن دولاً كثيرة اتجهت لامتلاك أسلحة ذات قدرة تدميرية عالية بما فيها السلاح النووي، إلا أن القناعة بعدم القدرة على حسم المعركة عسكرياً بدأت تصبح أكثر حضورا، فضلاً عن أن الانتصار عسكريا قد لا يؤدي إلى انتصار طويل، وقد يستعيد الطرف المهزوم قدرته على استعادة تسليح قواه، والدخول في معركة جديدة، هذا كله دفع للبحث عن وسائل أخرى أقل كلفة وأكثر جدوى، ومن هنا نشأ ما تمت تسميته "الجيل الرابع" للحروب.

أطلق على القوة التي تنتصر دون استعمال الأسلحة التقليدية اسم "القوة الناعمة"، للتمييز عن "القوة الصلبة" المتمثلة بالقنابل، والمتفجرات،  والصواريخ وكل الأسلحة على اختلاف أنواعها، وهي "القوة الناعمة" ترتكز باختصار على تدمير الخصم دون اللجوء إلى القوة العسكرية، وذلك عبر تدميره من داخله وبفعل قواه الذاتية، وتم الاشتغال كثيراً على اختراع أدوات هذه الحروب، سواء عبر الحروب النفسية، أو الإعلام، أو الثقافة، أو الأمراض والاقتصاد، وأخيراً عبر وسائل التواصل الاجتماعية، وما يمكن أن ينتج عن الذكاء الاصطناعي وغير ذلك.

قد يبدو للوهلة الأولى أن "القوة الناعمة" هي أكثر إنسانية من "القوة الصلبة"، وأكثر رقياً وحضارة، لكن، وبحسب النتائج التي تنتج عن هذه الحروب، يتضح أنها أكثر دموية ووحشية، واليوم يقف العالم مصدوما أمام احتمالات تطورها، وأمام امتلاكها لإمكانية تدمير البشرية كلّها.

في تجربة الدول العربية التي تحطمت من داخلها، كانت عملية تحطيمها تنطلق من فكرة تعزيز وتقوية انقسام مجتمعي فيها، بحيث لا يُمكن تجاوزه، يتسبب في تنامي حالة عدائية بين فئات المجتمع

إذاً، ومن أجل انهيار دولة بكاملها، أصبح اللجوء إلى تحطيمها من داخلها، هو الطريق الأكثر استعمالاً، وهذا يتطلب وضع قواها الذاتية في حالة تصادم، فتتصارع حتى تفنى، لكن كيف يمكن تحويل القوى المجتمعية لدولة ما من حالة الانسجام الضرورية لنهوض أي مجتمع إلى قوى متصادمة؟ هذا يختلف من مجتمع لآخر ومن دولة لأخرى، لكنه بالتأكيد يرتكز على خصوصية كل مجتمع، وعلى لحظته التاريخية الراهنة.

في تجربة الدول العربية التي تحطمت من داخلها، كانت عملية تحطيمها تنطلق من فكرة تعزيز وتقوية انقسام مجتمعي فيها، بحيث لا يُمكن تجاوزه، يتسبب في تنامي حالة عدائية بين فئات المجتمع، يمكن دفعها لإشعال حروب داخلية أهلية طويلة الأمد، وكانت التصنيفات الدينية والقومية والصدوع الناشئة عنها خير ركيزة لإحداث هذا الانقسام المجتمعي، ساعد في ذلك إخفاق جميع هذه الدول بتكريس هوية جامعة تعلو فوق تصنيفاتها المجتمعية، أضف إلى ذلك طبيعة الأنظمة القمعية التي لم تتحمل مسؤوليتها الوطنية، واستغلت تعدد هويات مكونات مجتمعاتها لإضعافها، كي تتمكن من الاستمرار في الحكم، فنجم عن هذا انقسامات متعددة الأوجه، تسببت بحروب داخلية، أدت الى انهيار معظم هذه الدول، أو تحولها إلى دول فاشلة.

لا يمكن مواجهة حروب الجيل الرابع بالأساليب التقليدية التي كانت تتّبع في حروب "القوة الصلبة"، ف"التوازن الاستراتيجي" الذي صدّع به حافظ الأسد رؤوس السوريين، وامتلاك الأسلحة فائقة القوة التدميرية، والأسلحة الكيميائية وحتى النووية كلّها، لا يُمكن أن تحمي مجتمعاً من الانقسام، في حال غياب العدالة والقانون والمواطنة عنه، والسلاح الأكثر جدوى وفعالية لمواجهة هذا الجيل من الحروب، إنما يكمن أولاً وأخيراً في مدى قدرة القوى الداخلية في أي مجتمع على المحافظة على انسجامها وتوحدها، أي في مدى توحد القوة العسكرية، والمدنية، والاقتصادية والسياسية و..و.. في مواجهة محاولة إشعال الحرب داخل المجتمع.

من المسلّم به أن توحيد قوى المجتمع لا يتحقق بالشعارات، ولا باحتكار السلطة والإعلام، ولا بهيمنة أجهزة القمع على مفاصل الدولة والمجتمع، بل يكمن أساساً بالمواطنة المتساوية لجميع أفراد المجتمع بغض النظر عن أي تصنيف فرعي لهم، وبفصل السلطات وغير ذلك من مرتكزات الدولة الحديثة، وبغياب هذه المرتكزات سينقسم المجتمع، سواء تدخلت أطراف خارجية أم لم تتدخل، وهذا ما تسبب في بلداننا بسهولة تفجير انقساماتها المجتمعية وزجها في حروب داخلية، لا يمكن التكهن كم ستستمر ولا كيف ستتجه.

إذا كانت الانقسامات المجتمعية هي المدخل الأهم لانتصار الأطراف الخارجية على شعوب هذه المنطقة في حروب الجيل الرابع، فإلى أي حد يمكن تبرئة هذه المجتمعات بشكل عام، وتبرئة نخبها الثقافية، والفكرية، والسياسية، والاقتصادية، والدينية بشكل خاص من مسؤوليتها في الهزيمة المرّة التي نغرق فيها منذ زمن طويل، وهل يكفي دائماً التذرّع بالمؤامرات وبالظروف الصعبة لاستمرار هذا الواقع المفتوح نحو مسار وحيد، هو انحلال هذه الدول، وتشظيها وخضوعها لقوى خارجية؟!

الدروب التي تبدأ بإعلاء الهوية الفرعية على الهوية الوطنية، ومن ثم تستقوي بالخارج، لن تفضي إلا إلى انهيار الدولة وخضوعها لطرف خارجي

لم تهبط معظم مشكلاتنا الطائفية، والعشائرية والقومية، و..و.. علينا من السماء، فهي تصنيفات عاشت فينا وفي أجيالنا السابقة، وستعيش في اللاحقة منها، لكننا لم نعرف كيف نوظفها لتقوينا، لا لتجعل منّا أعداء، والكارثة الأفدح أننا رغم معرفتنا بأنها سبب خرابنا وانهيار دولنا، ما نزال نعليها فوق هويتنا الوطنية الجامعة.

ما يتم السعي إليه اليوم في الصراع العالمي المحتدم اليوم، هو دفع شعوب هذه المنطقة لتعزيز كل ما يفتتها، وبالأخص هوياتها الفرعية، وبالتالي إشعال حروب فيما بينها وفق هذه الهويات، وبالتأكيد فإن معرفة نتائج الذهاب في هذا المسار ليس صعباً، فالدروب التي تبدأ بإعلاء الهوية الفرعية على الهوية الوطنية، ومن ثم تستقوي بالخارج، لن تفضي إلا إلى انهيار الدولة وخضوعها لطرف خارجي.

إنه شرق أوسط جديد يتشكّل اليوم، شرق أوسط لم يولد من رحم حرب عالمية، بل يولد من رحم انهيار دول فشلت في أن تحمي مجتمعاتها من التفتت، وفي أن تجعل المواطنة ركيزتها الأهم.