لقاءات عباس-غانتس: نتائج اقتصادية بطابع أمني

2022.01.12 | 05:07 دمشق

1630571623-9923-5.jpg
+A
حجم الخط
-A

أسفر اللقاء الأخير بين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ووزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس عن سجالات واسعة في الجانبين، الفلسطيني والإسرائيلي، معظمها رافضة له، فالفلسطينيون يرون في اللقاء مضيعة للوقت، وخدمة للمصالح الأمنية الإسرائيلية على حساب المقاومة الفلسطينية، أما الإسرائيليون فيعتبرون غانتس يسعى من هذا اللقاء لتحقيق مكاسب حزبية داخلية أمام شركائه في الائتلاف الحكومي..

مع العلم أن الإدارة الأميركية رحبت بهذا اللقاء، واعتبرته مقدمة لكسر الجمود القائم بين الجانبين منذ سنوات طويلة، رغم أنه لم يتطرق للمسار السياسي إطلاقا، واكتفى بالحديث عن تعزيز التنسيق الأمني بينهما، وتقديم إسرائيل لجملة من التسهيلات الاقتصادية والمعيشية، مما يعني وجود سقف محدود ومسبق لنتائج هذا اللقاء..

هذا هو اللقاء الثاني الذي يعقده غانتس مع عباس منذ تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية في يونيو الماضي، الأول كان في أواخر أغسطس في مقر الأخير بمدينة رام الله، والثاني حصل بعد مرور أربعة أشهر بالضبط، وتحديدا أواخر ديسمبر، لكنه هذه المرة عقد في منزل غانتس ببلدة رأس العين قرب تل أبيب، مما حمل أجواءً دافئة وودية أكثر من كونها سياسية تقليدية.

في اللقاءين لم يتحدث الجانبان عن مفاوضات سياسية، بل اقتصر البحث عن زيادة مستوى التنسيق الأمني بين أجهزة أمنهما، لمواجهة تصاعد عمليات المقاومة في الضفة الغربية خلال الأسابيع الأخيرة، التي أسفرت عن سقوط عدد من القتلى والجرحى الإسرائيليين، وزيادة حدة عنف المستوطنين وجنود الاحتلال التي نجمت عن سقوط عدة شهداء فلسطينيين.

لم يتردد غانتس في الإعلان عن أن أحد أهداف لقائه الأخير بعباس هو مواجهة حماس، مما شكل إحراجا للسلطة الفلسطينية التي خرج ناطقوها يبررون اللقاء، ويدافعون عن انعقاده

مع العلم أن لقاء عباس-غانتس أتى على وقع توتر كبير تشهده الضفة الغربية، وجعلها تعيش على نار ساخنة، وتخوف إسرائيلي واضح بانفجار الوضع فيها في أي لحظة، مع خشية من عدم قدرة السلطة الفلسطينية على ضبط الأمور فيها، ولذلك لم يتردد غانتس في الإعلان عن أن أحد أهداف لقائه الأخير بعباس هو مواجهة حماس، مما شكل إحراجا للسلطة الفلسطينية التي خرج ناطقوها يبررون اللقاء، ويدافعون عن انعقاده.

كما سبق اللقاء قيام أجهزة أمن السلطة الفلسطينية بتخليص عدد من المستوطنين الإسرائيليين الذين دخلوا المدن الفلسطينية بالضفة الغربية، وكاد الشبان الفلسطينيون أن يفتكوا بهم، بسبب تورطهم في التنكيل بالمواطنين الفلسطينيين، وحرق مزارعهم، وسرقة حقولهم، لا سيما خلال موسم قطف الزيتون الذي يشهد كل عام ممارسات عدوانية من المستوطنين، دون أن تقدر السلطة الفلسطينية على حماية مواطنيها.

ركز لقاء عباس-غانتس على بحث جملة من المسائل الحياتية للفلسطينيين، التي تمثلت بالجوانب الاقتصادية والمعيشية، بينها تسليم إسرائيل لأموال ضرائب للسلطة الفلسطينية بصورة مبكرة عن موعدها بقيمة مئة مليون شيكل، ومنح الإدارة المدنية الإسرائيلية تصاريح دخول لـ600 من رجال الأعمال الفلسطينيين لإسرائيل، و500 تصريح آخر لدخول رجال الأعمال بسياراتهم إليها، وتصاريح VIP لعشرات المسؤولين في السلطة الفلسطينية، وإبلاغ عباس بموافقة إسرائيل على تسجيل ستة آلاف فلسطيني من الضفة الغربية، و3,500 فلسطيني من قطاع غزة في السجل المدني الفلسطيني لاعتبارات إنسانية.

لا تبدو هذه الخطوات الإسرائيلية التي قدمها غانتس لعباس منعزلة عن خطوات أخرى قام بها وزراء إسرائيليون آخرون، مثل زيادة حصة الفلسطينيين العاملين في قطاع المطاعم الإسرائيلية بـ500 تصريح إضافي، ومنح أربعة مصانع فلسطينية في الضفة الغربية رخصة لتوسيع تسويق منتجاتها في الأسواق الإسرائيلية والدولية، مما يؤكد أن الرابط الأساسي بين هذه القرارات الإسرائيلية يكمن في تعزيز الجوانب الاقتصادية، وتلبية المطالب الحياتية للفلسطينيين، وهي مهمة جدا، ولا يمكن القفز عنها، ولكن على حساب تهميش احتياجاتهم السياسية، وتطلعاتهم الوطنية في التحرر من الاحتلال، والتخلص منه مرة واحدة، وإلى الأبد.

ولذلك فإن اكتفاء عباس خلال لقائه بغانتس بالحصول على تحسينات معيشية لظروف حياة الفلسطينيين فقط، وهو أمر مهم ولازم، يعتبر قبولا منه بالمفاضلة القسرية التي يسعى الإسرائيليون لفرضها على الفلسطينيين، وتتمثل بالاختيار بين توفير الحياة الكريمة أو مقاومة الاحتلال، وهذه معادلة ظالمة ما كان ينبغي لعباس الموافقة عليها.

على صعيد المواقف الفلسطينية والإسرائيلية من لقاء عباس-غانتس، فقد جاءت متوافقة في معظمها، ونادرا ما يتفق الجانبان على قضايا مشتركة، فالفصائل الفلسطينية في معظمها، وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي والجبهتان الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين، اعتبرت أن اللقاء مضيعة للوقت، ولن يحقق اختراقا سياسيا مأمولا، لأن الحكومة الإسرائيلية الحالية، وغانتس عضو أساسي فيها ليس لها أجندة سياسية تجاه الفلسطينيين، بفعل تركيبتها المتناقضة، والخشية من أن الإقدام على أي تحرك سياسي معهم يعني إعلان شهادة وفاتها، بسبب رفض أطراف اليمين فيها، خاصة رئيسها نفتالي بينيت ووزيري الداخلية آياليت شاكيد، والمالية أفيغدور ليبرمان، وجميعهم لا يرون في عباس شريكا سياسيا لإسرائيل.

يعني هذا بنظر القوى السياسية الفلسطينية الرافضة للقاء عباس- غانتس أن السقف المتاح أمام مثل هذه اللقاءات لا يتجاوز المسائل الاقتصادية والأمنية ليس أكثر، دون الاقتراب من القضايا السياسية، وبالتالي لم يكن هناك داع أصلا لحصول مثل هذه القمة، لأنه كان بإمكان أي وزير فلسطيني من الدرجة الثانية أن يحصل عليها من نظرائه الإسرائيليين.

لكن ذلك يؤكد ما ذهبت إليه العديد من الأوساط الفلسطينية التي تحدث معها كاتب السطور، في الحديث عن حصول إعادة تموضع من مختلف الأطراف: الفلسطينية والإسرائيلية والأميركية وبعض الأطراف العربية، وبدء التوجه نحو السلام الاقتصادي بديلا عن الحل السياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بزعم عدم توفر الظروف المناسبة لاستئناف أي مفاوضات سياسية، سواء في ظل الوضع الفلسطيني المنقسم على نفسه، أو توجهات الحكومة الإسرائيلية اليمينية، أو انشغال الإدارة الأميركية بملفات إقليمية ودولية تبدو أكثر أهمية من حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

في هذه الحالة من الصعب علينا أن نقفز عن الموقف الأميركي الذي أبدى ترحيبا لافتا بلقاء عباس-غانتس، باعتباره يساعد في كسر الجمود السياسي القائم بينهما منذ عام 2014، وقد تحدثت أوساط إسرائيلية لاحقا أن مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان بذل جهودا كبيرة لإنجاز هذا اللقاء، في محاولة منه لتقريب وجهات نظر الجانبين نحو مسائل متعددة، لا يبدو أن من بينها استئناف المفاوضات التي توقفت بقرار من رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق بنيامين نتنياهو، في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، فور توقيع اتفاق المصالحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس.

على الصعيد الإسرائيلي، لم تكن المواقف أقل رفضاً مما هي عليه في الجانب الفلسطيني، فقد سارعت أحزاب اليمين في المعارضة بقيادة الليكود والصهيونية الدينية وغيرهما إلى وصف اللقاء بالعبثي، وعدم جدواه، بل اعتبروه يقدم أنبوب أوكسجين لزعيم يفترض أنه خارج سياق الأحداث كلها، والمقصود هنا عباس الذي يظهر معزولا في مقر الرئاسة الفلسطينية برام الله، لا يستقبل أحدا من الزعماء، ولا يسافر إلى أي من دول المنطقة والعالم.

لم يقتصر رفض اللقاء على المعارضة الإسرائيلية، بل إن شركاء غانتس في الائتلاف الحكومي انضموا إلى قائمة معارضي انعقاده، مثل أحزاب "يمينا ويسرائيل بيتنا وأمل جديد"، لا سيما الوزيرين زئيف ألكين ويوعاز هندل، الذين ألمحوا جميعا أن غانتس يسعى لتكرار لقاءاته مع عباس من أجل مصالحه الحزبية الداخلية، وتقوية مواقعه داخل الائتلاف الحكومي أمام شركائه الآخرين، لإظهار التمايز عنهم، تحضيرا لانتخابات قد تحصل مستقبلا، معتبرين أنه يعقد مثل هذه اللقاءات بمعزل عن إجماع الحكومة، وعدم حصوله على الموافقات اللازمة من قبل الدوائر الرسمية في الحكومة.

بينيت يحرص أكثر من سواه على بقائه رئيسا للحكومة، وبأي ثمن، حتى لو خالف بعض وزرائه قناعاته السياسية التي طالما رفضت اللقاء بالسلطة الفلسطينية، ودعت لعزلها

هذه المعارضة للقاء من داخل الائتلاف الحكومي تدفعنا للتعرف على مواقف رئيس الحكومة ذاته، نقتالي بينيت، الذي لم يظهر تحمسا لمثل هذه اللقاءات مع عباس، وفي الوقت ذاته وجد صعوبة في منع غانتس من الاجتماع به، لأن ذلك قد يعني انفراط عقد الائتلاف الحكومي الهش، وبينيت يحرص أكثر من سواه على بقائه رئيسا للحكومة، وبأي ثمن، حتى لو خالف بعض وزرائه قناعاته السياسية التي طالما رفضت اللقاء بالسلطة الفلسطينية، ودعت لعزلها، بل والإطاحة بها في بعض الأحيان، حين كان في المعارضة.

في الوقت ذاته، بدا من الصعب بعد أن تأكد دخول واشنطن على خط ترتيب لقاء عباس- غانتس أن يقف بينيت في وجهها، ويعارض مساعيها، لأن لديه جدول أعمال مزدحما معها، سواء الملف النووي الإيراني، أو إعادة افتتاح القنصلية الأميركية في شرقي القدس، لذلك لا يرى جدوى من الدخول معها في مواجهة سياسية، طالما أن سقف لقاء عباس-غانتس لم يتجاوز بحث المسائل الإجرائية المعيشية، ولن يعيد افتتاح المسار السياسي، وبالتالي يبقى في إطار مشروع السلام الاقتصادي الذي يتبناه اليمين الإسرائيلي عموما، سواء من خلال نتنياهو سابقاً، أو عبر بينيت حالياً.