لست وحدك المقاطع.. أنا مقاطع

2023.11.15 | 18:45 دمشق

لست وحدك المقاطع.. أنا مقاطع
+A
حجم الخط
-A

تقوم العلامات التجارية الكبرى في منطقة الشرق الأوسط وخصوصا التي أظهرت دعما واضحا لإسرائيل منذ بداية الحرب على قطاع غزة، مثل ستاربكس وماكدونالدز بمحاولات حثيثة لإنهاء المقاطعة الواسعة لمنتجاتها التي امتدت ومازالت مستمرة لأكثر من شهر، في نمط سلوكي يبدو ثابتا ومتصاعدا للشعوب العربية والإسلامية في حسم أمرها باللجوء لسلاح المقاطعة الاقتصادية للتعبير عن غضبهم ورفضهم للمقتلة العلنية المستمرة بحق الشعب الفلسطيني.

 وتصدرت مئات من الحسابات الشخصية لناشطين ومؤثرين وصحفيين في مشهد لافت مصطلحات وشعارات عديدة تدعو للمقاطعة، كرد على استهزاء كبرى الشركات العالمية بالزبائن العرب ومشاعرهم، في دعمهم المطلق واللاأخلاقي للحرب والتغاضي عن قتل المدنيين في غزة وقطع كل سبل الحياة من ماء وغذاء ووقود في سياسية عقاب جماعي معلنة لم يشهد لها التاريخ الحديث مثيلا.

واتسعت هذه الدعوات سريعا لتشمل كل شرائح المجتمع حتى الأطفال منهم، لتصبح جزءا مهما من النقاشات التي تدور في المجموعات العامة والخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي المتنوعة في الدول العربية والإسلامية يوميا على مدار ٢٤ ساعة وبصورة متزايدة، وأصبح من البدهي مشاركة رواد مواقع التواصل الاجتماعي عشرات الاستفسارات حول المنتجات التي اعتادوا عليها إن كانت ضمن المقاطعة أم لا، ليأتي الجواب سريعا بدقائق معدودة من عشرات الحسابات بل المئات بالرد "مقاطعة"، ليتحول السؤال عن البديل، في إصرار مثير للانتباه على الانتصار على الأقل في هذه المعركة السلمية.

رد الفعل الإسرائيلي الهستيري تجاه الشعب الفلسطيني في غزة، واستباحة دمائهم وأرواحهم بوصفهم "حيوانات بشرية" من الواجب سحقها، ومحاولة الاحتلال تجريد الشعب الفلسطيني من آدميته ونزع الصفة الإنسانية عنه، لتكتمل جريمة الإبادة الجماعية على عملية "طوفان الأقصى"، سببت صدمة للجماهير العربية والإسلامية، وهم يتابعون كيف ترك الشعب الفلسطيني وحده من دون أي رادع أو نية من المجتمع الدولي للدعوة لوقف إطلاق النار وإنهاء معاناة المدنيين، مما تسبب بمقتل أكثر من 11 ألفا معظمهم من الأطفال والنساء ونزوح أكثر من مليون شخص من شمالي القطاع إلى جنوبه.

الإبادة الجماعية التي بدأت في السابع من أكتوبر، وصور جثث الأطفال الذي تجاوز عددهم ٤ آلاف حتى الآن، وضعت كل فرد بالعالم يعيش في بيئة آمنة ويمارس حياته اليومية المعتادة، يأكل ويشرب وينام ويذهب لعمله ويوصل أطفاله للمدرسة، أمام مسؤولية أخلاقية كبيرة وتركة ثقيلة من الإحساس بالذنب لمجرد أنه يتمتع بحق الحياة التي يحرم منها سكان غزة على مدار أكثر من شهر، وشهدنا جميعا المظاهرات الغاضبة في كل دول العالم رفضا للحرب ومحاولة الضغط على حكوماتهم لإيقاف إطلاق النار وإنهاء الحصار المفروض على غزة منذ أكثر من 16 عاما.

نتابع أيضا كعائلة سورية الإبادة الجماعية في غزة لحظة بلحظة، قلبنا ينزف ونحن نستعيد ذكريات الحرب في سوريا، عائلتنا الصغيرة تعيش اللجوء في تركيا منذ أكثر من 8 سنوات مع نحو 4 ملايين سوري اضطروا للنجاة بأرواحهم من القصف الأسدي الذي قتل أكثر من نصف مليون إنسان وتسبب بلجوء ونزوح أكثر من 10 ملايين أي ما يعادل نصف الشعب السوري.

اتسع قاموس أحاديثنا اليومية كمعظم العائلات السورية اللاجئة في تركيا، منذ بداية الحرب على غزة ليشمل كلمة "مقاطعة"، منذ أن أعلنت منتجات ماكدونالدز دعمها للجنود الإسرائيليين بتوزيع وجبات مجانية على الجيش الإسرائيلي المشارك بالحرب، شعرنا أننا نسهم فعلا بقتل أطفال فلسطين ونحن الذين اختبرنا قتل أطفالنا بالقصف الأسدي، كيف ندير ظهرنا لكل ما يحدث ونستمر بممارسة عاداتنا الاستهلاكية من الشركات التي قدمت دعما للجيش الإسرائيلي أو أعلنت رسميا وإعلاميا دعمها له؟! ونحن الشعب الذي يعلم طعم العلقم عندما أدار العالم ظهره له وتركه وحيدا.

جسدت حملة المقاطعة التي اتخذت طابعا شعبيا ورسمي في الكويت بشعارها "هل قتلت اليوم فلسطينيا"؟ مشاعر ملايين العرب والمسلمين عندما نشروا صور أطفال غزة الذين قتلوا بالحرب في الشوارع والأماكن العامة، وكان لهذه الحملة الأثر الكبير في تشجيع كل من كان يستخف بتأثير المقاطعة والانضمام سريعا، حتى الفئة المشككة بجدواها على ما يبدو لم تستطع أن تتحمل ثقل المسؤولية الأخلاقية لكل ما يحدث دون أن تحرك ساكنا.

أسهمت وسائل التواصل الإجتماعي بتحويل جميع روادها لفاعلين ومشاركين ومساهمين بحملة المقاطعة حتى تحولت لجزء من السلوك اليومي لكثيرين وواجب عند آخرين وهدف لإقناع المشككين، وغزت وسائل التواصل قوائم مفصلة لجميع المنتجات الغربية الداعمة لإسرائيل، وأصبح السؤال عن أي منتج إن كانت تشمله المقاطعة سلوكا طبيعيا يجيب عنه عشرات ومئات الأشخاص بدقائق من كل الفئات الاجتماعية ربات المنازل والعمال والطلاب، حتى عند النزول للتسوق في المتاجر والمطاعم كل الأحاديث تمحورت حول المقاطعة والسؤال عن البديل بمشهد جماهيري لم نعتده في المنطقة العربية من قبل.

في الأسبوع الأول من الحرب دار نقاش في المنزل حول أهمية المقاطعة وهو سؤال مهم، وعادة ما يصاحب حملات المقاطعة جدلٌ حول أهميتها وجدواها واستمرارها في ظل اعتماد الدول العربية وشعوبها شبه الكلي على المنتجات الغربية تبدأ من قائمة المواد الاستهلاكية اليومية كالطعام والشراب ولا تنتهي عند الصناعات الثقيلة والمتطورة مثل التكنولوجيا والأسلحة.

لكن عندما نواجه هذا السؤال من أطفالنا، نحن الجيل الذي شهدنا عقوداً من الاستبداد والظلم والقهر، نجد صعوبة بتقديم إجابة مؤكدة، لأننا لم نختبر الحياة في ظل دولة تتيح لنا العيش بحرية وكرامة نمارس فيها حقنا بإبداء رأينا بأي جانب من حياتنا أو الاعتراض على ما نراه يهدد مصالحنا، وكانت التجربة اليتيمة التي قررنا فيها رفض هذا القمع المستمر بحقنا هو المشاركة بالثورة السورية السلمية كأول رد فعل سلمي للمطالبة بأبسط حقوقنا كبشر بالعيش بحرية وقوبلنا بالرصاص والقتل والتهجير منذ 12 عاماً حتى الآن.

غياب الحريات والتمتع بحقوق المواطنة لا يقتصر على سوريا فقط وأحداث الربيع العربي الممتدة من تونس حتى شملت كل الدول العربية بدرجات متفاوتة أكبر دليل على يأس الشعوب العربية من الفئة الحاكمة والمظاهرات الشعبية التي افترشت عواصم الدول العربية خلال السنوات العشر الأخيرة مطالبة بالتغيير السياسي لا يمكن تغطيتها بغربال.

تكرار مشهد نزوح أهل غزة من شمالي القطاع إلى جنوبه كان سيناريو يؤرق أخلاقيا كل عربي ومسلم ولأنه غير قادر على متابعة الأخبار دون أي رد فعل مهما بدا تافهاً وصغيراً أمام هول المشهد، وتجلى بكل وضوح "بالمقاطعة" والتشجيع عليها وتعظيم أهميتها.

وهكذا غزت وسائل التواصل منذ اليوم الأول دعوات المقاطعة، وانتشار مقطع الفيديو لأحد فروع مطاعم ماكدونالدز التي استبدلت غلافها الأحمر باللون الأزرق الذي يرمز لألوان العلم الإسرائيلي، شهد نقاشا حادا بين متابعي رواد مواقع التواصل من العرب، وتشجيع كل المترددين باتخاذ قرار المقاطعة بالوقوف مع ضمائرهم والوقوف مع الحق ولو ارتضوا القبول بمنتجات أقل جودة مما اعتادوا عليه.

انتقلت هذه النقاشات من الواقع الافتراضي إلى الحياة العامة حتى أصبحت حديث الشعوب العربية كافة، وبدأت حملات المقاطعة بمعظم الدول تستهدف علامات شهيرة مثل ستاربكس وكوكاكولا وعشرات المنتجات الغربية وامتدت الحملات لأصحاب المطاعم والمنتجات الغذائية بالاستغناء عن هذه المنتجات واستبدالها بمنتجات محلية الصنع أو تشجيع صناعة الدول الداعمة للقضية الفلسطينية.

سهلت وسائل التواصل باستمرار زخم المقاطعة حيث تجاوزت الناشطين ومنهجية عملهم وتحولت لمشاركة شعبية واسعة بجميع الغروبات الاجتماعية في كل دول العربية، من دون أي جهد يذكر باتت الأسئلة المطروحة الشائعة عن بدائل ستاربكس أو نسكافيه، أو بدائل المنتجات الغذائية كنستلة أو كوكاكولا.

وحتى تأتي المقاطعة بنتائج مضمونة عمل الناشطون على التذكير دائما عبر شعار" لست وحدك المقاطع أنا مقاطع" والعمل بمنهجية لتسهيل البحث عن بدائل أطلق ناشطون منصة "بدناش" التي تساعد المقاطعين على معرفة المنتجات المقاطعة والبحث سريعا عن بدائل لها.

كان لافتا أن الأطفال شاركوا أيضا بالمقاطعة وكان استبدال المنتجات التي يحبونها بأخرى لايعرفونها أسهل مما تخيل جيل الآباء، ومتابعتي لتصفح بناتي اللواتي لا يتجاوزن ١٣ عاما للقائمة عند شراء كل منتج وتذكيرنا عن نية الشراء بالابتعاد عن الأسماء المجدولة بالقائمة التي تم تحميلها على الأجهزة اللوحية الخاصة بهن مثيرا للفخر والأمل بظهور جيل عربي شاب يتصرف عن وعي لأهمية مناصرة القضايا العادلة وليس نتيجة رد فعل عاطفي مشحون بالشعور بالذنب والعجز.

لا تخلو ذاكرتنا العربية الجمعية من الحكمة الشهيرة التي تدور حول الأب الذي جمع أولاده وطلب كل واحد منهم أن يكسر عصاة ونجحوا جميعا وعندما جمع العصى بحزمة عجز الجميع عن كسرها.. عاش جيل كامل على أحلام وحدة المصير التي تجمع أكثر من 400 مليون إنسان يعيشون في المنطقة العربية لقناعتهم أن هذه الوحدة ستساعدهم على دعم بعضهم البعض في المحن والمصائب وتعيد لهم مشاعر الفخر والكبرياء بالعيش بحرية وكرامة، هذه الأحلام التي تبددت بسحق إرادتهم سنوات طويلة بالعيش تحت سلطة الاستبداد وحولت هذه الحكومات أولوياتهم لهموم يومية تلاحقهم وتحاصرهم لتأمين قوت يومهم، بحيث يصبحون عاجزين تماما عن اتخاذ أي قرار ويتجرعون الذل والعجز في الأحداث المصيرية التي مرت على المنطقة ولن تكون آخرها الحرب على غزة.