لبنان الذي تمرَّد..

2019.10.23 | 17:19 دمشق

مظاهرات لبنان
+A
حجم الخط
-A

غصت الساحات الكبرى في معظم المدن اللبنانية بمئات الآلاف من المواطنين، بل بملايينهم يتظاهرون في الليل والنهار مطالبين بعيش كريم، وخدمات تليق بالإنسان، ولم يرفع هؤلاء اللبنانيون غير راياتهم الوطنية التي تزهو بشجرة الأرز اللبنانية مشيرة إلى أنها عَلَمٌ على لبنان وجباله الشامخة، وصدحت أصوات الشباب اللبناني، بالنشيد الوطني، "كلنا للوطن.. للعلا للعلم" تعلن أن الشارع قد تجاوز طوائفه وأحزابه وتياراته ونخبه السياسية كافة، وفي ذلك أهمية كبرى، ودليل على أنَّ الحال الوطنية التي اختطفتها الطائفية البغيضة عقوداً من الزمن، قد عادت إلى النمو في أذهان الشباب وفي أرواحهم، ولعلها تزدهر في قابل الأيام..

وإذا كان احتقان الشارع اللبناني أخذ يبرز من خلال الوضع المعيشي المتردي، فإنه في تفكير الشباب ووعيه حال وطنية تبحث عن دولة حديثة تحاكي روح العصر وتسعى إلى خلع عقلية القرية، وتسيُّد المختار.. ولذلك يتمرد الشارع على رؤوس تشكيلة الحكم برمتها، فترى المحتجين كباراً وصغاراً، نساء ورجالاً يتفرغون بين الفينة والأخرى للسخرية وللشتائم التي تطاول أقطاب النظام، وإن كانت لا تخلو أحياناً من إضفاء المرح والخفة، وفي ذلك إحالة المشاهد إلى عمق الوجع الذي لامس روح المواطن اللبناني، فجعله يكسر القيود المكبل بها ليعبِّر عن وعي وطني تتمتع به الشرائح المجتمعية المختلفة.. وقد أشار بعضهم في مداخلاته الإعلامية على الهواء مباشرة، وبنوع من الألم إلى ما ينتظره المواطن الذي يعيش في لبنان من فضلة يرسلها اللبنانيون المقيمون في المغتربات إلى أهاليهم لسد نقص ما في حاجاتهم، وضروراتهم المعيشية، وهم الذين يعرفون كيف يعيش المواطن خارج لبنان! إذ غزوا العالم بتميزهم ونباهتهم، ولباقتهم، ويندر أن تجد عاصمة في العالم لا يوجد فيها لبناني له مركزه وكيانه في هذه الشركة أو تلك، حتى إنهم، وحيث يطول بهم المقام لم يفقدوا نصيبهم من المناصب الحكومية في الأماكن التي أقاموا بها.. أما رجال الأعمال فهم كثر، وفي المجالات كلها، وربما أقلهم صاحب مطعم بيروتي أنيق تراه يُطْلِع العالم على الذوق اللبناني المتحضر والمشبع أصالة وعراقة.. 

كما ينتظر اللبناني المقيم في البلد ما ينفقه الزوار الكثيرون إذ لا أحد من العرب عموماً لم يزر لبنان عاملاً أو سائحاً، مثقفاً أو فناناً، أو قادماً إليه في مهمة مدنية أو سياسية.. وهو البلد الجميل الذي لا يخلو من مصادر اقتصادية أخرى تأتي من الزراعة، ومن بعض الصناعات الخفيفة، ومن البنوك والشركات الخدمية المتعددة، إضافة إلى ما تحصِّله مؤسسة الجمارك من رسوم على البضائع المختلفة التي ترد إلى لبنان. ناهيكم بالمساعدات الدولية المختلفة التي لا تنقطع عن لبنان الذي يوفر بالمقابل لهؤلاء مصالح محددة.. يعني بإيجاز تحول اللبناني، على نحو أو آخر، إلى متسوِّل..! وهو الذي لم يكن كذلك أبداً.. فلِمَ حصل ذلك؟ وأين تكمن المشكلة؟! 

لأول مرة، تغيب أعلام الطوائف والأحزاب والشعارات الفرعية أو الجزئية ليرتفع علم الوطن، ونشيده فحسب

الحقيقة ومنذ أن دخل النظام السوري إلى لبنان خلال الحرب الأهلية في منتصف سبعينيات القرن الماضي تراجع الاقتصاد اللبناني، وهبطت عملته الوطنية، وتفاقم الفساد لدى النخبة الحاكمة القائمة على المحاصصة لا على المواطنة، والديمقراطية، ودولة القانون، كما يؤكد الدستور اللبناني ما يعني تكوّن استبداد من نوع آخر.. استبداد يحاكي نظام دمشق..! أما ما يطلبه الشباب الذين نزلوا إلى الشارع فهو إزاحة النخبة المتسلطة بكاملها، ودونما استثناء، فمن رئيسها إلى وزيرها إلى نائبها ومديرها العام، فكل من هؤلاء له حمايته، وسطوته، وله جهته الطائفية التي يستند إليها بعيداً عن أي قانون ناظم لشؤون الدولة.. والجميع يذكر حزب الله الذي يتمسك علناً لدى كل تشكيل حكومي بهذه الوزارة أو تلك بهذا الجانب أو ذاك مما يجلب له مالاً أو يمكِّن له ولحلفائه وأسياده في البلد.. وهكذا أوصلت تلك الطبقة الحاكمة لبنان إلى الحضيض، ومن هنا، ولأول مرة، تغيب أعلام الطوائف والأحزاب والشعارات الفرعية أو الجزئية ليرتفع علم الوطن، ونشيده فحسب.. وفي هذا ربط بين ما هو وطني، وما هو اجتماعي، فالمتظاهرون وضعوا يدهم على الجرح، ومن هنا فلبنان أمام مفترق خطير فليست المسألة بهذه البساطة، ولا يعتقد بأن حزمة القرارات التي أعدَّها الرئيس سعد الحريري وجرت الموافقة عليها بسرعة فائقة ستفعل فعلها، فهي مطروحة قبل سنة ونصف، أي منذ تشكلت الحكومة، لكنها لم تلق إذناً صاغية، كما صرح الحريري نفسه، وبغض النظر عن خلفيات كلمته التي أخذت تضرب في عمق الأزمة المعيشية، وبالخدمات الضرورية لحياة المواطن، وأنها وضعت على طاولة الحكومة منذ تشكيلها، وهناك من عمل على تعطيلها.. وقد ذهب الحريري إلى العمق السياسي حين أشار إلى أنَّ هذه القرارات غير كافية، ولن تحقق مطالب الشباب، ولا أحد يستطيع أن يفرض عليهم وقف الإضراب أو الاستمرار فيه، فهذا شأنهم، أما إذا أصروا على الانتخابات المبكرة، فالقرار قرارهم وهو معهم في مطلبهم وقرارهم..!

وقد جاءت كلمته هادئة واثقة مرتاحة لموقف الشارع على العكس من كلمة جبران باسيل التي كانت متهربة من أية مسؤولية ومن كلمة حسن نصر الله التي بدت متوترة، وحملت تهديداً واضحاً إذ خاطب المحتجين بقوله: أنتم تنزلون إلى الشارع عدة أيام وتعودون، أما إذا نزلنا نحن (يقصد ميليشياته طبعاً) فقد نستغرق سنوات، ناهيك باستصغار شأنهم بتأكيده استمرارية الأمور، ولن تغير المظاهرات شيئاً، فلم يكن منطقه غير منطق الحاكم المستبد الذي بدا في سورية وليبيا واليمن. 

وبعد لا أعتقد بأن الإضرابات اللبنانية تبتعد كثيراً عمَّا يجري في المنطقة العربية عموماً، سواء ما تعلق في سورية بالذات أو في بقية البلدان العربية التي حكمها العسكر إذ الأوضاع متشابهة، فهناك من يتفرد بحكم البلاد ليأخذ منها ولا يعطيها، فيحوز على خيراتها منفرداً، ويوزع جزءاً على شركاء يختارهم، أو تحكمها أطراف عدة تتفق فيما بينها على اقتسام المغانم، ولكل حسب حجمه وقوته، كما هو الحال في لبنان منذ عقود طويلة وقد قونَنها اتفاق الطائف.. أو في العراق مؤخراً الذي طالب بالديمقراطية، واستعان بالأمريكان عليها، فكانت ديمقراطية الفساد والفاسدين، ونهب خيرات العراق وارتهانه، والعودة به إلا ما قبل ثورة 1958 رغم أنَّ ذلك الوضع الملكي، وفيما ينشر عنه هذه الأيام، لم تكن أخلاقه أو قيمه لتسمح له بالتجاوز على أموال الدولة..

وأخيراً وبقدر ما أثلج اللبنانيون صدور العرب أجمعين لا بتظاهراتهم ومطالبهم فحسب، بل بحرية إعلامهم الذي رافق الشعب حيث هو، ونقل مباشرة أوجاعه ومطالبه، فأعطى التظاهرات قوة بمشروعية مطالبهم على عكس ما حدث في سورية، ورفع في نفوس متابعي حراك اللبنانيين بحب وشغف وتيرة التعاطف معهم.. بقدر ما تبقى المخاوف قائمة وبخاصة من حماقة يرتكبها حزب الله، إذا ما ذهبت الأمور إلى انتخابات مبكرة لن تكون، أبداً، في صالحه.. وتبقى الإشارة إلى أن سقوط هذا النظام الطائفي، وبناء دولة المواطنة، سوف يكون له تأثير في دول كثيرة تمددت فيها إيران وأهمها العراق الذي ينخره الفساد، وتهدده الانتفاضات الشعبية المشابهة، والنظام السوري الذي مكَّن  للإيرانيين، ويعتقد بأنه انتصر رغم خراب سورية على يديه..!