icon
التغطية الحية

"لأنها بلادي".. تاريخ مواز يصنعه نجدة أنزور

2021.08.10 | 07:17 دمشق

0c7fda8a0e4230551747bd46.jpg
نجدة أنزور مع بشار الأسد
عمر بقبوق
+A
حجم الخط
-A

خلال السنوات العشرة الأخيرة أنتج النظام السوري عددا كبيرا من الأعمال الدرامية الحربية، التي يصعب التعاطي معها بشكل جدي نقدياً بسبب ما تنطوي عليه من إشكاليات أخلاقية بالإضافة لرداءة صنعها فنياً. وفي كل مرة نظن أن الدراما السورية وصلت إلى أسفل درك من الممكن أن تصل إليه تفاجئنا ماكينة النظام السوري الإعلامية بقدرتها على ابتكار الأسوأ. هذا بالضبط ما تشعر به عند متابعة مسلسل "لأنها بلادي" لنجدة أنزور، الذي عُرض متأخراً عن مراسم مسرحية الانتخابات الديموقراطية السورية، علماً أنه قد تم إنتاجه كجزء من الحملة الانتخابية لبشار الأسد.

في البداية يجب أن نشير إلى أن عنوان المسلسل قد تم تغييره في اللحظات الأخيرة، ليحمل اسم "لأنها بلادي" بعد أن تم الترويج له قبل أشهر باسم "أقمار في ليل حالك". قد يكون التغيير نتيجةً للجدل الأخلاقي الذي أثاره المسلسل قبل عرضه، بسبب تعاون نجدة أنزور مع سهيل الحسن لقصف بعض المناطق السورية وبسبب رغبة النظام السوري بصناعة وثيقة درامية يكتب بها التاريخ كما يحلو له؛ فاختار اسماً بسيطاً وعاماً، عوضاً عن الاسم الرومانسي الشعري القديم؛ ليعطي وثيقته الدرامية المزورة طابعاً رسمياً؛ بذلك يؤهلها أيضاً للدور الذي ستلعبه بالسنوات القادمة في عروضها التي ستتم غالباً في المدارس والمعسكرات التي تعّد الناشئين للدخول في السلك العسكري؛ علماً أن افتتاح العرض قد تم فعلياً بصالات السينما، كسابقة في تاريخ الدراما السورية.    

إن مسلسل "لأنها بلادي" يتكون من 26 حلقة بسياق متصل – منفصل، ولا يمكن التعاطي معه سوى بوصفه وثيقة درامية رسمية أعدها نجدة أنزور ليزور التاريخ بما يتوافق مع البروباغندا الإعلامية لنظام الأسد. وفي سبيل ذلك، لجأ نجدة أنزور لاستخدام العديد من الحيل الدرامية لرسم هذه الوثيقة المزورة، يمكن تلخيصها بالتالي: 

  • التلاعب بالمسميات: إنها ملحمة درامية:

إن أغلب الحكام الديكتاتوريين يدركون جيداً دور الفن وإمكانية استخدامه لخدمة أنظمتهم الشمولية؛ ففي كوريا الشمالية كان الزعيم السابق، كم جونغ إل، يشارك بصنع الأفلام السينمائية بنفسه، ليرسم من خلالها ملامح أسطورة ترسخ عقائد حول شرعية عائلته بالحكم الأبدي. يبدو أن بشار الأسد قد استفاد من التجربة الكورية الشمالية ودروسها، وهو ما جعله يبذخ في الإنفاق على دراما خاسرة غير قابلة للتسويق والعرض في الفضائيات العربية في وقت تمر به البلاد بأسوأ ضائقة اقتصادية في تاريخها. إن ذلك ناجم عن إدراك ضرورة صياغة الأسطورة لتكون بديلاً عن كل المعتقدات والأفكار الممكنة. هذه الغايات المرجوة من مسلسل "لأنها بلادي" جعلته يتخذ قالباً خاصاً أكثر فخامة وقداسة من أي مسلسل آخر؛ لذلك قام نجدة أنزور بتقسيمه إلى 26 وحدة، سماها بالصفحات بدلاً من الحلقات، باعتبارها معاً تشكل ملحمة درامية، وصوّر استعراضاً عسكرياً وعرضه مع مارشات عسكرية، لتكون هذه اللوحة هي شارة البداية. فعلياً إنك لن تشعر للحظة أن المسلسل الذي تتابعه هو عمل فني بقدر ما تشعر بأنه أسطورة خلقها الأسد ليؤمن بها أتباعه في السنين القادمة، مهما طال حكمه. هكذا تلاعب أنزور بالمسميات وبالأدوار التي يجب أن تلعبها كل وحدة من المسلسل، ليضفي على عمله طابعاً أسطورياً.

  • من يروي الحكاية؟

لا يوجد في المسلسل سوى شخصية واحدة رئيسية، وهي الممثلة نادين، التي تلعب دور صحفية مهاجرة تقوم بتوثيق كل ما يحدث طوعاً! يذبحها الحنين فتعود لحضن الوطن بعد أن هجرته، وتستكمل رحلتها الاستكشافية الممجوجة بالحنين. بذلك نرى أن الحكايات المنفصلة التي يتكون منها المسلسل لا تتصل ببعضها سوى لكونها نماذج عن بطولات "جيش النظام" الأسطوري، يرويها شخص من المفترض أنه محايد خرج من البلاد وعاد إليها بعد أن دابت الثلوج وبانت الحقائق. الأغرب أن السرد الروائي المرافق للقصص ما هو إلا خطاب سياسي مباشر، يتسم بالشعرية المبتذلة تارةً حيث تقوده نغمة التباكي على البلد الذي تدمرت، ويتضمن دروساً بمعاني الوطنية والمثالية تارةً أخرى. ومن خلال شخصية الراوي وعودته الحتمية للوطن، يمارس أنزور حيلته الدرامية النمطية، التي يحدد فيها الملامح والهوية الوطنية، ومن يجب أن نقبله بيننا ومن يجب أن نقصيه عنّا.  

  • الأعداء يشاركون بسرد القصة:

إن الحيلة الدرامية الثالثة التي يستخدمها نجدة أنزور في "لأنها بلادي" قديمة قدم الدراما المسرحية، إذ تم استخدامها في أقدم المسرحيات التاريخية التي وصلت إلينا؛ المقصود هنا مسرحية "الفرس" للكاتب الإغريقي أسخيلوس، التي تناول بها معركة "سلاميس" التي جرت بين الفرس واليونانيين وانتصر فيها اليونانيون، إذ يظهر فيها شبح ملك الفرس "داريوس" لزوجته ورجال الدولة ليعقدوا جلسة طويلة للتباكي على الهزيمة وللحديث عن البطولات الخارقة التي أظهرها اليونانيون في هذه المعركة والاندحار الشامل لجيش الفرس. ذات الحيلة يستخدمها أنزور لصياغة مسلسله، الذي وصّفه بالملحمة الدرامية، ليكتب أسطورة عن انتصارات النظام، يشارك أعداؤه بسردها، لنجدهم طوال الوقت يتحدثون عن البطولات الخارقة للجيش السوري. وإذا ما كانت مسرحية "الفرس" قد تم تصنيفها ضمن المسرحيات الكوميدية الإغريقية، لأن المبالغة بالنواح والتباكي يتحول إلى شكل من الكوميديا، يسمى بالـ"كوموس"، فإن مسلسل "لأنها بلادي" لا يمكن وضعه ضمن خانة درامية أخرى، بل إنه يتحول إلى مهزلة بسبب ما يرافقها من سرد تاريخي مشوه وبسبب إضافة عدة خطوط درامية جانبية لا تزيد الحكاية إلا سخفاً.  

  • قول نصف الحقيقة:

إذا ما أردت أن تكذب كذبة متقنة، فعليك أن تضمن في كذبتك جزءاً من الحقيقة، لأن هذا الجزء سيساهم بخداع الجمهور ليوحي لهم بأن ما يسمعوه هو الحقيقة لوهلة. هذه الحيلة دائمة الحضور في كل الروايات والأعمال الدرامية التاريخية، فصنّاع الدراما التاريخية لا يسعون لخلق تاريخ موازٍ ليس له أي مرجعية واقعية، وإنما يسعون لتحريف التاريخ قدر الإمكان، ليخدم الطرف المنتصر ويجعله يظهر بصورة الخير شبه المطلق وأن انتصاره كان على الشر المطلق. هكذا رسم نجدة أنزور روايته، إذ قام بتحريف التاريخ دون إنكاره المطلق؛ فمثلاً صوّر في إحدى لوحات المسلسل انشقاق جندي من الجيش الحر وعودته لجيش النظام، ليقلب الواقع تماماً؛ لكن في هذه الفرضية لم ينكر أنزور أن هذا الجندي كان في الأصل بقوات النظام ولم ينكر أن الجيش الحر تكون من انشقاق عساكر عن الجيش النظامي؛ فهو قال نصف الحقيقة، وأضاف إليها جانباً متخيلاً ليحرّف التاريخ ويضلل المشاهدين، ويرسم حدوده الخاصة عن الخطأ والصواب.

  • استخدام الوثائق الرسمية:

إن أذكى الحيل التي يستخدمها نجدة أنزور وأحدثها، هي استخدامه للعديد من الوثائق الرسمية ضمن المسلسل، ليحوله بلحظة من مسلسل درامي إلى تقرير وثائقي، ويستخدم أنزور أشكال عدة من الوثائق. ففي بعض المقاطع يكتفي بإحالتنا عبر الحوارات إلى أسماء مجازر حدثت بالفعل، مثل مجزرة جسر الشغور والجثث المرمية في نهر قويق، التي يمتلك النظام رواية رسمية عنها تختلف عن رواية المعارضة، ليدعّم المسلسل بهذه الأحداث التي حرّف من قبل تاريخها. وفي مقاطع أخرى يقوم بعرض المدن السورية ومخلفات الحرب كجزء من وثائقه ليبين لنا الدمار الذي خلفته الحرب. وهناك أيضاً نوع من الوثائق يستخدم في الدراما السورية لأول مرة، وهو القرارات الرسمية التي تعرض على الشاشة كاملةً وتُقرأ على لسان الراوي؛ أغربها على الإطلاق هو "ثناء" قدمه بشار الأسد تقديراً لـ"أبطال الجيش السوري" على تضحياتهم؛ ليكون هذا القرار هو أول مقطع بتاريخ الدراما السورية يرد فيه اسم بشار الأسد. المضحك في هذه الوثيقة بالتحديد أنها تبين ضآلة دور بشار الأسد في هذه البطولات الوهمية، التي إذا ما صادقنا عليها بالفعل سيتبين أن الأسد كان مجرد شاهد قدم "الثناء" أو "المرحى" بنهاية المطاف وكأنه معلم يثني على التلاميذ.

لكن كل الحيل التي صنعها أنزور لتشويه التاريخ تضيع هباءً، لأن المسلسل لا يرتقي حتى ليكون وثيقة مزورة بسبب رداءة صنعه فنياً، فالأداء فهو يبدو مبتذلاً وضعيفاً لأبعد الحدود، حيث يتحدث كل المعارضين المسلحين بطريقة غريبة للإيحاء بأنهم أشرار، كما كان يتم تصوير الإسرائيليين في المسلسلات القديمة، ويتم تصوير كل جنود الجيش بأسلوب وقور يثير السخرية لشدة البرود فيه. ناهيك عن مئات الأخطاء في الكوادر والحوارات والصراعات الدرامية التي يصنعها العمل؛ مثل مشاهد حفر الأنفاق، التي نشاهد فيها رجالاً يقفون بنصف النفق ويمثلون أنهم يحفرون، وكأن الغاية الغوص عمقاً بدلاً من التوسع أفقياً، كما تذكر المخططات التي يسردها الجنود.