كي نخرج من دائرة فشلنا

2024.05.08 | 06:26 دمشق

475555555555555
+A
حجم الخط
-A

يقول: "فلاديسلاف ب.سوتيروفيتش" الأستاذ بجامعة العلوم الإنسانية الأوروبية في ليتوانيا، إنّ النوع الأوروبي من القومية والهوية الوطنية القائمة على الإقليم/الأرض، لم تتجذر في الشرق الأوسط ولا في شمال إفريقيا، وبشكل عام بين العرب (المسلمين) لأن كُلاً من القومية العربية والإسلام، لا يعترفان بحدود الدولة الوطنية القائمة أو أي حدود سياسية بين العرب/أو المسلمين".

يلاحظ الأكاديمي الأوروبي أن هاتين الإيديولوجيتين، تهددان استقرار ووظيفة الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وأن الهوية الإسلامية هي الأكثر أهمية وأبعد أثراً في مجتمعاتنا من الهوية العربية، أي أنه يرى أن تخلفنا عن إنتاج الهوية الوطنية المطابقة (للوطن الأمة) أو(للقومية الوطنية) وعن تحقيق وظائف الدولة واستقرارها، ما هو إلا نتاج ثقاقة إسلامية محافظة، لم تزل مستقرة ولم تزل تنتج مفاعيلها وتدفع بأوهامها السيادية والدعوية، وتتخذ من أناسها رهائن لتلطعاتها وتحقيق أهدافها. ويشترك في هذا ما أنتجته الثورة الإسلامية الإيرانية 1979م التي ذهبت إلى حقن السياسة بالعقيدة وصهرهما في أحلام إمبراطورية، تسعى لاستعادة عظمة فارس التاريخية عبر اختطافها لراية تحرير المقدسات الإسلامية، من أيدي الأنظمة العربية المترهلة والعبور بجاذبية الشعار الشعبوي إلى اختراق بنية الأنظمة المجاورة والمجتمعات المحلية، لتحقيق عملية تغيير كبرى في المذاهب ولاسيما الأكثرية السنية، وصولاً إلى قاعدة شيعية موالية لولاية الفقيه، تسترد من خلالها القاعدة الواسعة والصلبة للسلطة التي استأثرت بها الأكثرية السنية تاريخياً، وارتكز سلطانها عليها منذ أيام معاوية بن أبي سفيان وعامة الأمويين.

بين الواقعية والتجاهل

لا شك أن الباحث قد وضع يده على مفصل مهم، ينطبق كلياً أو جزئياً على بعض الأنظمة العربية والإسلامية ومجتمعاتها وهو قد أعاق تقدمها فعلاً نحو تحقيق مفهوم (الدولة الأمة) أو (الدولة الوطن) وحجز الكيانات العربية خارج دائرة الحداثة والديمقراطية الليبرالية وقد امتد تأثيره إلى سوريا والعراق وغيرهما، غير أنه يتناسى عامداً أو لعدم معرفته بالتباينات، التي ميزت توجهات بعض النخب السورية المؤثرة، نحو إقامة دولة حديثة ونظام ديمقراطي ليبرالي منذ استقلالها عن السلطنة العثمانية وحكمها الطويل. ولأن المجال لا يتسع لعرض تداعيات تلك السياسات وتفاصيل الصراع، سأقتصر على الإشارة إلى أن الغرب الاستعماري هو الذي أنشأ تلك الدول وفقاً لمعاهدة سايكس بيكو وظل يتبناها خدمة لمصالحه، وهو ذاته الذي أعاق توجهها إلى الديمقراطية ونظام الحريات، عبر دعمه لأدواته التنفيذية والتآمرية المحلية.

يتناسى الباحث عامداً أو لعدم معرفته بالتباينات، التي ميزت توجهات بعض النخب السورية المؤثرة، نحو إقامة دولة حديثة ونظام ديمقراطي ليبرالي منذ استقلال سوريا.

ومنها إسقاط فرنسا مشروع الملك فيصل الذي اقترح إقامة ثلاث كيانات عربية، تشمل دولة بلاد الشام (سوريا ولبنان وفلسطين) حين لم يكن شرق الأردن موجوداً بعد، ودولة العراق ثم دولة مصر ولكن المندوب السامي حل تلك الوزارة المشتركة من هذه الكيانات الثلاثة.

ثانياً: في عام 1940م تمّ اغتيال الدكتور عبد الرحمن الشهبندر الشخصية الوطنية الأبرز في النضال السياسي ضد الفرنسيين واكتفت فرنسا بمحاكمة المنفذين لإغلاق ملف إجرامي كبير يطول بالتهمة جميل مردم وسعد الله الجابري ولطفي الحفار من رجال الكتلة الوطنية.

ثالثاً: ظلت النخبة الحاكمة تتأرجح بين محور العراق ومن خلفه بريطانيا والسعودية ومصر ومن خلفهما الولايات المتحدة، واتضح أن الأميركيين كانوا خلف انقلاب حسني الزعيم للتوقيع على اتفاقية أرامكو التي رفضها البرلمان السوري، وهم أنفسهم مع المحور السعودي المصري عملوا على إسقاط الشخصية التنموية خالد العظم صاحب أكبر كتلة برلمانية في انتخابات عام 1954 وفوز شكري القوتلي بالرئاسة، لأن العظم كان الأحرص على مصالح سوريا والأكثر حذراً من الدور الأميركي وفي وعيه أن سفيرهم في دمشق، كان قد اتصل برئيس الوزارة سعيد غزي وطلب منه منع ترشيح الشيوعيين لكنه رفض حرصاً على المناخ الديمقراطي ثم راحوا يدفعون بشخوص ذوي اتجاهات تخدم مصالحهم، ومنها الدفع إلى إقامة وحدة مرتجلة مع مصر، خوفاً من ذهاب سوريا إلى الكتلة الاشتراكية.

وفي عام 1955 نفذت جهات تابعة للحزب القومي السوري عملية اغتيال عدنان المالكي الشخصية الوطنية الأبرز في الجيش السوري حينذاك. ويمكن إرجاع كل هذه الترتيبات وغيرها كثير في إطار محاربة الشخصيات الوطنية الديمقراطية وخنق الحريات العامة والحفاظ على النخب التقليدية التي تنفذ سياساتهم.

أكد العطار حرصه على حرية التعبير والدعوة إلى دولة مدنية حديثة (من دون أن يتخلّى عن قناعته بأن الإسلام أكبر من الحركات والتيارات).

هل نقتدي بخيارنا؟

والآن حين يودع السوريون شيخاً متنوراً وجليلاً مثل عصام العطار إلى رحمة الله، علينا أن نستذكر مواقفه ومواقف أستاذه الشيخ مصطفى السباعي، الذي تحالف تحالفاً صادقاً وفعالاً في انتخابات 1954م البرلمانية الأنزه في تاريخ سوريا والمنطقة، مع كل من التنموي الكبير خالد العظم والقائد الشيوعي خالد بكداش وحقق الثلاثة فوزاً كاسحاً في دمشق، ثم أوكل السباعي إلى تلميذه عصام العطار العمل على إقناع علماء دمشق، بالموافقة على الدستور الديمقراطي السوري حينذاك.

وأكد العطار حرصه على حرية التعبير والدعوة إلى دولة مدنية حديثة (من دون أن يتخلّى عن قناعته بأن الإسلام أكبر من الحركات والتيارات) كما يقول الصحفي السوري إبراهيم الجبين، ثم منع البعث عودة العطار إلى سوريا بعد انقلابه عام 1963.

ومنذ بضع سنوات ودعت سوريا داعية السلام والمحبة والديمقراطي المرحوم جودت سعيد. ولم يزل في أوساطنا السورية العديد من المنورين الإسلاميين، الذين يؤمنون بالنهج الديمقراطي البديل. صحيح أن بعضهم، استقطبتهم الواجهات والمصالح وتحوّلوا إلى أتباع ومعهم وجوه من الديمقراطيين الليبراليين العريقين، واحترق الجميع في المحرقة السورية، التي أدارتها الدول والواجهات السياسية التابعة، ولكن هذا يجب ألا يثنينا عن المبادرة إلى العمل مع هؤلاء الإسلاميين ومنهم شيخ الجامع العمري أحمد الصياصنة والشيخ حكمت الهجري وكل من يترفع مثلهما عن المكاسب الخاصة ويتجه مع الجميع إلى ضبط مسار العمل السياسي والدفع به وفقاً لمعايير العقلانية والحداثة والمصلحة الوطنية الجامعة.

نحن اليوم بأمس الحاجة للتفاعل الخلاق بين جميع القوى الحية الباحثة عن دولة الحق والقانون، والتي لا سبيل إليها إلا بالتفاعل الخلاق في ساحة التنوير وثقافة الديمقراطية.

لأننا اليوم بأمس الحاجة للتفاعل الخلاق بين جميع القوى الحية الباحثة عن دولة الحق والقانون، والتي لا سبيل إليها إلا بالتفاعل الخلاق في ساحة التنوير وثقافة الديمقراطية بعيداً عن الإيديولوجيين الذين فشلوا وأفشلوا مسار ثلاثة عشر عاماً، وأسهموا في تهشم الوطنية السورية وضياعها في فوضى الصراع المتشظي مع النظام من جهة ومع الجولاني من جهة ثانية ومع قسد من جهة ثالثة، والجيش الوطني المتشظي بدوره.

وانطلاقاً مما سبق، لا يبدو أن أياً من هذه الانتفاضات والكيانات قادرة على الخروج من الحيزات الضيقة التي حشرت فيها والوصول إلى كتلة سورية وازنة، تعمل بالضغط على الدول الفاعلة، كي تتساعد بجدية مع المنظمة الدولية للوصول إلى حل سياسي وفق توافقات، تكررت منذ نهاية حزيرن 2012 وما زالت أسطوانة، تتردد من دون أن تجد عاملاً مشتركاً يقرب الجميع من الحل السياسي وإنهاء الاستبداد ونظام الجريمة الأسدي، الذي مازال يلهو ببقايا ألعابه الطفولية، بدءاً من استعراضات (البرنسيسة) أسماء على بؤس السوريات والسوريين وليس انتهاء باستعراضاته السياسية البعثية والعسكرية التي غدت ملهاة السوريين ومأساتهم في آن واحد.