icon
التغطية الحية

كيف تدخلت الحكومة لإنقاذ الليرة التركية؟ وما خلفية ونتائج نموذج الاقتصاد الجديد؟

2022.01.02 | 05:07 دمشق

fhybbp5wyaa6stl.jpg
إسطنبول - صالح عكيدي
+A
حجم الخط
-A

يبدو أنّ الـ20 من كانون الأول 2021 كان يوماً مفصلياً بالنسبةِ لبلدٍ يسعى جاهداً لاستعادة قوتهِ فيما أمكن من أصعدة، وعلى رأسها الاقتصاد، بعد مفاجأة أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قلبت الموازين وأعادت الأمل والثقة لملايين الأتراك بليرتهم، التي خيّمت عليها أسوأ سيناريوهات الانهيار.

دخلت الليرة التركية سوق التداول يوم 20 من كانون الأول بسعر 16.48 مقابل الدولار الواحد، بعد شهرين عصيبين كانت في بدايتهما قيمة الليرة 8.90 مقابل الدولار، وتجاوزت خلالهما نسبة التذبذب اليومي لليرة التركية مقابل العملة الصعبة الـ 10%، ولم تنفع تدخلات البنك المركزي العديدة في السوق عبر ضخ الدولار في تحقيق الاستقرار.

مع افتتاح الأسواق يومها، بدأت الليرة بخسارة القيمة بشكل جنوني، ليصل الدولار مقابل الليرة التركية إلى 18.41: أعلى قيمة له منذ 20 سنة. أعادت للأذهان أزمة عام 2001 التي عصفت بالاقتصاد التركي، وفي ظل غياب الحلول تحضر الجميع للأسوأ. تشفت المعارضة وبدأت نشوة السلطة الدانية تجري في عروقها، حتى بعض أنصار أردوغان الأوفياء لم يخفوا شكوكهم وامتعاضهم.

كالساحر الذي يحمل قبعةً مليئة بالمفاجآت كما شبهه الصحفي التركي العريق "جنيت أوزدمير "، وفي ختام اجتماعه مع الحقيبة الوزارية الأخير لعام 2021، أطل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على الشعب التركي في حدود العاشرة مساءً من ذلك اليوم الاستثنائي، ليعلن عن باقة من اللوائح الاقتصادية ستعيد قيمة الليرة مقابل الدولار لحدود الـ 13، ومعها الأمل برؤيته الاقتصادية التي عارضها حتى جزء من رجالاته خبيري الاقتصاد.

رغم حالة الصدمة وعدم الفهم التي تعرض لها الجميع، طغت احتفالات أنصار أردوغان على البيئة العامة، أما المعارضة ففضلت السكوت في البداية، قبل أن تشكك عبر بعض منابرها بما حدث استناداً إلى تشكيلة واسعة من نظريات المؤامرة.

لا يمكن فهم ما حدث يوم 20 من كانون الأول بدون سياقه المتمثل بنموذج اقتصاد تركيا الجديد، وما واجهه من عوائق. أما تخمين نتائجه المحتملة، فيرتبط بفهم أبرز إيجابيات وسلبيات ما حمله من لوائح اقتصادية.

نموذج جديد للاقتصاد التركي

يصر أردوغان منذ سنوات على نموذج جديد للاقتصاد التركي، الذي يعاني من نسب تضخم عالية نسبياً يرافقها عدم استقرار في الأسعار، يحقق بسلسلة من الإجراءات أولها تخفيض نسب الفائدة في البلاد. مخالفاً بذلك رأي شريحة واسعة من خبراء الاقتصاد، حتى تطلب الأمر إقالة العديد من رؤساء البنك المركزي، وعدد آخر من مسؤولي الحقيبة الوزارية الاقتصادية التركية.

يوجب الرأي "التقليدي" في الاقتصاد رفع نسب الفائدة في مواجهة التضخم، فلرفع نسب الفائدة تأثيران مباشران على التضخم في السوق، الأول يقلل من فائض الطلب وبالتالي يخفض الأسعار، والثاني يجذب بنسب الفائدة العالية الاستثمار الأجنبي غير المباشر وبالتالي عملة صعبة إضافية.

أما بالنسبة للزعيم التركي ومن استقر بهم الحال ليديروا العجلة الاقتصادية والمالية في البلاد، فالفائدة ورغم نسبتها التي تعد من الأعلى على مستوى العالم، لا تقدم حلاً مستداماً لمشكلة التضخم في تركيا، وتعيق عجلة الإنتاج. لذا وفي ظل الخيارات المحدودة التي يقدمها النموذج الاقتصادي الحالي، لا بد من اتخاذ خطوات جريئة وفق نموذج اقتصادي جديد. 

يهدف النموذج التركي الجديد إلى تحويل الاقتصاد من أول ينمو مع عجز في الحساب الجاري (الميزان التجاري)، لآخر ينمو مع فائض في الحساب الجاري. عبر سلسلة من الخطوات تبدأ بخفض الفائدة لزيادة الاستثمار المباشر، ينتج عنه ارتفاع بسبل الإنتاج وانخفاض بالبطالة، ثم ارتفاع بالتصدير وانخفاض بالاستيراد، وصولاً لانخفاض بالدين الخارجي وزيادة في أرصدة الدولار.

 

Picture5.jpg
(نموذج اقتصاد تركيا الجديد: فائدة منخفضة -إنتاج عالٍ -توظيف عالٍ -تصدير عالٍ -استيراد منخفض -دين خارجي منخفض)

 

هجرة الأموال للدولار

لم ترتفع أصوات خبراء الاقتصاد المعارضة لخطة الحكومة التركية عن فراغ، إذ سينتج عن تخفيض الفائدة في ظل نسبة تضخم تتجاوز الـ 20%، وصول معدل الفائدة الحقيقي لقيمة سلبية. ما سيدفع بأصحاب المدخرات من الشركات والأسر المعيشية للجوء للعملة الصعبة من أجل حماية قيمة مدخراتهم، مسببين بزيادة الطلب على العملة الصعبة مقابل العملة المحلية، وبالتالي انخفاض قيمة الأخيرة وازدياد التضخم بشكل طردي.

أي وفي حال وضع أحدهم مدخراته من الليرة التركية في البنك بعد أن خفض المركزي التركي قيمة الفائدة لـ 14%، ستكسب أمواله هذه النسبة آخر السنة. لكن في المقابل ستخسر 20% من قيمتها بسبب التضخم، ليكون بذلك معدل الفائدة الحقيقي سالباً 6%. إذاً لما تحمّل عناء الادخار بالليرة التركية إذاً والعملة الصعبة تحمي القيمة الفعلية للأموال في أقل تقدير، بينما تخسر المدخرات في الليرة التركية من قيمتها حتى مع أرباح الفائدة.

لذا من بديهيات الاقتصاد أن انخفاض الفائدة لما تحت نسبة التضخم سيسبب بهجرة أموال المدخرات من العملة المحلية إلى العملات الصعبة. ما يعني انخفاضاً في قيمة العملة المحلية، ينتج عنه المزيد من التضخم، يتبعه المزيد من الطلب على العملة الصعبة، ثم ازدياد سرعة انخفاض قيمة العملة المحلية وارتفاع أكبر للتضخم، إلخ. وهكذا تستمر الحلقة المفرغة بالتوسع طردياً حتى يحدث الأسوأ.

وهذا تحديداً ما بدأ بالحدوث خلال بضعة الأشهر الممتدة من إعلان البنك المركزي التركي عن أول التخفيضات في الفائدة حتى ليلة 20 من كانون الأول، إذ بلغت نسبة ما حوّل للعملة الصعبة من مدخرات الأتراك في البنوك 62.7%. رقم قياسي تجاوز نسبة 61.5% التي شهدتها أزمة 2001.

هذه الحالة من ضياع الثقة بالليرة التركية بعد انخفاض الفائدة لنسب أقل من التضخم، وما نتج عنها من عدم استقرار في الأسعار، هي بالتحديد ما استندت عليها الآراء المعارضة، إذ كيف يمكن للاستثمار المباشر ثم الإنتاج أن يرتفع والسوق غير مستقر.  

 

Picture6.jpg
نسبة العملة الصعبة من كامل مدخرات الأتراك في البنوك عبر السنوات

 

الدولة تتكفل بالحل

غاب الحل الذي جاء به أردوغان مساء يوم 20 من كانون الأول عن أذهان ونقاشات الخبراء حتى ساعة إعلانه. لذا ورغم تأثيره السحري بقلب مؤشر الليرة من نسب خسارة قياسية لنسب ربح قياسية في اليوم نفسه، كثرت في الأيام اللاحقة النقاشات التي تسعى لفهم ومساءلة جدوى نظام "ودائع الليرة التركية المحمية بالصرف".

يسعى هذا الحل لتشجيع الأتراك على إبقاء مدخراتهم في الليرة التركية، وذلك بتقديم تعويض عن الخسارات المحتملة إذا ارتفع سعر الصرف، بضمانة خزينة الدولة.

 

 

إذ وفقاً للتنظيم الجديد، يمكن لأصحاب مدخرات الليرة التركية من الأفراد أن يودعوا أموالهم في البنك لفترات استحقاق تبلغ 3، 6، 9، أو 12 شهراً. وحين انتهاء فترة الاستحقاق، بالإضافة إلى المكاسب التي سيحققونها عبر الفائدة، سيتم تعويضهم من قبل الدولة عن الخسارة المحتملة من فارق الصرف بين تاريخ الإيداع وتاريخ الاستحقاق.

مثلا لنفترض أن أحدهم فتح حسابَ "ودائع الليرة التركية المحمية بالصرف" بقيمة 100,000 ليرة تركية، وبفترة استحقاق تبلغ 12 شهراً. ولنقل فرضاً أن صرف العملة الصعبة ارتفع مقابل الليرة بنسبة 20% خلال فترة الـ 12 شهراً هذه. سيحقق هذا الشخص أرباح الفائدة المتفق عليها، وعلاوةً على ذلك ستعوضه الدولة التركية عن الـ 20% التي كان سيكسبها في حال إبقاء مودعاته في العملة الصعبة.

آفاق المستقبل

لعل العائق الرئيسي أمام تحقيق نموذج اقتصاد تركيا الجديد (فائدة منخفضة -إنتاج عالٍ -توظيف عالٍ -تصدير عالٍ -استيراد منخفض -دين خارجي منخفض) يكمن في عدم الاستقرار في أسعار السوق. أما المسبب الأساسي للأخير فهو الارتفاع المستمر لسعر الصرف.

يرى خبراء الاقتصاد أن الخطوة التي اتخذتها الحكومة التركية يوم 20 من كانون الأول إيجابية لكبح جماح الطلب على العملة الصعبة على المدى القصير، لكن مع دعوات لدعمها على وجه السرعة بسياسات متنوعة لتحقيق الاستقرار على المدى البعيد.

ويحذر الخبراء من احتمال عجز هذه الخطوة لاحقاً عن تحقيق الاستقرار في سعر الصرف، ما يعني فشل تحقيق نموذج اقتصاد تركيا الجديد، وتحمّل خزينة الدولة التي تعوض المواطنين خسارات الصرف لما فوق طاقتها، وبالتالي المزيد من التضخم.   

 

 

لم يعد نموذج الاقتصاد التركي الجديد، الذي بدأت الحكومة بالترويج له بثقة بين المواطنين ورجال الأعمال، مجرد حبر على ورق. إذ بدأ الاقتصاد التركي بتحقيق فائض في الحساب الجاري (الميزان التجاري)، وسعر الصرف مستقر نسبياً لما كان عليه من حال في الأشهر الماضية.

كما أنه من المنتظر أن يتم الإعلان عن سياسات ولوائح إضافية متنوعة تدعم النموذج الجديد، خصوصاً بعد وصول من يؤمن به لدفة القيادة لسياسة البلاد الاقتصادية والمالية. ويبقى السؤال الأهم، متى سيخرج علينا أردوغان بمزيد من مفاجآت قبعته السحرية؟