كلمةُ في ردود الأفعال على اللجنة الدستورية

2019.11.05 | 17:39 دمشق

20191101_2_39098617_49054089.jpg
+A
حجم الخط
-A

أثار بدءُ أعمال اللجنة الدستورية السورية في جنيف قبل أيامٍ وخاصّة الكلمات التي أُلقيت في الجلسة الافتتاحية، لدّي الرغبةَ بالكتابة عن بعض التفاعلات الخاصّة بهذا الموضوع. يبدو للوهلة الأولى ألّا جديد في مسألة انقسام السوريين حول أيّة قضيّة أو أيّ حدث، سواءٌ أكان كبيراً أم صغيراً وسواءٌ أكان مهمّاً ومصيرياً أم هامشياً غير ذي قيمة. لكنني أعتقد أكثر من أي وقت مضى بتجذّر بعض السلوكيّات التي ابتدعناها وعملنا عليها ردحاً طويلاً من الزمن. كذلك أظنّ أنّ بعض السلوكيّات بدأت تشقّ طريقها بيننا للتعبير عن حالة جديدة آخذة في الاتساع التدريجي، وثمّة من يلاحظُ أنّ الأجواء المصاحبة لأي حدث في سوريا تترافق مع اتجاهات نمطيّة باتت شبه معروفة تقريباً وأخرى مختلفة ما تزال قيد التطوّر.

اتجاه يذهب دوماً إلى التشكيك بالدوافع والمرجعيات والأهداف، وهذا غالباً ما ينطلق من نفس المقدّمات التي تتلخّص بالمصطلح المحبّب "المؤامرة". كل شيء محكوم بالمؤامرة من قبل أصحاب وجهة النظر هذه. لا يهمّ من هم المتآمرون ولا صفاتهم ولا دوافعهم، فقد يكون هؤلاء دولاً كأميركا أو بريطانيا العظمى أو جزر القمر لا يهم، وقد يكونون مجموعات أو حركات مثل الصهيونية والماسونيّة أو حتى النازيّة الجديدة، كما يمكن أن يكونوا أفراداً مثل ترمب أو بوتين أو هيلاسيلاسي أو مانجستو هيلا مريام لا يهمّ كذلك. المهمّ أنّ المؤامرة قائمة وهدفها منعنا من تحقيق الانتصار، وهذا الاتجاه عميمٌ وغير محصور بطرف من الأطراف المتناحرة في سوريا، فلا هو حكر على معسكر النظام ولا على معسكر الثورة، فهو موجود لدى الجميع بما فيهم أصحاب المشاريع العابرة للوطنيّة السورية.

اتجاه آخر يذهب إلى تبرير كلّ شيء يحصل من طرف معسكرهم، سواء أكان قصفاً بالكيماوي أو بالنابالم الحارق أو بالبراميل المتفجرة، أم حرق البشر أحياءً أو احتجازهم في الأقفاص أو قتلهم جوعاً أو تحت التعذيب أو رجمهم لتطبيق حدود الشرع كما يراها "أولي الأمر منهم". كذلك يُشرعن هؤلاء التدخّل الأجنبي والتبعيّة للرايات والمصالح الخارجيّة، ويبررون عمليات التهجير القسري واحتلال المدن وإفراغها من سكانها، ويبررون السرقة والنهب سواء أكانت تحت مسمّى الغنيمة أم التعفيش أم المصادرة بموجب أحكام القضاء أو غيرها من الجهات المتحكّمة. يزيد هؤلاء في الطنبور نغماً عندما يفرّقون بين المجرمين والضحايا على أساس انتماءاتهم القومية أو الدينية أو الطائفية أو المذهبية أو المناطقية، أو حتى على أساس الجندر بين الرجال والنساء.

اتجاه ثالث لا يمكن إرضاؤه مهما حصل أو جرى، وأصحاب هذا الاتجاه يمتلكون سقفاً مرتفعاً من المطالب أو الشعارات الشعبوية لا يمكن الوصول إليه أبداً. أياً كان الموضوع أو الطرح وأياً كانت الفكرة أو المسألة ثمّة ما هو أكثر أو أكبر بنظرهم، أو ثمّة ما هو أفضل وكان يجب أن يتمّ تبنّيه أو الإتيان به. فلو أخذنا مثالاً من ساحة السوريين المناهضين للنظام كحالة تعيين أو انتخاب أو تزكية شخص ما لشغل مركز

اتجاه رابع ينتقد من باب الحرص على تصويب الأمور، لكنّه يبقى عند هذا الحد النظري ولا يتجاوزه إلى محاولة الفعل الواقعي.

أو وظيفة أو مهمة ما، ستجد دوماً من يعترض، إما على المهمّة أو الوظيفة أو المركز أو على آلية الاختيار أو على الشخص ذاته أو على التوقيت أو على أي شيء آخر. قد نجد شيئاً مماثلاً في صفوف الرماديين والموالين أيضاً، مع اختلاف كبير بالنوع والكمّ بسبب اختلاف هامش الحريّة بين الساحتين بالطبع.

اتجاه رابع ينتقد من باب الحرص على تصويب الأمور، لكنّه يبقى عند هذا الحد النظري ولا يتجاوزه إلى محاولة الفعل الواقعي. أكثر أصحاب هذا الاتجاه محسوبين على صفوف الثوّار والمعارضين للنظام، وهؤلاء لديهم إحساس عميق بالمسؤولية، لكنّهم غير قادرين على التأثير الفعلي بالمحيط الخاصّ بهم. يفتقد هؤلاء لأدوات الفعل في كثير من الأحيان بسبب طبيعة البيئة الاجتماعيّة الحاضنة أو بسبب قلّة الموارد البشرية والمادية أو بسبب ظروف العسكرة التي مرّت بها الثورة بعد عامها الأول وحتى الآن أو بسبب طبيعتهم وتكوينهم الذاتي نفسه.

اتجاه خامسٌ يُعلي صوت العقل والمنطق والخبرة ويحمل أجندة وطنيّة واضحة دون مزاودات شعبويّة ودون تسخيف بالتضحيات أو تهويل بالعقبات. بدأ هذا الاتجاه منذ الأيام الأولى للثورة وبقي ضعيفاً بسبب كثير من الظروف والعوامل، لعلّ أهمّها ارتفاع صوت العنف بسبب الحلّ الأمني ولاحقاً العسكري الذي اعتمده النظام، وردّة الفعل بتحوّل الثورة من السلمية إلى العنف الثوري المسلّح كطريق جديد لإحداث الانتقال المنشود. لكنّ هذا الاتجاه بدأ يتعافى ويشتدّ عوده، وبات الآن يفرض نفسه بعد أن جرّب الناسُ طيلة أعوامٍ كثيرة صوت الجنون والعنف والدمار والإقصاء. يفكّر أصحابُ هذا الاتّجاه غالباً بعقل بارد وبواقعيّة كبيرة رغم أنّهم في الغالب الأعم ممّن انحازوا لصفوف الثائرين والمعارضين للنظام، وقسم لا بأس به منهم يمكن تصنيفه - بالمصطلحات الثوريّة الدارجة - مع الرماديين.

الحقيقة أنّ وجود هذا الاتجاه بات ضرورياً في المرحلة الراهنة أكثر من أي مرحلة مضت، فعلى مدار السنوات الثماني المنصرمة لم نبرع ولم نتفوق بشيء – نحن المحسوبين على الثورة والمعارضة – كما فعلنا بتحطيم الرموز والقادة والشخصيات والكوادر. قد نكون برَعنا

بنظرة سريعة إلى وسائل التواصل الاجتماعي وبتمعّن بسيط بالفضاء العام الذي يلفّنا، يمكننا أن ندرك ببساطة حالات التخبّط والضياع والفراغ التي نعيشها

أيضاً في تحطيم المقدّس وفي هدم جدار الخوف، لكننا لم نستطع التمييز بين الواجب هدمه والواجب الإبقاء عليه، كما أننا لم نسعَ لبناء رموزنا من الأحياء، ولا اختيار قادة لنا من بيننا ودعمهم وتعهّدهم للوصول إلى الفاعليّة المطلوبة والتطوّر المستمر.

بنظرة سريعة إلى وسائل التواصل الاجتماعي وبتمعّن بسيط بالفضاء العام الذي يلفّنا، يمكننا أن ندرك ببساطة حالات التخبّط والضياع والفراغ التي نعيشها، فلا استطعنا بناء مؤسسة إدارية منضبطة، ولا استطعنا إنتاج فكر تنظيمي متطوّر، ولا تمكّنا من إنجاز خطوات سياسية مهمة قادرة على ترجمة التضحيات والفواتير الباهظة التي دفعها السوريون، ولا حتى استطعنا بناء جوّ من الألفة والثقة فيما بيننا. ليس هذا من باب جلد الذات ولا من باب التخذيل، لكنّه واقع لا بدّ من الحديث عنه والإشارة إليه بكلّ وضوح كي نتمكّن من تجاوزه في أقرب وقت ممكن.

كلمة أخيرة في بعض ردود الأفعال حول اللجنة الدستوريّة عنوان هذا المقال. قد نكون من المعارضين لهذه اللجنة أو من المؤيدين لها، وهذا غير مهم إطلاقاً بقدر أهمّية الأسلوب الذي نعبّر به عن موقفنا من اللجنة أو من غيرها من القضايا والأحداث. سيكون علينا التريّث كثيراً عند التفكير ببناء سوريا الجديدة بنفس منطق تفكيرنا الراهن وبنفس آليات عملنا الحاليّة. النقد مطلوب، والتولّي عنه موقف سلبيّ لا إيجابي، لكن أي نقد هذا اللي نحتاجه لبناء ذواتنا وجموعنا ومؤسساتنا وسوريتنا الجديدة، وهل يكفي النقد النظري أم نحتاج لتقديم البدائل القابلة للتنفيذ، وهل يكفي الكلام أم علينا أن نبذل جهوداً حقيقية للفعل والعمل؟

هذه وغيرها الكثير من الأسئلة المشابهة، مما يتوجّب علينا جميعاً الوصول إلى إجابات حقيقية صادقة عليها، أو المحاولة على الأقل.