كراتشكوفسكي: الغريب الروسي عاشق المخطوطات العربية 

2019.08.16 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تعرَّف المترجم محمد منير موسى على تراث الكاتب الروسي أغناتي كراتشكوفسكي (1883-1951) أثناء عمله في التدريس في جامعات طاجيكستان في الاتحاد السوفيتي وقدم لنا ترجمة لذكريات هذا المستشرق الشهير إلى اللغة العربية.

يحكي لنا كراتشكوفسكي قصة ولعه بالمخطوطات العربية منذ دخوله المكتبة في بطرسبرج ومساعدة خازن المخطوطات له، وكيف شعر بجلال فارق الزمن وهو يمسك برق عمره ألف عام، ويشرح لنا بعض من قصص تلك المخطوطات، أنه يكاد يتغزل في المخطوطات وتعلقه بها، أنها تحيطه في ليالي السهاد ووقت المرض وحين يصاب بالحمى، وتقترب منه بتواضع وهي خائفة تسأله في استحياء ألم تنسنا؟ ألن تبتعد عنا؟ أتذكر كيف أعدتنا إلى الحياة؟ وبعضها على رقية صفراء يحمل حروفاً  كوفية وبعضها على كتابة بطيئة لرهبان سيناء، وبعضها نسخ فاخرة من الورق الشمعي جلبت من مكتبات سلاطين المماليك، ونسخ أخرى فقيرة متواضعة.

نراه يتصفح مخطوطاً للإنجيل باللغة العربية وعليه اسم القيصر ألكسندر نيقولايفيتش، ومع التقصي الذي قام به علم أن هذا المخطوط إهداء من رزق الله حسون وهو قومي هاجر إلى روسيا، ولقد شعرت بالريبة من رزق الله حسون بعد ذكر الكاتب أنه صديق للمستشرق إدوارد هنري بالمر والذي قتله البدو وكان جاسوساً.

ثم نراه يقرأ عند بروكلمان في كتابه "تاريخ الأدب العربي" أن كمال الدين ابن العديم مؤلف "بغية الطلب في تاريخ حلب" لديه مخطوطة في مكتبة بطرسبرج فيسرع إلى أمين المخطوطات يسأله عنها وهو يشعر بالغيرة أن يعرف بروكلمان الألماني ما لديهم في روسيا من مخطوطات، لكنه يجد بروكلمان مخطئا في ذكر المخطوطة وأنه التبس عليه الأمر بين كمال الدين وهو خطاط وكمال الدين المؤرخ الحلبي المشهور، ويعود مستشرقنا إلى بيته وفي نفسه بعض الحسرة لأنه لم يحظ بمشاهدة خط ذلك المؤرخ، إلى أن يقابل كتابة بخط كمال الدين نفسه في مكتبة ليدن كتبها في بغداد عام 1257م أي قبل عام من تدمير هولاكو لدار السلام.

ويشير كراتشكوفسكي إلى اكتشافه خطأ في فهارس أحد الكتب والتي صنفت أحد المخطوطات بأنها منسوبة للتبريزي لكنه بعد قراءة النص فهم أن الرسالة هي لأبي العلاء المعري نفسه حافظ عليها تلميذه، وهكذا قاده تصحيح هذا الخطأ إلى صاحبه أبي العلاء المعري الذي يصفه بأنه منحه السرور والمتعة في طريق الحياة

ويشير كراتشكوفسكي إلى اكتشافه خطأ في فهارس أحد الكتب والتي صنفت أحد المخطوطات بأنها منسوبة للتبريزي لكنه بعد قراءة النص فهم أن الرسالة هي لأبي العلاء المعري نفسه حافظ عليها تلميذه، وهكذا قاده تصحيح هذا الخطأ إلى صاحبه أبي العلاء المعري الذي يصفه بأنه منحه السرور والمتعة في طريق الحياة والذي صاحبته مؤلفاته في القاهرة وليدن وعلى شاطىء البحر الأسود.

يسافر كراتشكوفسكي إلى بيروت ليتعلم الحديث باللغة العربية ولا تسعفه اللغة الفصحى فيسكن في قرية لبنانية ليتعود على لغة حديث الناس، ويشعر أهل القرية بالفضول من هذا الموسكوبي الذي يعيش بينهم ويحاولوا دعوته والحديث معه لكنه يشتري ولا يبيع، وطبعه يتميز بالانطواء وحب العزلة، ومن جديد شعر بالتعطش للكتب فهو يشعر بالحرية مع الكتب أكثر منه مع الناس، ثم ذهب مستشرقنا إلى جامعة القديس يوسف ووجد في جماعتها العلمية صحبة فهناك العديد من المستشرقين مثل المؤرخ لامنيس ورونزفال باحث اللهجات العربية، وهناك شيخو الذي يسير بسرعة وعلى وجهه علامات البشاشة وفي يده مجلته المشرق.

وفي الطابق الأعلى من مبنى جامعة القديس يوسف، كان كراتشكوفسكي يقضي الساعات وراء طاولة صغيرة من الثامنة صباحاً إلى الثامنة مساء، واضعاً قدميه على مقعد خشبي، إذ إن الأرض كان بلاطها من الحجر، وقد قضى هناك شتاءين، وهو يطالع المخطوطات.

وفي بيروت تعرف على أدب المهجر وتعرف على أمين الريحاني وكذلك محمد كرد علي قبل أن يكونوا مشهورين ومعروفين، وكان يقابل من يأتي من المستشرقين لبيروت مثل "نالينو" والذي تكونت صداقة بينهم

وفي بيروت تعرف على أدب المهجر وتعرف على أمين الريحاني وكذلك محمد كرد علي قبل أن يكونوا مشهورين ومعروفين، وكان يقابل من يأتي من المستشرقين لبيروت مثل "نالينو" والذي تكونت صداقة بينهم، وعندما زار مصر وقابل جورجي زيدان وتكلم أمامه باللهجة السورية ترقرقت الدموع في عيني جورجي من شعوره بالحنين لوطنه، نراه مقتنعا بالأفكار القومية والتي تدعو للانفصال عن العثمانيين فهكذا سمع من كثير من العرب، وكان ينشر في الصحف بتوقيع "الغريب الروسي".

ثم زار المكتبة الخديوية في القاهرة، ويحكي لنا عن مهنة انقرضت هي مهنة ناسخي المخطوطات، والذين ارتابوا منه في البداية وحسبوه يريد منافستهم في عملهم إلى أن أوضح لهم أنه باحث فقط ولا يعمل في النسخ، وقد ذهبت هذه المهنة بعد ظهور ماكينات التصوير الضوئي، ثم يزور مكتبة الأزهر ويطالع ما فيها من مخطوطات، أما المكتبة الثالثة في القاهرة فهي مكتبة أحمد تيمور باشا لكنه لم يستطع زيارتها بسبب سفر تيمور باشا خارج مصر، لكن الرسائل لم تنقطع بينهم خصوصا لنشر رسالة الملائكة للمعري، هكذا كان يتجول الغريب الروسي حتى يصل للمكتبة الخالدية في القدس، والمكتبة المتربولية المارونية في حلب، مثل النحلة التي لا تمل من شم زهور ورد المكتبات والمطبوعات.

وفي الإسكندرية يجد مخطوطة فيها شعر سلامة بن جندل وقام بنسخها وسافر إلى بيروت وهناك اكتشف أن شيخو سينشر ديوان سلامة بن جندل فسأله من مخطوطة الإسكندرية؟ فقال شيخو بل من مخطوطة إسطنبول فأخرج له كراتشكوفسكي نسخة من مخطوطة الإسكندرية وقابل شيخو بين النسختين واستفاد منها، وأخذ شيخو يفتح المخطوطة ويقول "شيء عجيب".

أما ذكاؤه في الحصول على المخطوطات فقد حاول أن يطلع على مخطوطات البطريرك غريغوريوس الرابع في دمشق وعندما أخذ يماطل في مشاركته، قال كراتشكوفسكي له أنه سيعود لموسكو ولن يكونوا مرتاحين عندما يقول لهم أنه رأى مخطوطات الجامع الأزهر وجامعة القديس يوسف في بيروت، ومجموعات الأسقفية المارونية في حلب، أما في دمشق فإن البطريرك صديق روسيا لم يطلعه على المخطوطات، وعندها أبلغه البطريرك بإمكانية الاطلاع على المخطوطات، لكن البطريرك الماكر سافر في اليوم التالي مما أغضب مستشرقنا وسافر لموسكو، ومن عجائب القدر أن البطريرك زار موسكو لحضور أحد احتفالات القيصر، وهناك أهدى لمكتبة القيصر أربعين مخطوطة كثير منها مهتم بالأدب المسيحي، واستطاع المستشرق الاطلاع على هذه المخطوطات بعد جهد في الحصول على إذن بدخول مكتبة القيصر عندما تكون العائلة خارج بطرسبرج، وفي هذه المخطوطات وجد كراتشكوفسكي كثيرا من المخطوطات التي تعب في البحث عنها والتفتيش عليها.

إن كراتشكوفسكي هو أول من اكتشف مخطوطة كتاب "المنازل والديار" للأمير أسامة بن منقذ، وهو كذلك من ترجم كتاب "كليلة ودمنة" إلى اللغة الروسية وترجم أيضا "الأيام" السيرة الذاتية لطه حسين، وأشرف على ترجمة وطباعة "ألف ليلة وليلة" إلى اللغة الروسية وعلى ترجمة القرآن الكريم.

لن تمل من حكايات الكاتب فهو يحكي قصص المخطوطات بشغف ويشعرك بأسرار تلك المهنة، كتب مستشرقنا هذا الكتاب "مع المخطوطات العربية" في موسكو وضواحيها، حيث انتقل لها بعد إصابته بمرض عضال وقت حصار لينينجراد، وكانت ذاكرته هي المعين الذي يكتب منه حيث كانت مكتبته بعيدة عنه، ولقد نبنهنا في مقدمة الكتاب أن بعض الناس قد يروا في حديثه فيضاً من العاطفة والرومانتيكية، إلا أنه لا يخاف هذا اللوم: فهكذا عاش في عمله وهكذا كانت ذكرياته، وعلى مقبرته وضع شطر بيت لأبي العتاهية "الموت باب وكل الناس داخله".

كلمات مفتاحية