قمة التناقضات الحادة والمواربة المبطنة

2023.05.30 | 07:01 دمشق

آخر تحديث: 30.05.2023 | 07:01 دمشق

قمة التناقضات الحادة والمواربة المبطنة
+A
حجم الخط
-A

لم تشكل القمم العربية بتاريخها الطويل موقعًا سياسيًا فاعلًا ينتج عنه مواقف تصب في اتجاه المصلحة العربية على مستوى شعوبها وتطور بناها السياسية والاقتصادية، بقدر تكريس دور زعماء دولها السلطوي في حكم شعوبهم. فيما هي في دورتها الحالية تحاول تغليف مخاوفها والحدة المتسمة بها الاستقطابات والتناقضات الدولية والإقليمية العربية بالفاعلية مع محاولة اتخاذ دور لها في تجنب شتى التناقضات التي تعصف بالمنطقة. مترافق هذا مع مبادرات تشي بتلطيف الأجواء السياسية وتخفيف حدة توجهاتها، لتبدو كأنها تنظر بعين حذرة تجاه أحداث المنطقة والمتغيرات العالمية. فهل تخطو السياسة العربية رويدًا باتجاه التمركز على ذاتها بعيدًا عن الاستقطاب العالمي الحادث بحكم الفورة الروسية الغازية أوكرانيا مهددة أمن أوروبا والسلم العالمي؟ وهل يمكنها الخروج من دائرة الأثر الأميركي المقابل أو الضغوط الروسية القاسية؟

انتهت أعمال القمة العربية منذ أيام، ولم تزل ملفاتها محط تكهن متباين الرؤى، سواء بقدرتها على اتخاذ موقف حيادي من الملفات الدولية، أو إمكانيتها على تنفيذ خطواتها السياسية في حلحلة ملفات المنطقة بشكل سلسل. التحليلات تكتنفها من جهات متعددة ولا تستقر على خط فاصل واضح، فقد حوت القمة بين طياتها العديد من التناقضات الحادة سواء في طبيعة الحضور، أو نوعية المشكلات التي طرحت على جدول أعمالها، أو الطريقة التي أديرت بها.

مفاجأة حضور زيلينسكي للقمة كادت تطغى على حضور رئيس السلطة السورية القمة بعد انقطاع عنها للعام الثاني عشر

مؤشرات القمة العربية تبدي في ظاهرها محاولات استيعاب لجملة من التناقضات الدولية الحادة، كان أبرزها حضور الرئيس الأوكراني زيلنيسكي وإلقائه خطابًا منتقدًا بعض الدول العربية لعدم مساندتها لمساعي أوكرانيا في خطتها من أجل السلام في حربها مع موسكو، بمقابل هذا كانت رسالة الرئيس الروسي، بوتين، الموجهة عن بعد، تحمل دلالات مختلفة مؤكدًا على أهمية القمة ودورها الإيجابي في ملفات المنطقة وتجاهل حضور زيلنيسكي.

مفاجأة حضور زيلينسكي للقمة كادت تطغى على حضور رئيس السلطة السورية القمة بعد انقطاع عنها للعام الثاني عشر، منذ أعلن تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية عام 2011، بمقابل عدم قدرة المعارضة السورية على ملء فراغ المقعد السوري. فالتباين الحاد بين حضور حليف موسكو المباشر والمدعوم منها بالبقاء على رأس السلطة السورية، مقابل حضور المستهدف المباشر منها لاحتلال دولته، يحمل دلالات ومؤشرات عربية توحي بتلطيف أجواء السياسة العالمية ومواربة استقطاباتها والخروج من معادلتها. حيث إنه من المعروف جيدًا موقع أوكرانيا التي تحاول روسيا احتلالها وفرض شروطها على العالم من خلالها على خارطة القوى العالمية، بحيث تصبح روسيا دولة قادرة على تشكيل قطب عالمي منفرد بموازاة القطب الأميركي، فيما سوريا دولة حليفة ومساندة لروسيا في الموقع المعاكس تمامًا لأوكرانيا.

موقع الجامعة العربية اليوم كان من الممكن قراءته على أنه يوحي بخروج العرب وقمتهم من دائرة التأثير الأميركي المباشر فيما لو اقتصر الحضور على إتمام المبادرة العربية المعنونة بعودة استيعاب سوريا في حاضنتها وطرح حلول لمشكلات اليمن والسودان وسوريا، بينما أتت دعوة زيلنسكي لتقول خلاف هذا! وإن لم يكن خلافه كلية بقدر إشارتها الواضحة لطرفي الصراع العالمي المحتدم في أوروبا بين روسيا وأوكرانيا ومن خلفها الناتو، وأن موقف الجامعة العربية اليوم متوازن تجاه كل الأطراف الدولية وخارجة عن دوائر الاستقطاب العالمي الحاد وعدم الانجرار لمستنقعاته العسكرية.

قمة العرب مفخخة بالتناقضات، مليئة بالمفاجآت، ومع هذا حافظت على برتوكولات السياسة الدولية في نوعية الخطب التي ألقاها زعماؤها ومدتها وطريقتها. قمة مختلفة عن تلك التي دعت ووافقت على غزو العراق من قبل التحالف الدولي وبمقدمته أميركيا. قمة تحاول الخروج من الدعوات للعسكرة والحرب، تحاول إنهاء ملف اليمن العسكري بعد طول حرب، وإنهاء الملف المستجد السوداني العسكري اليوم، وتحاول إظهار جديتها بأنها مع السلم العالمي ومبادرة أوكرانيا لإحلال السلم وإنهاء الحرب الدائرة على أرضها. كما تحاول إتمام خطواتها في إيجاد خارطة طريق للحل السوري. وتبدو هذه الأخيرة هي النقطة الأبرز والأكثر تعقيدًا في الدائرة العربية. فالمصلحة العربية اليوم تطرح شعارًا ضمنيًا مفاده تلافي أية خطوات تصعيدية عسكرية قد تحدث في المنطقة تهدد أمن الخليج العربي، خاصة إذا ما كانت إيران هي المستهدفة منه، وتلافي المزيد من الانهيارات الاقتصادية المتتالية التي طالت العالم برمته من جراء الحرب الروسية على أوكرانيا وانعكاسها على الأمن الغذائي العالمي والعربي بالضرورة. فيما تدرك السلطة السورية ومن خلفها إيران وروسيا هذه المخاوف العربية وتحاول الاستفادة منها بشتى المجالات، سواء بفك الحصار عن إيران وسوريا، وزيادة التمدد الروسي الجيوسياسي في المنطقة، والأهم من هذا كسر الطوق السياسي عن النظام السوري وفك عزلته السياسية، والمواربة بتنفيذ أية خطوة اشترطتها المبادرة العربية مقابل هذا.

لا يمكن الجزم بالنوايا في السياسة، فالسياسة الدولية ومصالحها المتعارضة لا تأخذ حسنها أو سوءَها، بقدر القدرة على إحداث مبادرات فعلية ترسم من خلالها مسارات وقدرات فاعلة تعكس مصالح الدول القائمة عليها. من هنا يمكن اعتبار القمة العربية، ومن خلفها مبادرتها القائمة لليوم، خطوة باتجاه الفاعلية في الملفات السياسية العربية العالقة، بغية تجنب المزيد من ارتداداتها التي تزايدت منذ بدء ثورات الربيع العربي. ما يطرح بالضرورة سؤال الشارع العربي الذي لم تلتفت له قمم العرب لليوم: إلى متى ستكون مصالح الشعوب في بناء دولها الحديثة والمؤسساتية والمفعلة بالدساتير العصرية وسيادة القانون، هي البازار الأسهل للتخلي عنه مقابل تكريس سلطاتها السياسية القائمة؟ وهل أدركت الدول العربية ضرورة العمل على الاستقرار السياسي بين طياتها؟ وهل يمكنها أن تمتلك الأدوات على إحداث تغيير سياسي ملزم في سوريا وغيرها؟

نتيجة الحراك العربي اليوم، لا يمكن قراءته خارج مشهد التناقض العالمي، ولا يمكن رؤيته بعين سورية وحسب، فقد باتت سوريا نقطة انطلاق روسية وإيرانية إقليمية ودولية

الساحة العربية شهدت الأشهر الماضية مبادرات متعددة الأوجه، كان أهمها وأبرزها التقارب الخليجي الإيراني مقابل التقارب السعودي المصري التركي، هذا مع دعوات عجولة ومتسارعة لعودة النظام السوري لحاضنتها، في موقف يخالف كلية مجريات أحداث العقد المنصرم. والتي كللت ببيانها المرفق بجملة من الشروط السياسية الواجب تنفيذها سواء باستحقاق تنفيذ القرار 2254 القاضي بمرحلة انتقالية سورية تتقاسمها مناصفة السلطة والمعارضة، مع الالتزام بوحدة الأراضي السورية وضرورة عمل السلطة السورية على وقف غزو المنطقة بالكبتاغون والمخدرات، هذا عدا عن مجمل الملفات التي خلفتها المسألة السورية من مهجرين ونازحين. ونتيجة الحراك العربي اليوم، لا يمكن قراءته خارج مشهد التناقض العالمي، ولا يمكن رؤيته بعين سورية وحسب، فقد باتت سوريا نقطة انطلاق روسية وإيرانية إقليمية ودولية. وحيث لم تُلمس بعد مصلحة الشعوب العربية باستحقاقات الاستقرار والتنمية وبناء الدول العصرية من لقاءات القمة، بقدر أن محددها الأول والأوضح مبادرات سياسية تقف على التوازي من كل ملفات المنطقة والعالم من دون أن تكون جزءًا منها عسكريًا أو ماليًا، ما يخفف من إمكانية التنبؤ بحل للأزمات السورية الداخلية والاقتصادية في المدى المنظور، وبالضرورة إمكانية التنبؤ بحل سياسي قريب لها. وبالنتيجة ستبقى مواقف الجامعة العربية ظاهرية تلطيفية لا يمكن التكهن بما تخفيه حقيقة، ما لم تتضح الخطوات الأميركية الفعلية إزاء ملفات المنطقة برمتها، ما يجعل المبادرة العربية وقمتها على محك الفاعلية والقدرة في تفعيل دورها المفترض بتنفيذ خطواتها وفق بيانها الأخير 8863 المتعلق بسوريا.