icon
التغطية الحية

"قلق السعي إلى المكانة".. كيف تأخذ حقك في الحياة؟

2021.09.23 | 16:01 دمشق

qlq_alsy_aly_almkant-_tlfzywn_swrya.png
تلفزيون سوريا- فريق برنامج ضمائر متصلة
+A
حجم الخط
-A

"إن إحساسنا بالهوية أسيرٌ في قبضة أحكام من نعيش بينهم".

بهذه الكلمات يمسك الفيلسوف البريطاني آلان دو بوتون، جوهر المرض الخبيث الذي سماه "قلق السعي إلى المكانة"، مطلقاً اسمه على كتابه الأخير، الذي صدر عن دار التنوير للطباعة والنشر في بيروت عام 2021، بترجمة من محمد عبد النبي.

يبدأ الكتاب بوضع تعريف محكم للمكانة، لغوياً واجتماعياً وقانونياً، مشيراً للامتيازات الاجتماعية والروحية والمادية التي تتوفر لمن يحوزها، وهي امتيازات تجعلها محط أطماع معظم البشر، وإن كان قلة فقط من يعترفون بذلك صراحةً.

ومع أن السعي لكسب المكانة مبرر من وجهة النظر هذه، إلا أن بوتون يشير إلى أن هذا السعي يتحول إلى قلق خبيث، يفسد الحياة، ويشيع بين الناس مشاعر الحسد والمهانة والذل أمام نجاحات الآخرين، حين يشعر الإنسان بالخشية من عدم تحقيق شروط المكانة التي يفرضها المجتمع على أفراده، ليكرّم الناجحين بالحب والتقدير، ويعاقب الخاسرين بالإهمال وعدم الاكتراث.

لكن بوتون يضع افتراضه هذا بحذر، إذ يمكن بالفعل للإفراط في السعي لكسب المكانة أن يكون قاتلا للحياة، لكن الاعتدال فيها أيضاً يساعد الإنسان في الحكم على مواهبه بنزاهة، ويدفعه للتفوق، بل ويشد أفراد المجتمع حول قيم مشتركة.

من هنا ينطلق مشروعه البحثي التحليلي في تحديد الأسباب التي تجعل من السعي للمكانة قلقاً خبيثاً، فيجعل الجزء الأول من الكتاب مؤلفاً من خمسة أقسام، كل قسم يمثل سبباً لشيوع مشاعر القلق هذه.

وأبرز هذه الأسباب وأولها افتقاد الإنسان للحب الموجه لهويته العارية، الحب الذي حصل عليه خلال طفولته لمجرد أنه موجود، دون أن يفعل أي شيء يجعله يستحق هذه المحبة، هذا النوع من الحب الذي يأتي وكأنه هبة إلهية، وليس ناتجاً عن استحقاق في حلبة منافسة. ومنذ نهاية فترة الطفولة وبداية سن الرشد، يسعى الإنسان لاستعادة هذه المشاعر عبر طلب الحب من الناس، محاولاً إرضاءهم وجذب انتباههم بشتى الوسائل.

أما السبب الثاني فهو تملق المتغطرسين، الذين يتولون مهمة إنزال عقوبة الإهمال والاحتقار على أولئك الذين لم يتمكنوا من تحقيق مكانة مرموقة في المجتمع، وهي معاملة سوف يواجهها الخاسرون أينما اتجهوا، في عالمٍ موسوم بالغطرسة.

ومع أن هذا العالم منحنا من الرخاء المادي ما لم يكن لأحد من أبناء جنسنا أن يحلم به في الماضي، إلا أن هذا الرخاء ترافق بشكل صادم مع ازدياد القلق، نتيجة شعورنا بعدم القدرة على تحقيق كل ما نستطيع أن نحلم فيه، وبالتالي لم نعد نشعر بالنجاح حتى في عيون أنفسنا، وهذا هو السبب الثالث، الطموح والحلم اللامحدود.

يعتمد كسبنا لرزقنا على الموهبة وهي سمة غير مضمونة الاستقرار في الإنسان، وبالتالي فإننا بشكل أو بآخر نعتمد على الحظ الذي لا نستطيع أن نسوقه كيفما اتجهنا

وفي محاولة لإصلاح نظام المكانة الذي يعتمد على التوريث الأرستقراطي، نشأ نظام الجدارة الاقتصادية، الذي يحدد قيمة الفرد بناءً على مهاراته وما يستطيع جنيه مادياً، وهكذا أصبح إلى جانب جرح الفقر الذي يتسبب به الفشل، جرح آخر، هو مهانة الخزي من جراء عدم الكفاءة، وهذا هو السبب الرابع المؤدي لقلق المكانة الذي يحلله بوتون.

ونتيجة لما تقدم يعتمد كسبنا لرزقنا على الموهبة وهي سمة غير مضمونة الاستقرار في الإنسان، وبالتالي فإننا بشكل أو بآخر نعتمد على الحظ الذي لا نستطيع أن نسوقه كيفما اتجهنا، ولأن النظام الاقتصادي العالمي رأسمالي فإننا نعتمد كذلك على رضا صاحب العمل، وبالتالي نعتمد على تحقيقه للربح في سوق شديد التنافس لكي يرضى، ويتمكن من دفع مستحقاتنا ويستبقينا في وظائفنا ويرقينا، ولأن الأسواق أصبحت مرتبطة ببعضها البعض في نظام معولم، فإننا نعتمد على حركة الاقتصاد العالمي برمته، هذه السلسلة الطويلة من الاعتمادات التي لا سيطرة مطلقة لنا عليها، هي خامس مسببات قلق المكانة.

أما القسم الثاني من الكتاب فيقدم حلولاً مقترحة من قبل بوتون، لمواجهة مسببات قلق السعي إلى المكانة، ولخلق فرد متوازن، بمعايير نجاح وإخفاق عادلة ومنصفة.

وأول هذه الحلول يعتمد على الفلسفة، التي تخبرنا بأنه ليس من المهم كيف نبدو في عيون الناس، بل ما نؤمن نحن أننا عليه من الداخل.

وعن طريق الفن يمكننا فهم مكنونات أولئك البشر الموصوفين بالفشل، وما قد تنطوي عليه نفوسهم من عظمة، وبذلك نحترم إنسانية البشر مهما كان تصنيفهم في منظومة المكانة، بل ونوجه النقد اللازم لها لتغييرها.

وقد يوفر لنا التفكير السياسي بمنظومة المكانة وآليات عملها، أدوات تغيير واقعية تساعدنا في تحقيق تغيير سياسي ثوري في المجتمع، لنعي أن معايير المكانة شأنها شأن أي نظام سياسي، من اختراع البشر وليست جزءاً من الطبيعة التي لا يمكن تغيير قوانينها.

الأديان السماوية وتعاليمها الروحية التي تنزع إلى التذكير بالتواضع وصلة الرحم بين عموم الناس، قد تكون إحدى الحلول أيضاً، فبذلك يتخلص الإنسان من استكباره ويصبح أكثر عطفاً على نفسه وعلى الآخرين جميعهم.

كذلك اعتبر بوتون ضمن رؤيته الفلسفية هذه، أن البوهيمية قد توفر حلاً كذلك، إن أخذ بها بشكل متوازن، فهي أداة فعالة لمحاربة ضغط فكرة القبول الاجتماعي والثروة، فالبوهيمية أتاحت الفرصة للأشخاص المتصفين بغرابة الأطوار وللفقراء كي يعبروا عن ذواتهم، وينالوا الاحترام الذي يستحقونه من هذا العالم.

في النهاية اعتبر بوتون أنه حتى الحلول الخمسة التي اقترحها لم تسعَ لنسف فكرة المكانة من جذورها، إنما حاولت فقط أن تقدم معايير جديدة تضمن مكان في هذا العالم، لأولئك الذين ترفض الأغلبية الاعتراف بهم.