قراءة في لغز تبعية "اللواء الثامن".. وقائده أحمد العودة

2022.12.08 | 05:56 دمشق

قراءة في لغز تبعية "اللواء الثامن".. وقائده أحمد العودة
+A
حجم الخط
-A

تشكّل إشارةٌ لافتةٌ في بيان القيادة المركزية للجيش الأميركي، بخصوص مقتل زعيم تنظيم "الدولة الإسلامية"، في درعا، يوم الأربعاء الفائت، مناسبةً لمحاولة تشريح تشابكات النفوذ المتداخلة بين أطراف محلية وإقليمية ودولية في تلك المحافظة السورية. إذ استخدم الأميركيون في بيانهم، تعبير "الجيش السوري الحرّ"، بوصفه الجهة التي تسببت في تصفية زعيم تنظيم "الدولة". وهي سابقة تحدث لأول مرة منذ العام 2018، حينما أعطت واشنطن الضوء الأخضر لروسيا، للسيطرة على الجنوب السوري بالكامل. وكان من اللافت أيضاً، إشارة وردت في تعليق المتحدثة باسم الرئاسة الأميركية، على الحدث ذاته، إذ قالت إن "الولايات المتحدة لا تزال ملتزمة بمواجهة التهديد العالمي لتنظيم داعش وهي على استعداد للعمل مع الشركاء الدوليين".

فأيّ "جيش حرّ"، قصدته قيادة الجيش الأميركي؟ ومن هم "الشركاء الدوليون" الذين قصدتهم المتحدثة باسم الرئاسة الأميركية؟ وما هي دلالات هذا التوصيف –"الجيش الحرّ- في بيان الأميركيين، في هذا التوقيت؟

كي نجيب على الأسئلة السابقة، يتوجب في البدء محاولة تفكيك "لغز" الدور الوظيفي الذي يقوم به، أحمد العودة، قائد "اللواء الثامن". ومحاولة فهم، لمن يتبع هذا الرجل، وتشكيله المسلح، فعلياً، وليس نظرياً. إذ من المعلوم، أن "اللواء الثامن" كان طرفاً رئيسياً في القضاء على قادة "التنظيم" الذين كانوا متحصنين في أحياء بمدينة جاسم، بريف درعا الشمالي، في حين كان الطرفَ الرئيس الثاني، مقاتلون محليون محسوبون على فصائل معارضة سابقة، وذلك منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر الفائت. وهي العملية التي قُتل فيها القيادي في التنظيم، المدعو "عبد الرحمن العراقي"، الذي تبين لاحقاً، أنه زعيم التنظيم، المُلقّب بـ "أبو الحسن الهاشمي القرشي".

"اللواء"، وقائده العودة، لا يخضعان للنظام، أو حتى لروسيا ذاتها، بصورة مطلقة. وإنما وفق مقايضات أو تسويات، ناجمة عن علاقة لم تنقطع، بل ربما تم تفعيلها أكثر مؤخراً، تربط العودة بالأردن، وبالأميركيين، وكذلك بالإمارات

والآن، لنتعرّف أكثر على الطرفين الرئيسيين اللذين تسببا في مقتل زعيم "التنظيم". الطرف الأول، مقاتلون محليون معارضون للنظام يتهربون من تسويةٍ نهائية معه تجرهم للقتال لصالحه، ويتحصنون بحماية عشائرية أهلية في مدينة جاسم، وهم من أصحاب الخبرات السابقة في القتال مع التنظيم، بعد سنوات من الصراع معه حينما كان يسيطر على ريف درعا الغربي، تحت مسمى "جيش خالد بن الوليد". في حين الطرف الآخر، هو "اللواء الثامن"، الذي يقوده أحمد العودة، والمتشكل من فصيل معارض سابقاً للنظام، أيضاً. وهو يتبع الآن لفرع الأمن العسكري في درعا. وكان سابقاً، بعيد العام 2018، جزءاً من "الفيلق الخامس" المدعوم روسياً، ضمن "الجيش السوري". ورغم تبعية "اللواء الثامن"، حالياً، للأمن العسكري، فإن مقدار هذه التبعية غير واضح المعالم، وهناك مؤشرات عديدة تؤكد أن "اللواء"، وقائده، العودة، لا يخضعان للنظام، أو حتى لروسيا ذاتها، بصورة مطلقة. وإنما وفق مقايضات أو تسويات، ناجمة عن علاقة لم تنقطع، بل ربما تم تفعيلها أكثر مؤخراً، تربط العودة بالأردن، وبالأميركيين، وكذلك بالإمارات.

من تلك المؤشرات، أن العودة واجه الضغوط المتزايدة عليه لتعزيز تبعيته للنظام، عبر "الأمن العسكري"، بأن غادر البلاد إلى الأردن، ليقضي فيها نحو سنة، قبل أن يعود بشكل مفاجئ، في مطلع أيلول/سبتمبر الفائت، إلى بلدته، بصر الحرير، حيث رُفعت راية فصيله القديم في الجيش الحر "لواء شباب السنة"، في أثناء استقبال العودة لوجهاء البلدة. ومن المعلوم أن تلك الراية قد غابت عن فصيل العودة، منذ انخراطه في التسوية مع النظام، برعاية روسية، عام 2018. ومن المعلوم أن فصيل "لواء شباب السنة"، كان جزءاً من "الجبهة الجنوبية"، التي كانت أبرز فصائل "الجيش السوري الحرّ" المعارض للنظام، والتي كانت مدعومة من جانب غرفة عمليات "الموك"، المكلفة بتنظيم دعم المعارضة السورية المسلحة، والتي كانت تقودها الولايات المتحدة الأميركية، وتضم دولاً إقليمية، أبرزها الأردن والسعودية والإمارات. هذه الغرفة ذات البعدين الاستخباراتي والعسكري، توقفت أعمالها، وفق المعلن، منذ العام 2018. لكن، في مطلع الصيف الفائت، كثرت التسريبات والشائعات عن إعادة إحياء عمل "الموك"، وعن نقاش إقليمي – أميركي، حول إمكانية العمل على إنشاء "منطقة آمنة"، في الجنوب السوري، بالاستناد إلى فصائل مسلحة معارضة في درعا والسويداء، بعمق 35 كم، لإبعاد الميليشيات الإيرانية عن حدود الأردن وإسرائيل. وهو ما نفته الأردن، رسمياً. وكان اللافت أكثر، أن أحمد العودة زار تركيا، في تشرين الأول/أكتوبر الفائت. دون أن يتضح بعد، غرض الزيارة، وما الذي تمت مناقشته مع السلطات التركية، خلالها. لكنها تزامنت مع نقل أنقرة المسؤول الأمني عن الملف السوري من منصبه ليتسلم مهام سفير تركيا في الأردن.

وفي خضم ما سبق، من المفيد الإشارة إلى الصلة التي تربط العودة بدولة الإمارات، التي كانت الطرف الذي أدخل فصيله "لواء شباب السنة" ضمن دعم غرفة "الموك"، قبل العام 2018. ويرتبط العودة بصلة قرابة مع رجل الأعمال السوري المقرّب من الإمارات، خالد المحاميد.

وكي نفهم أكثر، تعقيدات الدور الوظيفي للعودة، وصلاته الإقليمية، تجب الإشارة إلى منعطف تسوية العام 2018، بين واشنطن وموسكو، في درعا، والتي منحت واشنطن بموجبها ضوءاً أخضر لموسكو، لتسيطر على المحافظة، وبدا وكأن واشنطن تترك المعارضين الذين دعمتهم لسنوات، لمصيرهم. فكان العودة أبرز من انخرط بتسوية مع الروس، في حين قاوم آخرون، واعتصموا ببلداتهم وعشائرهم. أما أبرز الشروط الأميركية التي انخرطت واشطن بموجبها، في هذه التسوية، مع موسكو، فهي تحمّل هذه الأخيرة مسؤولية إبعاد إيران وميليشياتها عن حدود إسرائيل، نحو 80 كيلومتراً. وهو ما لم يحدث لاحقاً، إذ تمكنت إيران من التسلل، عبر قطعٍ في "الجيش السوري"، أبرزها الفرقة الرابعة، وعبر أجهزة استخباراتية اخترقتها بصورة كبيرة، أبرزها، المخابرات الجوية، لتصبح طهران على حدود إسرائيل، والأردن كذلك.

بشار الأسد عاجز عن منع المساعي الإيرانية للتغلغل في درعا، وهي مساعٍ تحظى بغطاء من شقيقه، ماهر الأسد، قائد الفرقة الرابعة، المقرّب من طهران

هذا العرض السابق، يتيح لنا الإجابة على الأسئلة التي طرحناها في المقدمة. فبيان قيادة الجيش الأميركي، قصد بـ "الجيش الحر"، كلاً من "اللواء الثامن" الذي ما يزال يتمتع بصلات جليّة مع الأردن والإمارات والولايات المتحدة أيضاً، إلى جانب المقاتلين المحليين المعارضين، الرافضين للانخراط بتسويات نهائية تجعلهم مقاتلين لصالح النظام. أما إشارة المتحدثة باسم الرئاسة الأميركية، إلى العمل مع "الشركاء الدوليين" لمحاربة "التنظيم"، فتُقصد بها روسيا تحديداً، لأنها الطرف الذي كان قد اتفق مع الأميركيين والأردنيين، على تفاصيل تسوية العام 2018 في الجنوب السوري.

وبذلك يتضح أن واشنطن لم ترد التلويح بـ "الجيش الحر"، مجدداً، كرسالة سلبية موجهة لموسكو، كما فسّر بعض المراقبين، بل العكس. هي رسالة أميركية للروس، برغبة واشنطن بتجديد التعاون مع موسكو في الجنوب السوري. ويستهدف هكذا تعاون، الوجود الإيراني، بطبيعة الحال. ويقطع بيان الجيش الأميركي، الطريق على جناح النظام الإيراني، ويحاول منعه من تبني عملية قتل زعيم تنظيم "الدولة"، لصالح جناح النظام الروسي، الذي تمتلك واشنطن شراكة ميدانية واستخباراتية معه، تتمثل في "اللواء الثامن". هذه النقطة بالذات، تتطلب المزيد من التفصيل. إذ تطرح تحركات العودة بأريحية، من الأردن إلى سوريا، ومن ثم زيارته المقتضبة إلى تركيا، تساؤلات حول موقف النظام وروسيا، من ذلك. لكن، كي نفهم هذا التعقيد، لا يجب النظر للنظام بوصفه جملة واحدة متناسقة داخلياً. فأجهزة النظام العسكرية والأمنية والدبلوماسية – السياسية، مخترقة روسياً وإيرانياً، بصورة كبيرة. وهناك صراع بات مكشوفاً للعلن، في كثير من الأحيان، بين الشريكين الروسي والإيراني، للسيطرة أكثر على مواقع صنع القرار والقوة داخل أجهزة النظام. ويشكل "اللواء الثامن"، إحدى الأدوات الروسية في هذا الصراع. فموسكو تستفيد منه بجملة جوانب، أحدها أن يكون ضمانةً لاستمرار الاتفاق مع الأميركيين والأردنيين، والذي بموجبه، توقف الدعم الأميركي – الإقليمي، للمعارضة المسلحة، في الجنوب السوري، عام 2018. إذ آخر ما تريده موسكو، أن يتجدد هذا الدعم في تلك الجغرافيا الحسّاسة. كما أن وجود "اللواء الثامن"، ذي الصلات مع الأردن والإمارات والأميركيين، يبقى عامل طمأنة نسبي لإسرائيل، تريد موسكو أن يستمر بوصفه دلالة على التزامها بأمن "الكيان الإسرائيلي"، في مواجهة التغلغل الإيراني. ذات الهدف يريده رأس النظام، بشار الأسد، من استمرار نشاط العودة و"اللواء الثامن"، رغم صلاته المعلومة مع جهات خارجية. فالأسد لا يريد أن يتحول الجنوب السوري إلى ساحة إيرانية بالمطلق، لأن ذلك يعني أنه سيخسر الرهان الإسرائيلي عليه، بأن لا يصبح أداة إيرانية بالمطلق. وهو رهان جاهر به المسؤولون الإسرائيليون مراراً، خلال السنوات الفائتة. ويحاول الأسد، قدر استطاعته، أن يحافظ على مبررات استمرارية هذا الرهان، وأحدها، عدم القضاء على القوى المحلية التي يمكن أن تشكل حاجزاً أمام الاستيلاء المطلق لإيران على المنطقة. وهنا تجب الإشارة إلى أن بشار الأسد عاجز عن منع المساعي الإيرانية للتغلغل في درعا، وهي مساعٍ تحظى بغطاء من شقيقه، ماهر الأسد، قائد الفرقة الرابعة، المقرّب من طهران.

التعقيدات السابقة، سواء داخل تركيبة النظام، بين جناح روسي وآخر إيراني، وفي علاقة روسيا التنافسية والصراعية مع إيران، وكذلك في علاقة موسكو التي لا تريد قطع كل الصلات بالأميركيين والأردنيين، في الجنوب السوري، كي لا يتجدد دعم المعارضة المسلحة.. تتيح كل هذه التعقيدات خلق حالة أشبه بالشراكة (الأميركية – الأردنية –الإماراتية) من جهة، و(الروسية – الأسدية متمثلة في بشار وليس شقيقه)، من جهة أخرى، في استثمار "اللواء الثامن"، بمواجهة إيران وأدواتها السورية، وفي مقدمتهم، شقيق رأس النظام وفرقته، وبعض الأذرع الاستخباراتية. هذه "الشراكة"، هي ما أرادت بيانات الأميركيين، الإشارة إليها، وتوضيح أن واشنطن حريصة عليها. باختصار، أراد الأميركيون إرسال رسالة إيجابية للروس، بصورة رئيسية، وتذكيرهم بقيمة هذه "الشراكة"، وذلك في معرض التعليق على قتل زعيم "تنظيم الدولة".