icon
التغطية الحية

في نقد (مفهوم) السلطة وممارستها

2024.07.07 | 06:18 دمشق

5675675
+A
حجم الخط
-A

يمسّ موضوع أو مفهوم السلطة مسائل غايةً في الأهمية والتعقيد والغموض، في الوقتِ نفسه. ويتطلب تناول هذا الموضوع إجراء بعض التمييزات والتوضيحات المفاهيمية. وسأقتصر هنا على الاستنادِ إلى تمييزين مفاهيميين رئيسين.

من ناحيةٍ أولى، من الضروري التمييز بين السلطةِ القائمة على الإكراه والقسر وما شابه، والسلطة القائمة على الاعتراف والجدارة المستحقة. فإلى جانبِ السلطات السياسية والأمنية التي تُكرِه الناس أو تقسرهم على فعلٍ أو قولٍ ما، أو تمنعهم من الإتيان بفعلٍ أو قولٍ ما، هناك جهاتٌ تحظى بسلطةٍ معرفيةٍ علينا، نتيجةً لحبنا لها وإعجابنا بها أو بأفكارها وقيمها أو أفعالها، وإقرارنا، الطوعي، بسلطتها علينا، وبرغبتنا في وجودِ هذه السلطة. وفي حين أنّنا بحاجةٍ إلى مقاومة السلطة الأولى، ومحاولة الحدّ من وجودها، وتأثيرها فينا، قدرَ المستطاع، بحيث لا تتحوّل إلى رقابةٍ داخليةٍ تفوق، في قوّتها وصرامتها، الرقابة الخارجية، وتحلّ محلّها، حتى في حال غيابها، فإنّنا بحاجةٍ إلى مراجعةٍ نقديةٍ دائمةٍ للسلطة الثانية، حيث نضبط تأثيراتها السلبية الممكنة في قدرتنا على الرؤية المعرفية والمعيارية المُنصفة للواقع. وتمثّل السلطة الأسدية، على سبيل المثال، النموذج الأوّل بامتيازٍ، في حين أنّ سلطات رجال الدين على بعض المتدينين تقدِّم (أحيانًا) نموذجًا للصيغة السلبية التي يمكن للسلطة الثانية أن تتخذها، دون أن ينفي ذلك إمكانية اتخاذها صبغةً إيجابيةً، في أحيانٍ ليست قليلةً، عمومًا، وفي المجالاتِ الفكرية والاجتماعية والتربوية (سلطة الوالدين الحنونين، سلطة المعلم القدير، سلطة الصديق أو المحبوب ... إلخ)، خصوصًا.

من ناحيةٍ ثانيةٍ، ينبغي التمييز بين السلطة، التي تحدّث عنها إدوارد سعيد، مثلًا، في كتابه الأهم "الاستشراق"، والمتمثلة في أطرافٍ واعيةٍ بذاتها وبأفعالها، تمارس التأثير في أقوالِ وأفعالِ الآخرين، بامتلاكها لأدواتِ التأثير، والمصلحة في ممارسته، وللقدرة على تلك الممارسة، من جهةٍ، والسلطة البنيوية، التي تحدّث عنها فوكو، على سبيل المثال، في عددٍ كبيرٍ من كتبه، من جهةٍ أخرى. ففي الحالة الأولى، ثمّة طرفٌ واضحٌ لتحميله المسؤولية ونقده أو انتقاده. أمّا في الحالة الثانية، تبدو السلطة نتيجةً ضروريةً لبنيةٍ، لا لوعيٍ إنسانيٍّ مُغرضٍ؛ كما لا يبدو واضحًا كيف يمكن التخلّص منها، أو إن كان يمكن التخلّص منها "أصلًا". إذا أخذنا معنى السلطة البنيوية الفوكوية إلى حدِّه الأقصى، تبدو تلك السلطة أشبه ببعدٍ وجوديٍّ/ أنطولوجيٍّ، لا إمكانية للفكاك أو التخلّص منه، تخلّصًا كاملًا. وتكون حريّتنا، في هذا الخصوص، قائمةً على، أو متمثلةً في، "الوعي بالضرورة" والتكيّف معها (كما قال اسبينوزا وهيغل وماركس) وليس نفيها أو محاولة التخلّص منها. في المقابل، ينبغي لنا أن نتعمّق في فهمِ كيفية تأثير علاقات القوّة في هيمنة معرفةٍ أو معارف وقيمٍ وأفكارٍ ما، وفهم مدى تأثيرها، والتفكير في أنّ مجابهة الهيمنة السلبية، في هذا الخصوص، لا يمكن أن تحقّق الغرض منها، إذا اقتصرت تلك المجابهة على المستوى المعرفي أو النظري. فثمّة ضرورةٌ لتغيير موازين القوى وعلاقات القوة والهيمنة؛ لأنّ تلك الموازين تنتج هيمنةً معرفيةً مطابقةً لها جزئيًّا ونسبيًّا على الأقل.

إنّ النقد الذاتي أمرٌ غاية في الأهمية والضرورة فغياب هذا النقد قد يفضي إلى وقوعنا في مطبِّ مواقف بالغة الطرافة والسذاجة والسلبية

ولعله من المهم والملائم، في هذا السياق، الإشارة إلى أنّ ما يُسمّى بالاستغراب "occidentalism"، في العالم العربي/ الإسلامي خصوصًا، لا يتعمّق في هذه المسألة، ويقع في مفارقةٍ طريفةٍ، في هذا الخصوص. فمن ناحيةٍ أولى يقرّ الاستغراب، مع نقدِ إدوارد سعيد للاستشراق، بالدور السلبي لموازين القوى المختلة بين "الغرب القوي" و"الشرق الضعيف" في المضمون التنميطي السلبي الذي يتضمّنه النتاج المعرفي للاستشراق عن "الشرق"، (في بعض الأحيان)، وفي هيمنةِ هذا المضمون، إلى درجةٍ تجعل بعضًا من "الشرقيين" يتبنون تلك الصور النمطية السلبية عن ذواتهم، فيما تمّ تسميته ﺑ "الاستشراق الذاتي". ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، يبدو أنّ الاستغراب العربي، وهو إسلاميٌّ أو إسلامويٌّ عمومًا، يعتقد بإمكانية مجابهة هذه الهيمنة، والتخلّص منها، من خلال (الاقتصار على) تقديم نتاجٍ معرفيٍّ ناقدٍ ومضادٍّ لها. وهذا الاعتقاد يتناقض مع الاعتقاد والإقرار بأنّ علاقات القوّة تلعب دورًا حاسمًا في إنتاجِ المعرفة وحضورها وانتشارها وهيمنتها.

***

وفي كلّ الأحوال، ينبغي لنا الانتباه إلى المعاني والصيغ المتعدّدة التي يمكن للسلطة أن تظهر بها، ومحاولة الحدّ من سلبياتها، وتعزيز إيجابياتها، قدر المستطاع. وما هو مستطاعٌ أمرٌ سياقيٌّ، بالدرجة الأولى، لكن يمكن استثمار وجود سلطاتٍ متعدّدةٍ، والاستفادة من تناقضِ مصالحها وتوّجهاتها، في التخفيفِ من (بعض) التأثيراتِ السلبية لتلك السلطات، والتمتّع بقدرٍ أكبر من الحريّة. وبهذا المعنى، يمكن القول "اختلاف السلطات رحمةٌ"، أحيانًا، على الأقل. وانطلاقًا من ذلك، يمكننا أن نفهم لماذا يضع بعض الكتَّاب العرب أيديهم على قلوبهم، عندما يسمعون خبر حصول اتفاقٍ أو توافقٍ، ووجود تخطيطٍ، للتعاون والتنسيق بين (بعض) السلطات (العربية).

وأخيرًا، وفي المستوى الفردي، أرى أنّه ينبغي لكلٍّ منّا أن يفكر بموضوعِ السلطة، ليس بوصفه موضوعًا لها فحسب، بل بوصفه ذاتها أو الذات التي تمارسها أيضًا. فمن المفيد أو الضروري، في هذا الخصوص، التفكير في نوعية السلطة التي نحظى بها، بحقٍّ أو من دونه، في المجال الخاص أو العام، وفي مضمونِ التأثير الذي نمارسه أو يمكن لنا ممارسته، أو ينبغي لنا السعي إلى ممارسته، وفي مدى إحساسنا بالمسؤولية في أقوالنا وأفعالنا وإدراكنا أنّ القول فعلٌ، وأنّ الفعل قد يقول و/ أو ينتج غير ما نريد قوله. وسأذكر، في ما يلي مثالين، فيهما عبرةٌ وطرافةٌ.

في إحدى الندوات التي عُقِدت في منتدى الأتاسي، في فترة "ربيع دمشق"، ألقى عبد النبي اصطيف، أحد موالي وممثلي السلطة الأسدية، آنذاك، كلمةً عن الآخر وعن ضرورة استيعابه واحترمه ... إلخ. وبدا كلامه نكتةً سمجةً، فهو لا يعني فعلًا ما يقول؛ لأنّه يعلم أنّه، هو والسلطة الأسدية، لا يعترفان بأيّ آخر، فضلًا عن احترامه. لكن نهاية محاضرته تضمّنت مفارقةً غريبةً؛ إذ تبيَّن أنّ الآخر الذي كان يتحدّث عنه هو أناه ذاتها، حيث قال حرفيًّا، أو بما معناه: "أنا آخر، أنا الآخر، لذا يجب عليكم أن تستوعبوني وتحترمونني"؟ وفي سياقٍ مختلفٍ، حضرتُ مع دكاترة وطلاب من قسم الفلسفة ندوةً في دمشق، وحصل فيها توترٌ بين أحد "المعيدين" ودكاترة من القسم. وفي حديثٍ لاحقٍ مع هذا المعيد، الذي كان ذا "أنا متضخمة جدًّا"، أشرتُ إلى ضرورةِ استيعاب الآخر، ومحاولة فهم أو حتى تفهم وجهة نظره المختلفة، بما يساعد على تجنّب الصدام الدوغمائي، غير الضروري، معه. وكنت بذلك ألمح إلى ضرورة أن يحاول، هو نفسه، أن يستوعب الآخرين ويحترمهم، ويحترم اختلافهم عنه أو معه. وقد اتفق المعيد معي، من حيث المبدأ، ثم أضاف، "هذا ما أطلبه بالفعل، أن يحترموا اختلافي معهم، ويحترمونني، أنا الآخر"!

***

هذه القصص/ الأحداث، وغيرها، تبيِّن الخطأ الكبير الذي نقع فيه، في أحيانٍ ليست قليلةً، حين ننتقد ظاهرةً ما، وننسى موقعنا في هذه الظاهرة، أو ننتقي انتقاداتنا، حيث لا تطالنا قدر المستطاع. ولهذا أرى أنّ النقد الذاتي أمرٌ غاية في الأهمية والضرورة. فغياب هذا النقد قد يفضي إلى وقوعنا في مطبِّ مواقف بالغة الطرافة والسذاجة والسلبية، في الوقتِ نفسه. فليس نادرًا أن ننتقد عدم تقبّل شخصٍ ما للنقد، ونفعل الشيء ذاته في سياقٍ آخر أو في السياق ذاته. وفي ما يتعلق بنقدنا للسلطة، من حيث المبدأ، أو من حيث تجسّدها في هذا الطرف أو ذاك، أعتقد أنّه ينبغي ألا نقتصر على نقدِ السلطة الممارسة علينا، بل ينبغي نقد السلطة التي نمارسها نحن أيضًا. وثمّة رابطةٌ وثيقةٌ، أحيانًا على الأقل، بين السلطتين. فليس نادرًا استدخال السلطوية الممارسة علينا من قبل بعض الأطراف (الأهل، رؤساؤنا في العمل، السلطات السياسية أو الأمنية أو الاجتماعية إلخ)، وإخراجها في ممارساتٍ سلطويةٍ مع أطرافٍ أخرى (أطفالنا، مرؤوسينا، إلخ). ولا يعني ذلك أنّني أنفي مشروعية نقدٍ موّجهٍ لسلطةٍ أو سلطويةٍ ما، لمجرّد أنّ الناقد مارس أو قد يمارس سلطةً أو سلطويةً مشابهةً، جزئيًّا ونسبيًّا، في سياقٍ آخر. فهذا هو المنطق الذي تتبعه، عمومًا، الأنظمة السلطوية، والذي يظهر في خطابي النظامين الأسدي والبوتيني، على سبيل المثال. ووفقًا لهذا المنطق، لا تتم مناقشة مدى سوء هذه الأنظمة وسوء ممارساتها، بقدر ما يتم التركيز على مساوئ المنتقدين لها. وهناك من يمارس العدمية ذاتها بطريقةٍ أخرى، حين يرى أنّ ما يفعله هذا المستبد أو ذاك هو عين ما كان سيفعله أي شخصٍ آخر لو كان في موقعه ويمتلك سلطته أو قوته.

باختصارٍ، علينا أن نستفيد من نقدنا، لفكرةٍ أو ظاهرةٍ أو طرفٍ ما، في النقد الذاتي أو الفهم النقدي لذواتنا، بعيدًا عن الأحادية في فهم السلطة والتعامل معها، ومع تجنب الوقوع في الأحادية العدمية أو الاستغرابية أو الاستشراقية الذاتية الجالدة للذات. فالنقد لا يكون نقدًا إن لم يكن متوازنًا، وهذا يقتضي، في هذا السياق، الابتعاد عن الاقتصار على رؤيةِ الآخرين من منظور السلبيات، ورؤية أنفسنا من منظورِ الإيجابيات.

كلمات مفتاحية