في طلب نفير عام بشأن حدث الرقة - بين الإقطاع والقبيلة

2023.07.29 | 05:13 دمشق

آخر تحديث: 29.07.2023 | 05:13 دمشق

في طلب نفير عام حول حدث الرقة - بين الإقطاع والقبيلة
+A
حجم الخط
-A

في وقفة عيد الأضحى وفيما كان الحجاج محرمين في عرفة، وصام أغلب المسلمين تأدية لسنة يوم الوقفة مشاركة للحجاج في هذه الشعيرة، عند المغرب تم قتل فلاح في الرقة، بسبب زراعته أرضا كان منتفعا بها، والخلاف ليس بين جارين على حدود بينهما بل على مساحات الحياة لكل منهما، فالقاتل من قبيلة الولدة والقتيل من عشيرة مجاورة ترجع إلى قبيلة عدوان، ورغم قسوة الحدث وتوقيته؛ خرجت تصريحات من ذوي القاتل من عشيرة الناصر التي تنحصر فيها مشيخة قبيلة الولدة؛ بأن الحادث رد طبيعي على من يستثمر أرضا ليست له باعتبار أن البعث سقط وقوانينه يجب أن تزال، ولا يصح لأحد أن يستثمر أرضا من دون موافقة المالك الأول ما قبل نظام البعث، مر خبر الحدث في أوساط لا تخضع للنظام وأغلبها متبن للثورة من مهاجرين بتركيا وأوروبا والخليج، وعند السؤال عن موقف تضامن مع الضحية، أو طلب تهدئة درءا لفتنة وشيكة؛ كان موقف أبناء قبيلة الولدة من الناصر قاطبة واحدا، وهو التأكيد على أحقية الولدة بالأراضي التي استملكتها منذ القرن الثامن عشر بصكوك الدولة العثمانية، عدا بعض الأصوات الضعيفة من القبيلة لا تمتلك قدرة على مواجهة التوجه العام للقبيلة، بالتساوق مع أصوات لا تقوى على إدانته باعتبارها تنتمي لعشائر رقاوية أقل سطوة ومنعة، ولاعتبارها عشائر فلاحية مجاورة للولدة وليست ذات ملكية أيام سطوة الولدة في العهد العثماني.

أسهم أبناء قبيلة الولدة -الرقة- في الثورة سواء من ذوي التوجه الإسلامي أو الكتائب الوطنية وشكلت أكثر من ثلثي حراك الرقة الثوري في كل مجالاته، وكانت القبيلة الأكثر شهداء في الرقة

في بحث منشور بعنوان "تفاعل قبائل الجزيرة السورية مع الثورة" ([1])، نجد تشريحا لذهنياتها وجملة الدوافع التي أثرت في مواقفها، ولئلا تختلط المفاهيم نذكر أن القبيلة تضم عشائر عدة ترتبط بها نسبا أو حلفا رغم ورود المفهومين في الثقافة العامة بالمعنى نفسه، وقبيلة الولدة من القبائل القوية الموجودة تاريخيا في المنطقة منذ العهد العثماني وتنحصر مشيختها في عشيرة الناصر التي تتميز بأنها لا تزوج نساءها إلا لأبناء العشيرة التي ينحصر فيها بيت المشيخة، وتتبعها عشائر كثيرة نسبا، وتجاورها قبائل وعشائر أخرى، وامتازت بثقلها تاريخيا وخصص لمشيختها ما سمي بالصرة الحميدية التي كانت تأتي من السلطان عبد الحميد في الدولة العثمانية، وأقطعت لها الدولة العثمانية أراضيَ تعادل نصف الرقة ريفا ومدينة حتى حدود الصحراء جنوبا، تنحصر مشيختها بالرقة في بيت الفرج السلامة في حين يمثلها في الحسكة محمود شواخ البورسان، أسهم أبناء قبيلة الولدة -الرقة- في الثورة سواء من ذوي التوجه الإسلامي أو الكتائب الوطنية وشكلت أكثر من ثلثي حراك الرقة الثوري في كل مجالاته، وكانت القبيلة الأكثر شهداء في الرقة، ولم تبايع تنظيم داعش ما جعلها هدفا لها فعانت التنكيل والقتل، ولم يدخل أبناؤها في سلطة قوات قسد، ولا يخفي أبناؤها أحقيتهم في أرض أجدادهم التي تم الاستيلاء عليها في زمن البعث، ولا يخفي ناشطوها ظهور أصوات مطالبة بالاستيلاء على الأراضي المؤممة في مرحلة التحرير؛ لكن قادة ثورة الولدة من ناشطين مثقفين وإسلاميين أسكتوا تلك الأصوات منعا لإرباك الثورة.

في الطرف الآخر تنتمي الضحية لعشيرة ليست ذات وزن في محيطها وترجع لقبيلة "عدوان" ذات الامتداد في محافظات أخرى، وبعيدا عن تفاصيل الحدث ذاته يمثل القتيل جماعات بشرية كثيرة من الفلاحين؛ الذين استفادوا بقرار الإصلاح الزراعي وتوزيع أراضي الإقطاع للفلاحين لاستثمارها بقرارات حكومية منذ الستينات، وفي حين دخل الفلاحون ضمن العملية الزراعية بناء على استملاكهم أو انتفاعهم بأراض وزعت لهم بقانون الإصلاح الزراعي، ووجدوا أرضية للحياة والعيش والتعلم، عانوا اجتماعيا من النظر إليهم في محيطهم على أنهم الفلاحون الأجراء الذين كانوا يعملون كعبيد في مرحلة الإقطاع، انضم قسم منهم للثورة وبقي قسم في صف النظام لخوفه من خسران أرضه، أو ردا على تصريحات من قبل الولدة بضرورة إسقاط البعث ونتائجه على صعيد الدولة وكل قراراتها بما فيها المتعلقة بشأن الإصلاح الزراعي، يُظهر العامل الاقتصادي ونمط الحياة الدوافع الحقيقية وراء الموقف من الثورة ومحدداتها لدى القبائل عموما، حيث اتخذت قبيلة الولدة- الحسكة- المنتفعة بأراض في الحسكة تعويضا لغمر أراضيهم موقفا مؤيدا للنظام في الحسكة على عكس موقفها في الرقة، وقد يكون النظام نفسه قد لعب لإيقاد الفتنة الحالية؛ خصوصا أن شيخ الولدة في الحسكة قد سافر من الحسكة القابعة تحت سلطة النظام إلى الرقة الخارجة عن سلطته وطالب بأراضيه القديمة، وعاد بسلام من زيارته التي تم توثيقها في البحث المذكور أعلاه.

يبدو الأمر متجذرا وينهل من اختلاف نمطي حياة ونشاط اقتصادي أفرز ذهنيتين مختلفتين رغم اشتراكهما بذهنية قبلية واحدة؛ حيث يظهر الاختلاف على شكل نزاع بين طبقة فلاحية ونظام اقتصادي معين – إقطاع وذهنية إقطاعية -

خطورة الحدث تتأتى من كونه ليس حدثا بين عائلتين قد يسهم تدخل قانون وضعي مؤقت، أو عرف قبلي أن يحل المشكلة؛ كما أنه ليس حدثا قبليا صرفا بين قبيلتين لتتدخل قبيلة ثالثة سعيا لإيجاد حل بين الطرفين، إضافة إلى سيطرة قسد على المنطقة ورغبتها في إشغال الناس في خلافات قبلية بدلا من الانشغال في بلورة موقف ضدها، كما حصل في دير الزور سابقا.

يبدو الأمر متجذرا وينهل من اختلاف نمطي حياة ونشاط اقتصادي أفرز ذهنيتين مختلفتين رغم اشتراكهما بذهنية قبلية واحدة؛ حيث يظهر الاختلاف على شكل نزاع بين طبقة فلاحية ونظام اقتصادي معين – إقطاع وذهنية إقطاعية -ولا يتخذ من مفهوم الطبقية أيديولوجيا محددة، ولكنه مطلبي إشكالي حيث يؤكد الفلاحون حقهم في العيش واستثمار أراضيهم حتى استقرار البلاد ليكون الفصل في أمر الخلاف قانونيا حكوميا، في حين يؤكد أبناء عشيرة الناصر -مشيخة الولدة- من مثقفين وإسلاميين على أحقية ملكية الأرض القديمة ورسوخ ملكيتها وانحصارها بهم وضرورة عدم تجاوزها والتمسك بها، مع رفضهم للقتل بذاته، ولا يخفي هؤلاء حتى الآن اعتبار البعث عدوا لهم لأنه سلبهم أراضيهم بمرسوم الإصلاح الزراعي، وهجّر قسما منهم إلى الحسكة بعد مشروع سد الفرات، ونشوء معضلة جديدة عرفت بمشكلة الغمر؛ يصطدم الواقع بوجود قوة مؤسسة على مبدأ التعاضد القبلي تأخذ منحى إقطاعيا وتنهل منه ومن تاريخه وليست جماعة صغيرة كإقطاعي مفرد ليتم تجاوزه أو الثورة عليه؛ بل تستمد من عصبة القبيلة والعشيرة قوتها، حيث تمثل عشيرة الناصر عائلة في ترابطها وتماسكها وتشاركها في مستوى حقوقها؛ وحصة كل منهم من تلك الأرض الواسعة التي تصل إلى مئات الآلاف من الهكتارات، وتستند إلى حق قانوني في ملكية سندات الأرض الأساسية التي تقرها سائر الدول، وتغفل قرارات الإصلاح الزراعي وقوانين توزيع الأراضي، تلك التي تحتاج جهد دولة في دراسة تعويضات الضرر المناسبة والتي لم يقم بها نظام الأسد وتركها ليبقي المنطقة على صفيح ساخن، إذ يبدو الحاضر منذرا بخطر كبير وسط انتشار عقلية الحق المدني المكتسب من قبل الدولة منذ ستينيات القرن المنصرم لدى الفلاحين مشفوعا بعقلية الثأر القبلية، وأمام تعنت أبناء قبيلة الولدة بما يعتبرونه حقهم الأكثر أصالة وشعورهم بقوتهم بالعصبة والسطوة، أمام ذلك لابد أن تتدخل قوة قبلية في الداخل والخارج لتأجيل البت في تلك الطموحات – بعيدا عن مشروعيتها أم لا- ولابد من جهد سوري على مستوى المثقفين والناشطين في الثورة في النفير لأجل درء فتنة ستزيد معاناة الداخل سوءا وتدفعهم إلى اقتتال واحتراب في غمرة انشغالهم بحياة انحسرت لتأمين لقمة العيش وسط قوى لا مصلحة لها سوى التفرقة وتهديم كل البنى الاجتماعية التي يمكن أن يقوم عليها وطن حر وكريم.