في سبيل بناء هوية وطنية جديدة لسوريا المستقبل

2024.02.18 | 05:22 دمشق

في سبيل بناء هوية وطنية جديدة لسوريا المستقبل
+A
حجم الخط
-A

المستقبل وحده هو ما يجب أن يتفق عليه السوريون، ليس لأنه يتطلب الاتفاق على سبل خلاص السوريين من الاستبداد وتسلط القتلة الفاسدين وإنهاء حالة التشتت والاغتراب والخضوع لسلطات الأمر الواقع فحسب، بل لأنه لا وطن لمن لا يتفقون على مستقبلهم السياسي والأمني وعلى تحديد هويته عبر تحقيق الشروط (الأرض والشعب والسلطة) أما الماضي فرغم أنه دروس للعبرة والخبرة ولتغذية الحاضر بالوسائل والفكر المساعد، فسيظل مثار خلافات وتنوع في الآراء والرؤية ويظل موضوعاً حوارياً وبحثياً غير ملزم. ومنه الخلافات في العقائد وفي العقيدة الواحدة، كما في المسيحية وفي الإسلام وما يتبع هذا من خلاف على تحديد مرجعيات وشخصيات تاريخية، تتباين أهميتها بين هذه الفرقة أو تلك، لأن كل ذلك من طبيعة الحياة والفهم الموضوعي لمسار التاريخ بعيداً عن تناحر العصبيات وصداماتها الحامية.

وإذا كان هذا الوعي بالآخر المختلف هو ضرورة لتعريف الذات واستقلالها ولقوة حضورها بين الكيانات المستقلة والمتوافقة على التعايش والتعاضد والتشارك في مشاريع التنمية الوطنية المتكاملة وأهمها التنمية البشرية التي تجعل الإنسان الفرد (المواطن) رأسمالها الأعلى والأقدس، ولا تميزه إلا تبعاً لتفوقه وقدراته وإبداعه، بعيداً عن أي تصنيف أو توصيف إضافي، يتعلق بطبيعة انتمائه الإثني أو الطائفي أو غير ذلك من انتماءات ما قبل الدولة وعلاقاتها. لهذا كان الانتقال إلى تنفيذ مهامنا الوطنية الرئيسة هو انتقال من سكونية الماضي وقدسيته، حتى لو تركت موضوعاته مفتوحة لحوار موضوعي وهادئ، يحول دون أي صدام عنيف بين المتباينين في الهوية الثقافية والسردية التاريخية المؤسسة لها.

وفي مراجعة بسيطة وموضوعية لتاريخنا العربي الإسلامي يتضح لنا أن الخلافة، أخذت تنتقل بين القبائل بالغلبة وتتحصن بالعصبية القبلية وتتخذ من الفقه والولاء الديني غطاء لإضفاء الشرعية على سلطاتها، وهذا لم يكن شأن غلبة الأمويين المنتسبين لأبي سفيان على خصومهم من قبيلة بني هاشم الذين أرادوا حصر الخلافة بقبيلتهم فحسب، بل سنجده أقدم من ذلك في الصراع الجهوي بين المهاجرين والأنصار والذي حسم الخلافة للمهاجرين بعد أن بلغت الخصومة حدها الأعلى وتورط الطرفان بالتهاجي ودفع ذلك بالشاعر الأخطل الموالي للأمويين لأن يهجو الأنصار في عهد معاوية بن أبي سفيان هجاء مراً، قال في:  

                     ذهبت قريش بالمكارم والعلا             واللؤم تحت عمائم الأنصار

في العصر الحديث أقيمت على هذا المبدأ القبلي دول كالسعودية والأردن والخليج العربي والمغرب، بينما ارتقت الوجوه التقليدية من المدن وممثلي العشائر إلى السلطة في سوريا بعد الاستقلال الوطني

ومن الملاحظ أن هذه العصبية القبلية والتعصب العنصري للعرب عند الأمويين، قد دفع بالعصبية المقابلة التي قادها العباسيون وحكموا بموجبها نحو سبعة قرون، عرفت الكثير من الصراعات والتناحر المزدوج القبلي والشعوبي بين الفرس والعرب كما أن السلطات العثمانية لم تكن في منأى عن هذا الطابع القبلي. ولذا ظلت العلاقات القبلية العامل المحرك للخصومات والتنافس والحروب حتى ضمن أفخاذ القبيلة الواحدة. وفي العصر الحديث أقيمت على هذا المبدأ القبلي دول كالسعودية والأردن والخليج العربي والمغرب، بينما ارتقت الوجوه التقليدية من المدن وممثلي العشائر إلى السلطة في سوريا بعد الاستقلال الوطني عن الفرنسيين وظلت تلك البنية التقليدية سبباً رئيسياً من أسباب فشل الأنظمة التي اعتمدتها واستثمرت فيها ثم مع حافظ الأسد الذي سخر وجوها عشائرية لمآربه وهي لا زالت قائمة وقد شهدنا صراعها مؤخراً مع تشكيلة قسد المكونة من عشائر كردية وأخرى عربية، لكن قسد تعمل جاهدة بلا جدوى لإقناع المحيط بخروجها عن علاقات العشيرة واستقلالها وحداثتها لتسمي نفسها إدارة الذاتية (كيان) رغم مركزية الحكم فيها وتابعيتها لمركز جبال قنديل مما يجعل من مثالها فاقداً للأهلية ولا يمكن الاقتداء به.

إن خروجنا السوري من كل هذا التشتت ومن بقايا علاقات القبيلة، يتطلب منا أن نعيد تعريف أنفسنا وتحديد الهدف الاستراتيجي في التغيير السياسي على قاعدة الحرية والكرامة والعدالة والمساواة وكل ما يلحق به بشكل واضح وصريح لا يحمل اللبس ولا يؤول بالاحتمالات. ولأجل التوجه الحقيقي لذلك، كان لا بدّ من إبداء استعدادانا للتخلي عن ثقافتنا الموروثة التي أحكمت تشتتنا إلى طوائف وملل ونحل وإثنيات وأيديولوجيات وغير ذلك واستبدالها بمنظومة من التفكير الأحدث المبني على قاعدة الاختلاف ووحدة الهدف واتخاذ التدابير اللازمة للتغيير السياسي، بما يتضمنه من تغيير النخبة الحاكمة والتمهيد إلى إقامة دولة وطنية جامعة، تعيد بناء الهوية الوطنية على مبدأ المواطنة والعدالة ومنظومة الحقوق والواجبات.

وفي هذا المجال يمكن أن نقول إن إعمار البنية التحتية للوطنية السورية اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً منذ أيام الاحتلال العثماني وصولاً إلى العهد الوطني قام به رجال الأعمال وأثرياء المدن من القاعدة الديموغرافية السنية المعتدلة بالدرجة الأوسع والأعم، وهؤلاء هم من خطّوا توجهاً اقتصادياً ليبرالياً بدائياً وأقاموا مؤسسات حديثة تدار بأيدٍ وعقول محلية ووضعوا منظومة حقوق للمواطنة السورية، التي كان أبرزها دستور الخمسينيات المتقدم في حينها. وإذا تجاوزنا حقيقة أن هؤلاء البناة الأوائل، صعدوا إلى السلطة كنخب أهلتها مكانتها الاجتماعية والسياسية وظروفها وليس لكونهم من الأكثرية السنية ثمّ جاء من ينقلب عليهم من أوساطهم العسكرية السنية ذاتها، بالاعتماد على الجيش الأكثر تنظيما وقدرة على الإمساك بالسلطة من تلك النخب التي لم تستطع أن تمنع العسكر من إقامة وحدة مرتجلة مع مصر، وحين فصلت البرجوازية السنية الدمشقية تلك الوحدة وعملت من أجل إعادة الليبرالية السياسية ونظام الحريات، كان البعث جاهزا للانقلاب عليها بقيادة اللجنة العسكرية التي جمعت بين الاستبداد العسكري والعقل الفلاحي الطوائفي، الذي أقام علاقاته على صلات القربى والزبائنية، ثم تابع حافظ الأسد هذا المنوال وضيق مجاله وجعله على حلقات، تبدأ من نفوذ أهل بيته وأسرته ثمّ تتسع بعدها لطائفته من دون أن تنتهي عندها.

المطلوب من جميع السوريين أن يعملوا لإعادة إنتاج هويتنا السورية على أسس جديدة، تبنى على إعادة إنتاج ثقافتنا على مبدأ المواطنة والتنافس الحر بين الأفراد وليس الجماعات

وبهذه السياسة المبنية على الاستثمار بالطائفة أدت إلى انتقال الطوائف من طوائف بذاتها إلى طوائف لذاتها، أي غدت الطائفة قاعدة صلبة موالية لنخبة حاكمة تمارس السياسة باسمها من دون أن تمكنها من الانخراط الفعلي بالشأن السياسي، لأنّ نظام المستبد الفرد، لم يكن يتسع إلا لموالين هاتفين مطلوب منهم أن يظلوا بعيدين عن مركز القرار ولم يخطئ من شبه مشروع التوريث عند حافظ الأسد بمشروع معاوية بن أبي سفيان الذي اغتصب السلطة من الهاشميين وأسس لسلالة الأمويين.

أما اليوم فالمطلوب من جميع السوريين أن يعملوا لإعادة إنتاج هويتنا السورية على أسس جديدة، تبنى على إعادة إنتاج ثقافتنا على مبدأ المواطنة والتنافس الحر بين الأفراد وليس الجماعات، إذ يكفي أن ننظر إلى مساوئ حكم الطالبان في أفغانستان التي سيطرت عبر تمثيلها للأكثرية السنية أو إلى الجولاني وداعش والفصائل السلفية التي كانت بلاء على الجميع ولم يحقق أي منها مكسباً خاصاً لا لأكثرية ولا لأقلية. إن هذه الأمثلة الواقعية تثبت أن الديمقراطية الليبرالية هي الخيار الأفضل، لأنها لا تقوم على التوزيع الطوائفي ولا المذهبي ولا تعتمد النظام القبلي، بل تقوم على التنمية البشرية المتكاملة والسير بالبلاد نحو الحداثة والحقوق المتساوية والعدالة. لذا يتوجب علينا كسوريين منكوبين أن نعيد تحديد مفهوم الوطن بالبناء على مفهوم المواطن وحقوقه ودوره وليس على التنازع بين حقوق الجماعات سواء أكانت أكثرية أو أقلية أو طوائف أو إثنيات، تتمركز حول ذاتها وتدعو إلى فيدراليات أو حكم ذاتي وهي لا تمثله أكثر مما يمثله البعث ونظام الأسد.