في المسألة الوطنيّة.. العقد الاجتماعي

2022.08.11 | 07:04 دمشق

في المسألة الوطنيّة.. العقد الاجتماعي
+A
حجم الخط
-A

تاريخيّاً بدأ النظام السياسي العالمي يتجه نحو الشكل الحالي للدولة المدنيّة متأثّرا بأفكار الثورتين: المجيدة في إنكلترا (1688)، ثم الثورة الفرنسيّة.. إلا أن ذلك قد لا يعني أكثر من خبر تاريخي جافّ ما لم نقف عند البعد الاجتماعي الثقافي لمعنى هذا الانتقال.

انتهت الحقبة الإمبراطوريّة إلى عدد من الإمبراطوريّات: كالنمساويّة والبروسيّة والروسية والعثمانية والمملكة المتحدة التي كانت تضمّ كلّاً من "إنجلترا وأسكوتلندا وأيرلندا" وتعاني هذي المملكة ثورة شعبيّة وصراعاً مريراً على العرش والسلطة بين: ملك كاثوليكي "جيمس الثّاني" وكان التقليد يفترض أن يكون الملك بروتستانتيّاً، وبين صهره وزوج ابنته البروتستانتيّة ووريثة عرشه، ثم ظهور ابن كاثوليكي كان قد أنجبه الملك في سنّ متأخّرة.. وانسحب الصراع إلى أساقفة يعيّنهم الملك ويمنحهم السلطة بحسب تقليد مسيحي، وبين أبرشيّات معنيّة بترشيح رجال دين ومنحهم السلطة بحسب تقليد مسيحي آخر.. ومن آثار ذلك الصّراع على السلطة ظهور ما سمّي بـ (قانون الاختبار) لضمان ذهاب كل وظائف الدّولة إلى أتباع المذهب الأنغليكاني البروتستانتي، فالملك ومناصروه متّهمون بمحاولة نشر الكاثوليكية وبالولاء لفرنسا الكاثوليكيّة والتي كانت بدورها تستبد بالبروتستانت الفرنسيين!.

قبل تلك الأحداث كان العلم المادّي قد توصّل إلى أنّ النّاس –الملوك ورجال الدين والعامّة- متساوون من حيث الطبيعة البشريّة، وأنّ لكل إنسان إرادة حرّة وحقوق طبيعيّة.

في المملكة المتحدة، ضاق النّاس ذرعاً بالفوضى السلطويّة التي عطّلت الحياة وأهدرت الأرواح وأباحت الأموال بحجّة مذهب هنا أو مذهب هناك، ومن بين الشعب ظهر فلاسفة مثل: (هوبز) الذي رأى أن المشكلة تكمن في أن الطبيعة البشريّة، ذات الحقوق، إنّما هي طبيعة ذئبويّة، وأنّ الحق الطبيعي يبعث على الفوضى، فاقترح هوبز عقداً اجتماعيّاً بين مجموع الشّعب وبين (الليفياتور).. حيث يتنازل النّاس جميعا بموجب العقد عن حقوقهم كاملة لصالح الدولة المعنيّة وحدها بحفظ الأمن والأمان.

أمّا الفيلسوف: "جون لوك" والذي كان لاجئاً في هولندا فكان قد بنى تصوّراً مختلفاً من حيث المبدأ مع تصوّر "هوبز" عن الإنسان، إذ رأى "لوك" أنّ الإنسان ليس شرّيراً بطبعه، بل إنّ حريّته خيّرة. فاقترح لوك نقطتين جوهريّتين لحل مشكلة "الأمن والأمان":

  1. الفصل بين السلطتين الروحية والمدنيّة.
  2. أن تنشأ السلطة المدنيّة من اتفاق مجموع الأفراد للانتقال من حريّاتهم الطبيعيّة إلى الحريّة المدنيّة.. بناءً على مصلحتهم المشتركة في (التّسامح)، لذلك فإنّ العقد الاجتماعي لدى لوك هو: (رسالة في التّسامح).

أمّا مبرر الفصل بين السلطتين فهو أنّ السلطة الروحيّة معنيّة بالإيمان، والإيمان مسألة قلبيّة وعقديّة لا تقبل التفاوض.. بينما تكمن مهمّة السلطة المدنيّة الاهتمام بالآني واليومي من تأمين خدمات وفرص عمل وتجارة وو.. وكل ما يمكن أن يختلف فيه شخصان دون أن يتّهم أحدُهم الآخرَ بالكفر، ولا أن يتّهم الآخرُ أحدَهم بالإرهاب أو بالتّخلّف أو بأيّة تهمة من شأنها أن تبرّر إسقاط حقوق مدنيّة متساوية وثابتة للطرفين.

الفصل بين السلطتين وسيلة لتفعيل إرادة مدنيّة حرّة لأفراد متساويين لا تضغط عليهم مؤثّرات غير قابلة للتفاوض، مثل تلك التي تفرضها الأيديولوجيا الدّينيّة أو القوميّة..

بل لقد أصرّ لوك على ضرورة الإيمان - المسيحي بالنّسبة له- ليدعم الإيمانُ مصداقيّة العقد الاجتماعي.. بينما تجاوزه ليبراليون لاحقون مثل "جون ستيورات ميل" ليبني نظريّة الحريّة على الثقة بالإنسان ذاته.

إذاً فالفصل بين السلطتين وسيلة لتفعيل إرادة مدنيّة حرّة لأفراد متساويين لا تضغط عليهم مؤثّرات غير قابلة للتفاوض، مثل تلك التي تفرضها الأيديولوجيا الدّينيّة أو القوميّة..

إنّ فحوى النقطتين السّابقتين (1 و 2) هو ما سوف يسمّى فيما بعد بـ (العلمانيّة).

لكن هل يصح وصف حزب سياسيّ ما، لا ينطلق من عقيدة سماويّة لكنّه يطرح قضايا غير قابلة للتفاوض.. بأنّه حزب علمانيّ؟ وهل تعدّد هذا النّموذج هو تعدّد سياسي؟

لنتوخّى الشفافيّة سنتساءل بالطريقة الآتية: هل يمكن أن يختلف إنسان كردي مع (pkk) أو عربي مع حزب البعث العربي الاشتراكي، أو شيعي مع حزب الله أو.. مع.. دون أن يُتّهم هذا المختلف بالعمالة إلى (الآخرين)، العمالة التي تستوجب التّخوين أو التكفير؟!

أم أنّ الاستثمار فيما لا يمكن التفاوض عليه يخلق "سلطة روحيّة" أو "أيديولوجيّة" تتجاوز الشرط المدني في حق الاختلاف، ومن ثمّ التعدّديّة!

فيما لو خُيِّر السوريون؛ فهل سيفضّلون عقداً اجتماعيّاً بين مكوّنات الشعب من (أديان وأعراق ومذاهب.. إلخ) أم بين أفراد المجتمع؟

ربّما لا يعيننا على الرأي أفضل من الاطّلاع على تجربة بلدين جارين هما "لبنان والعراق".

 إذ انتهت الحرب "الأهليّة" اللبنانيّة أو "صراع الدّول على أرض لبنان" باتفاق "الطّائف"، وبوثيقة توزّع السلطة بين (مكوّنات) الأمّة اللبنانيّة، فتقاسم زعماء الحرب مؤسّسات الدّولة وأطلقوا عليها اسم "الحكومة ".. وحتّى يبرّئ اتفاق الطّائف ذمّته فقد نصّتْ أحد موادّه على أنّ "تقاسم السلطة بحسب المكوّنات" أمرٌ مؤقّت ودعا الاتّفاق المشاركين "زعماء الحرب" إلى تخطّي الحالة الطّائفيّة للوصول تدريجيّاً إلى المجتمع المدني..!

أمّا في العراق، وبعد انهيار الدّولة، إثر الغزو الأميركي، فقد وقّعتْ عدد من القوى السياسيّة على وثيقة دستور اقترحها الحاكم الأميركي للعراق: "بريمر". وتؤسّس الوثيقة لتقاسم السلطة بين (مكوّنات) الشعب العراقي.. رغم أنّ الوثيقة مليئة بالتهديد والوعيد لما يطلق عليهم "الإرهابيين/ البعثيين/ الصدّاميين.. إلخ" فبدا العقد كأنّه وثيقة إخضاع طرف عراقي بواسطة طرف مقابل أكثر من كونه عقدا اجتماعيّاً بين المكوّنات.. لكنّ تقاسم السلطة بحسب "المكوّنات" تمّ على أيّة حال!

ما مصلحة ذلك الزعيم، بل والدّولة الراعية لزعامته، في بلوغ أتباع "مكوّنه" المرحلة المدنيّة التي تعيد السلطة إليهم؟!

فيما يخص الحالتين اللبنانية والعراقيّة.. ربّما يمكننا طرح أسئلة بسيطة مثل:

هل يحصل زعماء "المكوّنات" على السلطة من مجموع إرادات مكوّنهم أم أنّ "حسن نصر الله"، على سبيل المثال، يحصل على سلطته السياسيّة من إيران، وعلى سلطته الروحيّة من قضيّة العداء وعدم التسامح مع شركاء الوطن!

ثمّ ما مصلحة الزعيم – أيّ زعيم- الذي حصل على سلطته عبر السلاح أوّلا، ثمّ جاءت اتفاقيّة دّوليّة وشرّعنت سلطته.. ما مصلحة ذلك الزعيم، بل والدّولة الراعية لزعامته، في بلوغ أتباع "مكوّنه" المرحلة المدنيّة التي تعيد السلطة إليهم؟!

ربّما يمكننا أيضاً أن نعتقد أنّ عقداً اجتماعيّاً بين "المكوّنات" لابدّ سيلقي بظلاله على طبيعة العلاقة بين "الزعيم" وبين أفراد مكوّنه بما يشبه عقد تبعيّة إذ إنّه:

  1. عقد مبني على ذعر أبناء المكوّن من "الآخرين" الذئاب/ الإرهابيين/ الصليبيين.. وتمسّكهم بـ "الزّعيم" كمنقذ، ومن ثمّ فإنّ منع تسامح بعض أفراد المكوّن مع أفراد من المكوّن الآخر ممنوع!
  2. العقد بين الزعيم وبين أبناء "المكوّن" غير محدّد بزمن: "حتّى ننتصر على الآخرين"!.
  1. ولننتصر.. لابدّ من التحالف مع أقربائنا (الفرنسيين أو الإيرانيين أو السعوديين أو الأتراك) على أعدائنا الذين هم أبناء وطننا، أي تبرير ارتباط مصالح "الزّعيم" بمصالح الدّول الأخرى!

خرج الشعبان اللبناني والعراقي سنة (2019) بمظاهرات ليهتفوا للتسامح: (نريد وطن، إخوان سنّة وشيعة هذا الوطن ما نبيعه)، فهزّت هتافاتهم مصلحة العقد الاجتماعي بين زعماء المكوّنات.. فاتهم الزعماءُ المتظاهرين بالعمالة لأميركا!

إنّ لقاء الدّول المانحة للسلطة والمال، والضّامنة للعقد بين "المكوّنات"، للتفاوض على مصالح مشتركة أمر ممكن، ويمكن أيضاً أن يلتقي زعماء "المكوّنات" لاقتسام السلطة.. إلّا أنّ التّسامح بين أبناء المجتمع أمر لن يصب في مصلحة سلطة أمر واقع.. يوماً.