icon
التغطية الحية

في الذكرى الـ90 لاكتشاف مدينة ماري.. تجاهل سوري واهتمام فرنسي مستمر

2024.03.16 | 20:36 دمشق

baro
أندريه بارو وفريقه في ماري مع تمثال ربة الينبوع
+A
حجم الخط
-A

يتحدث الباحثون عن أن مملكة/ مدينة ماري الأثرية الواقعة قرب ضفاف الفرات في سوريا، تتكون من ثلاث طبقات، تُشكل مراحل من تاريخها، ذي التأثير الكبير على لوحة الممالك التي سادت في منطقة الشرق، في عصور ما قبل الميلاد، لكن الطبقة الرابعة التي يجب أن ينظر فيها، ليس المختصون فقط، بل كل مهتم بالشأن الثقافي، هي المرحلة التي تلت انطلاق الثورة السورية، وخروج مناطق واسعة عن سيطرة قوات النظام، كان من بينها أجزاء واسعة من محافظة دير الزور، ووقوعها تحت هيمنة قوى مختلفة، وصولاً إلى مرحلة سيطرة تنظيم "الدولة" (داعش)، الذي نفذ عناصره مجازر فظيعة، لم تتوقف عند البشر، بل مضت لتشمل كل التفاصيل الحضارية الشرقية القديمة، حيث لم يكتف هؤلاء بالتنقيب عن الآثار، والتجارة بها، بل دمروها بشكل منظم، وفعل ممنهج، تُركت شواهده على الأرض، بعد أن تباهى المنفذون بما فعلوه أمام الكاميرات!

ما صنعه "الدواعش" كرره آخرون بنسب مختلفة، لكن النظام الذي لم يقصّر في قصف المناطق الأثرية المأهولة، في حلب وحمص وريف دمشق ومعرة النعمان وغيرها، كان يلجأ إلى تغطية أفعال قواته، عبر ادعاء حرصه على الإرث الحضاري السوري، وكان يصدر إلى الإعلام صوراً عن اهتمام مديريات الآثار بترميم القطع المحطمة، وإعادة تأهيل الأمكنة المدمرة، من دون أن يقدم تفاصيل موثقة عما جرى فيها، فالتنظيمات المسلحة ليست هي وحدها من يتحمل تبعات ما جرى، والمسؤولية تبقى أولاً وأخيراً ملقاة على عاتق النظام، بعد أن حول البلاد إلى ساحة حرب، بغية الحفاظ على سيطرته على الدولة، وتطويع إرادة المجتمع وإخضاعه.

طوال السنوات السابقة غابت أخبار مدينة ماري، غير أن مساحتها الأساسية، ومن خلال الصور الجوية التي نشرتها غير وسيلة إعلامية، تحولت إلى قطع قماشية مثقّبة، بفعل أعمال التنقيب غير القانوني، في سنوات سيطرة داعش. وبحسب ما نشرته الصحافة الرسمية، فقد تركزت أعمال الحفر ضمن القصر الملكي والبوابة الجنوبية والحمامات ومعبد عشتار ومعبد داجان ومعبد ربة الينبوع. ليبلغ عدد الحفريات غير القانونية في موقع ماري أكثر من 50 حفرية.

لكن غياب الاهتمام الرسمي بها مع حلول الذكرى الـ 90 لاكتشافها، يطرح أسئلة عن أسباب اختفائها من جدول أعمال المؤسسات المحلية المعنية، والمقصود طبعاً وزارة الثقافة، ومديرية الآثار والمتاحف، اللتان لا تغيبان فقط عن هذا الأمر، بل تبدوان وكأنهما تعيشان في كوكبهما الخاص، خاصة مع تمدد الإيرانيين على مجمل الشؤون الثقافية السورية.

 وفي الوقت ذاته، توجهت الأنظار نحو الجانب الفرنسي، الذي افتتح الاهتمام العالمي بالمكان، منذ اكتشافه على يد عالم الآثار أندريه بارو، وما زالت لديه بعثة مختصة بالموقع تعمل حتى الآن، وعن بعد في الظروف الحالية، لتشمل مهامها بحسب وزارة الثقافة الفرنسية، "تطوير المحفوظات التي لا تقدر بثمن المجمعة منذ عام 1933 والاحتفاظ بها في خدمة أرشيف (بيت الآثار والاثنولوجيا رينيه ـ جينوفيس). كما تتابع أيضاً الأضرار التي لحقت بالموقع من خلال مقارنة محفوظاتها مع بيانات الاستشعار عن بُعد، بما في ذلك صور الأقمار الصناعية للموقع التي التقطت قبل بدء الحرب".

ودأب المختصون لديه على إقامة معارض، يقدمون فيها للزائرين فرصاً لإلقاء النظر على تحف نادرة، شاهدوها من خلال الصور الفوتوغرافية التي تنشرها الصحافة، وكانوا يتمنون مشاهدتها بعيونهم.

حدث هذا مثلاً قبل عشر سنوات، عندما أقيم في "معهد العالم العربي" في باريس معرض بعنوان "منذورون لعشتار، سوريا يناير 1934، أندريه بارو يكتشف ماري". قُدمت فيه قطع وصور ووثائق، تحكي تفاصيل القصة التي نقلت ماري من حيز النسيان إلى النور، والجهود التي بذلها الآثاري الفرنسي، وكذلك دور المؤسسات الوطنية السورية في هذا الأمر، ولاسيما الاستمرار في العمل على الموقع، الذي عاش مرحلة الانتداب الفرنسي، ثم أمسى تحت سلطة الدولة السورية الناشئة.

الاهتمام الفرنسي بموقع ماري، جعله حاضراً ليس في الأوساط العلمية فقط، بل أيضاً لدى الأوساط الشعبية التي تتوق لمشاهدة تفاصيله، وهذا ما فعلته المكتبة الوطنية في جامعة ستراسبورغ التي افتتحت معرضها الحالي "ماري في سوريا، إحياء مدينة في الألفية الثالثة"، لتعرض فيه نسخاً أصلية من اللقى التي لمستها أصابع المنقبين الأوائل، ممن عملوا تحت إشراف الجانب الفرنسي، ولتضع أمام الزائرين وثائق أصلية، تتعلق بسير عملية التنقيب، ولاسيما في الجانب الإداري، حيث تظهر الأوراق المروسة بأسماء الهيئات المنتدبة، إلى جانب تلك التي تظهر حلول السلطة السورية مكانها.

كما يشمل العرض أفلاما سينمائية قصيرة، تم تصويرها في أثناء عمليات البحث الأولى، بالإضافة إلى الشروحات التفصيلية، عن تواريخ العثور على اللقى، وعن مصائر القطع الأخرى، حيث يشرح الفرنسيون أن جزءاً منها جرى تقاسمه بين الجهتين، مثل أسدي معبد عشتار البرونزيين، الذين جثم واحد منهما هنا، بينما يُعرض شقيقه في متحف حلب. كذلك يرى الزائر هنا رأس أحد ملوك ماري (الشاكاناك) مع وجود نسخة غير أصلية محاكية للتمثال، تعويضاً عن بقاء الجسد في متحف حلب أيضاً.

من معرض ستراسبورغ عن ماري

غير أن المعرض الذي يشهد إقبالاً كبيراً، عانى من نقص في المعروضات، ولاسيما تلك المتعلقة بالرقم الأثرية، إذ تذكر الموسوعة العربية (موسوعة حكومية سورية) أن الكشف الأكثر أهمية القصر الملكي الكبير، قصر زمري - ليم، هو "الأرشيف الملكي الذي كُشف بين أعوام 1935-1939 وضمَّ نحو العشرين ألف لوحة كتابية، فعُدَّ مكتبةً تنافس أكبر مكتبات الشرق القديم". وبحسب المصدر نفسه فإن هذا الأرشيف ورغم كونه لا يغطي إلا مرحلة قصيرة من تاريخ ماري، هي نحو 30 عاماً بين حكم يسمع- حدد وزمري - ليم، "إلا أنه ساعد على تصحيح تاريخ الألف الثاني كله، وأضاف معلومات سياسية وعسكرية ودينية واقتصادية بالغة القيمة العلمية والتاريخية". ولا يغيب في سياق الحديث عن هذا الجزء الهام من لقى مدينة ماري أن هذا الأرشيف قد كان مثار جدل علمي (ودائماً بحسب الموسوعة العربية) فبعد أن دُرس في البداية من قبل عالم الآشوريات الشهير جورج دوسان G.Dossin، ثم تناوب على دراسته باحثون مختلفون منهم موريس بيرو M.Birot وجان ماري دوران J.-M.Durand "الذي استخدم هذا الأرشيف بطريقة مسيئة، دفعت المديرية العامة للآثار والمتاحف إلى المطالبة بعودته من فرنسا، التي نُقل إليها منذ اكتشافه، لوضع ضوابط دراسته على نحو علمي نزيه".