icon
التغطية الحية

"في البر والبحر": فيلم وثائقي جديد يسرد تاريخ لبنان مع العنف

2023.07.20 | 09:36 دمشق

مشهد من فيلم "في البر والبحر" لا يظهر فيه وجه الشخص الذي أدلى بشهادته عن الحرب في لبنان
مشهد من فيلم "في البر والبحر" لا يظهر فيه وجه الشخص الذي أدلى بشهادته عن الحرب في لبنان
Middle East Eye - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

ما بين عامي 1975-1990، أجبرت الحرب الأهلية اللبنانية نحو مليون شخص على الفرار من البلد، وخلفت 120 ألف قتيل، إذ شكلت الفصائل المسلحة حدوداً طائفية طويلة، وتدخل النظام الديكتاتوري في سوريا فاحتل أجزاء من شمالي البلاد، في حين غزت القوات الإسرائيلية جنوبي لبنان واحتلته، وأخذت ترتكب المجزرة تلو المجزرة.

خلال العقود الثلاثة التي تلت النزاع الذي انتهى رسمياً بعد خمسة عشر عاماً، بقي مصير لبنان مرهوناً بالحالة الطائفية والعنف السياسي والحالة الميليشياوية التي كرستها الحرب.

بعد مرور أكثر من 32 عاماً على ذلك، ما تزال مواقع القبور تكتشف، وفي كثير من الحالات بقيت مخفية تحت تراب الحدائق وباحات المدارس وفي عمق البحر أيضاً.

تلك القبور تحولت إلى موضوع كئيب لفيلم وثائقي جديد بعنوان: "في البر والبحر"، والذي يسرد قصص من بقوا بانتظار رفات أحبائهم الذين فُقدوا خلال حمام الدم في لبنان.

وهذا الفيلم من إخراج دانييل روغو، الذي أنتج الفيلم بالتعاون مع كارمن حسون أبي جودة، ويبحث الفيلم في التاريخ السحيق لأخبار العنف، مع عرض ما يبدو على أنه مشاهد للحياة اليومية في مناطق مختلفة من البلد.

بيد أن البحث في تاريخ العنف ليس بالأمر اليسير، ففي لبنان، لا يدرس أحد الحرب الأهلية في المدرسة، ولا يرد ذكرها في المناهج التعليمية التي تتوقف الأحداث فيها عند استقلال لبنان عن الحكم الفرنسي في عام 1943، لأنه بعد كل ما جرى وحدث، ما تزال سرديات المجازر، على الرغم من أنها أضحت بعيدة، تثير الأحقاد القديمة.

جلاوزة يفلتون من العقاب

لعل الهشاشة والضعف هما أكثر ما يحس به المرء عند مشاهدة فيلم "في البر والبحر" الذي يقدم صورة آسرة وغير تقليدية لأخبار وقصص من دون أن يعرض وجوه أصحابها، أو أن يذكر أسماءهم الكاملة، أما أصواتهم فتغطي عليها صور الحرب واللقطات المأخوذة حديثاً للمناطق التي تغيرت كثيراً.

بيد أن تذكر تلك القصص والأخبار صعب للغاية، ويعتبر شهادة قاسية لكنها مهمة على ما تخلفه الحرب الأهلية من عواقب، إذ تمكن معظم الجلاوزة والمسؤولين عن القتل من الفرار من مسرح جريمتهم بلا عودة، تاركين الأهالي من دون معرفة مصير أحبائهم.

والأسوأ من كل ذلك هو أن معظم قادة الميليشيات خلال الحرب الأهلية أصبحوا اليوم رجال السياسة في الحكومة اللبنانية.

في مطلع الفيلم، تظهر أم لم تعرف أي شيء عن ابنها الذي كان طالباً في الصف التاسع وقتئذ، واسمه ماهر، لكنه بدأ يخضع لتدريب عسكري خلال الحرب.

كانت تلك الأم تتمنى أن ترسل ابنها خارج البلد، ولكن مع تقدم القوات الإسرائيلية نحو العاصمة، تتذكر ماهراً وكيف كان: "مقتنعاً بضرورة منع إسرائيل من الوصول إلى بيروت".

في 17 حزيران 1982، توجه ماهر مع غيره إلى الجامعة اللبنانية، وفي البيت، نظرت الأم من نافذتها لترى القوات الإسرائيلية وهي تقترب، ثم شاهدت ما بدا لها: "ناراً حمراء تتصاعد نحو السماء".

خرجت المرأة لتبحث عن ماهر، ولكن عندما وصلت إلى الحرم الجامعي، لم تعثر عليه، وعندما عادت إلى الحرم في اليوم التالي أخبروها بأن ماهراً فُقد مع بقية أفراد مجموعته.

وعلى مدار السنين، أخبرها بعضهم بأن القوات اللبنانية، وهو اسم ميليشيا مسيحية متحالفة مع إسرائيل، اختطفت 60 شخصاً من الجامعة.

وهكذا تمتد المآسي التي يتحدث عنها فيلم: "في البر والبحر" لتشمل معظم مناطق لبنان، وفي بعض الأحيان تتجاوز حدوده.

"من يدري ماذا يوجد تحت التراب؟"

تتذكر امرأة أخرى أنها كانت تسمع صوت صراخ وطلقات وهي في بيتها الكائن في أحد أحياء بيروت، ولهذا أخذت هي وغيرها من أبناء الحي يخرجون في كل يوم ليتعرفوا إلى أماكن الجثث، وعن ذلك تقول: "كنا نعثر على جثة، اثنتين، ثلاث، خمس، بل حتى عشر جثث، وفي بعض الأحيان لا نعثر على شيء".

تحولت تلك البقعة الآن إلى أرض زراعية، ولكن على الرغم من استبدال التربة هناك، بقيت المرأة تتساءل: "من يدري ماذا يوجد تحت التراب؟"، وبمجرد أن تتفوه بذلك، تتبع الكاميرا امرأة وطفلاً يسيران نحو الحقل من خلف سياج مؤلف من سلاسل.

تخبرنا المرأة بأن مواقع مشابهة لذلك الموقع قد اختفت تحت الطرق السريعة والعمارات السكنية، وعنها تقول: "كنت آمل أن يظهر شخص صاحب ضمير بين من يحفرون ليخبر الجميع إن عثروا على أي شيء، ولكن أحداً لم يتفوه بكلمة عن ذلك".

بعد ذلك، يتناوب الفيلم بين شهادتين أدلى بهما رجل وامرأة وهما يتذكران كيف دخلت القوات السورية إلى منطقة بيت مري التي لا تبعد كثيراً عن بيروت، في تشرين الأول من عام 1990. إذ في ذلك اليوم، هرب أبناء تلك القرية، في حين أسر آخرون.

وعند عودة الأهالي مع اقتراب عيد الميلاد في عام 1990، يخبرنا الرجل كيف تحققوا من المباني والجدران والفتحات في الأرض بحثاً عن المفقودين، ووصل آخرون لمساعدتهم في البحث، وعن ذلك يقول: "بحثوا في كل مكان ولم يعثروا على شيء ولا أي أثر يدل عليهم".

تخبرنا امرأة أخرى بقصة شقيقها الذي اختفى بعد مغادرته لقرية عنجر شرقي لبنان، وذلك ليوصل الخضراوات إلى بيروت في تموز من عام 1983، ولقد طلبت أسرته من الأحزاب السياسية ومن الميليشيات الكشف عن مصيره، ثم سافر أهله إلى سوريا بحثاً عنه، إلا أن بحثهم لم يتمخض عن أي نتيجة.

تحكي المرأة كيف قالت لها أمها: "إن مت قبل عودة أخيك، تعالي إلي واطرقي على قبري"، ولكن أمها فارقت الحياة قبل أن يُكتشف مصير شقيقها.

يصف أشخاص آخرون أجريت معهم مقابلات من أجل هذا الفيلم تجربتهم الأولى مع التعذيب، إذ يتناوب رجل وامرأة بالحديث عن عمليات الاستجواب والضرب التي تعرضا لها في المدرسة الأميركية بطرابلس، ثم في عنجر، وبعدها في سوريا.

تخبرنا المرأة التي خضعت للاستجواب وهُددت بالقتل وضُربت بالكابلات الكهربائية بأنهم ضربوها كما تضرب سجادة بعصا.

ومن جانبه يروي لنا الرجل ما حدث له بعد ساعة أو أكثر من تعرضه للتعذيب، في مشهد يعيد للذاكرة القصص المروعة للعنف الذي مارسه النظام السوري خلال السنوات الماضية، فقد سجن هذا الرجل مع غيره في غرفة، والهدف من كل ذلك هو جعلهم يسمعون أصوات الضرب والصراخ من حولهم.

ثم تسرد لنا نساء فقدن أحباء لهن في مجزرة صبرا وشاتيلا التي وقعت في أيلول من عام 1982 داخل مخيمين للاجئين الفلسطينيين، وتعتبر هذه المجزرة من أكثر المجازر توثيقاً لممارسة العنف الجماعي في زمن الحرب.

إذ في الوقت الذي طوقت فيه القوات الإسرائيلية تلك المخيمات، ذبحت القوات اللبنانية من المدنيين عدداً يتراوح بين بضعة مئات و3500 شخص، وإثر عودة الأهالي الذين أجبروا على النزوح من المخيم، عثروا على ما يثبت وقوع المجزرة في كل مكان حولهم، ولهذا تقول إحدى النساء: "انتفخت أجساد القتلى تحت الشمس، وعثرنا عليها مقطعة الأوصال".

وبالطبع ما تزال جهود الأهالي في تعقب الأدلة الدامغة على ما حدث لأقاربهم تنتظر أن يُفصل بأمرها، على الرغم من وجود أكثر من مئة قبر جماعي في أرجاء لبنان.

واليوم، في الوقت الذي يعاني فيه لبنان من أزمة اقتصادية خانقة، وبعد وصوله إلى طريق مسدود على المستوى السياسي أبقى البلد بلا رئيس، ومع ظهور موجة جديدة من العنصرية ضد السوريين وغيرهم من اللاجئين، يأتي فيلم "في البر والبحر" ليذكرنا بالأزمات السابقة التي مرت على هذا البلد وبقيت بلا حلول.

بيد أن التحذيرات التي يطلقها الفيلم لا تنطبق على لبنان وحده، إذ إن الجهود عينها لا بد أن تنطلق في يوم من الأيام فيما يتصل بسوريا التي قُتل فيها الآلاف من الناس خلال الحرب التي امتدت لأكثر من عقد من الزمان، كما ينطبق الأمر نفسه على من ماتوا واختفوا خلال موجة اللجوء إلى أوروبا، إذ فُقد أكثر من 27 ألف إنسان في البحر المتوسط منذ عام 2014.

ولهذا يقدم فيلم "في البر والبحر" خريطة طريق مفتوحة لتقصي مآس من هذا القبيل، والأمل، كل الأمل، هو ألا نحتاج لعقود طويلة قبل أن ننبش تاريخ العنف.

المصدر: Middle East Eye