icon
التغطية الحية

فيلم "الحدود الخضراء".. عن اللاجئين العالقين في عالم النسيان

2023.12.30 | 16:04 دمشق

آخر تحديث: 30.12.2023 | 16:04 دمشق

فيلم
جلال الطويل في فيلم "الحدود الخضراء"
+A
حجم الخط
-A

تقدم المخرجة البولندية المشهورة Agnieszka Holland شريطها السينمائي الصادم والمثير للجدل "الحدود الخضراء" The Green Border؛ لتكمل من خلاله سلسلة من أعمالها السينمائية التي تتمحور حول السُبل التي يسلكها الأفراد المقهورون في البحث عن دروب النجاة والخلاص في عالمٍ سمته الرئيسة العنف. وهو استكمال لرؤية فنية سينمائية انتهجتها "هولاند" لتشريح آليات التحكم والسيطرة والاستبعاد استنادا إلى العرق أو اللون أو الجغرافيا. ويمكن لنا العودة هنا إلى أشهر أفلامها: "المشعوذ" 2020، و"أوربا.. أوربا" 1990، والتي أفردت فيهما مساحة لتوصيف سلوك الأفراد لتحصيل حقهم في الحياة في ظل سلطات سياسة إقصائية.

وخلال ساعتين ونصف الساعة، تطرح "هولاند" في فيلمها الأخير، تلك الرحلة الشاقة لمحاولة وصول عائلة سورية إلى أوروبا عبر بيلاروسيا، والتفاصيل اليومية للعلاقة مع حرس الحدود البولندي وعلاقتهم باللاجئين.

يستمد الفيلم حكايته من أحداث راهنة في العام 2021، عندما بات آلاف المهاجرين عالقين على حدود الاتحاد الأوروبي، وسط شروط حياتية قاسية وخطيرة، بعد تهديد زعيم بيلاروسيا "لوكاشينكو" بإغراق الاتحاد الأوربي بالمخدرات والمهاجرين، كردٍ على العقوبات الموقعة بحقه، وقبل أن تقوم روسيا "بوتين" بغزو أوكرانيا بعام واحد أيضا.

يتوزع الشريط السينمائي على عدة مسارات، عنونت المخرجة كل منها باسم محدد، لنرى أسباب الأفعال التي يقوم بها الفاعلون في الحياة "والفيلم كذلك".

فيلم

في القسم الأول "العائلة"، نتعرف إلى عائلة سورية فرّت من الحصار في الغوطة الشرقية "حرستا"، ومكوثها سنوات في مخيمات اللجوء، وتعرّض الأب "جلال الطويل" للجلد والعقاب من قبل تنظيم الدولة "داعش". ورغم التوتر المستمر الذي يسم شخصية الأب، نرى على النقيض الجّد "محمد آل رشي" والزوجة وهما يحاولان نسيان التجربة الشاقة في سورية، والتطلع إلى النجاة بالأطفال للوصول إلى السويد، حيث يوجد الابن الثاني.

تنظم لاجئة أفغانية إلى تلك العائلة، ثم نرى العديد من الشخصيات التي تبحث عن طرق الخلاص من مجتمعات دمرتها الحروب الداخلية، هكذا نرى شخصيات من لبنان والمغرب وأفغانستان وإفريقيا، ودول أخرى لا تزال تعيش دوامة الحروب منذ عقود. وفي المشهد أيضا نرى بعض أفراد الحرس الذين يستغلون اللاجئين ويستهينون بهم ماديا ومعنويا، ويسخرون منهم، فهم مجموعة "من ذوي البشرة الداكنة، نتنون بشكل لا يطاق".

جميع تلك الشخصيات، سوف تتقلص مساحة الأمل لديها بالوصول السهل إلى دول الاتحاد الأوربي، حين يقعون عرضة لعنف ووحشية حرس الحدود البولندي والبيلاروسي، في عملية طردٍ لا تبدو أنها ستنتهي كل مرة من حدود إلى أخرى، ترافقًا مع الضرب الوحشي الذي يؤدي إلى حالات من الإجهاض لدى بعض النساء، وعطب جسدي لدى بعض الرجال.

في القسم الثاني "حرس الحدود"، سوف يتضح ذلك الخطاب العنصري والشوفيني من قبل قائد حرس الحدود، وموافقة العناصر أيضا على مضمون المقولات العنصرية. وسوف نرى أولئك الجنود وعائلاتهم وهم يعيشون حياة يغلّفها المواقف المتعاطفة مع الآلام الحياتية الصغيرة كاكتئاب الحمل وغيرها، مقابل النظر إلى اللاجئين "كحيوانات" بكل ما تعني الكلمة.

وبما أن "بوتين" و"لوكاشينكو" قد استخدما اللاجئين لمحاربة أوربا، فلا بأس بخطاب أوربي ينظر إلى اللاجئين أيضا كـ "أشياء" أو عناصر غير بشرية في الصراع الأوربي الداخلي. هكذا يبدو كلام القائد عن اللاجئين بوصفهم "تهديد حقيقي، إنهم ليسوا بشر. لقد عُثر معهم على مواد إرهابية وجنس مع الأطفال والحيوانات. خلال ستة أشهر سيكون لدينا هجوم على مترو أنفاق وارسو".

في القسم الثالث "النشطاء"، سوف يظهر مواطنو بولندا وهم يحاولون مساعدة اللاجئين. فالخطاب والسلوك العنصري قادم من الحكومة اليمينية، التي تمارس عنفها حتى على مواطنيها. نرى هنا الكثير من المتطوعين "أطباء، محامون" وكذلك معارضون لنظام الحكم، ممن يغامرون بسلامتهم ويكسرون قواعد لعبة السياسة والانتصار للجانب الأخلاقي والإنساني.

هنا، وحتى نهاية الفيلم، سوف يتحول التركيز إلى الشخصيات البولندية. ويتدرج الأمر من عدم الاهتمام بما يجري خارج هذا المجتمع، إلى الإحساس بمدى التشويه الذي تمارسه السلطة السياسية على أفعال وسلوك البشر. يظهر ذلك مثلا، من خلال مشهد رفض سيدة "إحدى شخصيات الفيلم الثانوية" إطالة النظر إلى مقطع فيديو يظهر فيه أحد حرس الحدود وهو يضرب مهاجرًا. ويظهر الحارس جان Tomasz Wlosok الذي ينتظر مولودا، وهو يتعاطف مع اللاجئات الحوامل اللاتي يلتقي بهن.

هذا الأمر، سوف يستمر مع القسم الرابع "يوليا"، الذي يفرد مساحة كبيرة للمخرجة لنقد النظام السياسي القائم، وتبيان زيف التشدق بحقو الإنسان والليبرالية من خلال الناشطة والطبيبة النفسية يوليا Maja Ostaszewska، وتعرضها للعنف بسبب مواقفها الداعمة لإنقاذ اللاجئين، وهو ما نجحت في بعضه مع حالات كثيرة.

وفي لقطة حملت من معاني الانتصار للإنسانية والأخلاق، تنقذ يوليا اثنين من اللاجئين الأفارقة من مستنقع داخل المنطقة المحظورة، وترسلهم إلى أحد مرضاها المعارضين، وسوف تظهر قيمة الإنسانية بشكل واضح متجاوزة حدود العرق واللون والجغرافيا، حين يلتقيان بأبناء العائلة ويغنون سويا "أبكي حين تبكين، أنحني حين تنحنين، أصلي عندما تصلين، أموت ألف مرة، ونرحل دون أن يتسع الوقت لإصلاحنا".

تختم "هولاند" فيلمها بقسم أطلقت عليه "خاتمة"، وهو يصور وصول اللاجئين الأوكرانيين إلى بولندا، واستقبالهم بكل تعاون، وتعاطف وتسهيلات معنوية ومادية. وتقترب الكاميرا لترصد ماذا يحمل هؤلاء اللاجئين من طيور في أقفاصها، أو قطط وكلاب في صناديق خاصة بها، فهؤلاء "يشبهوننا" أو ربما يشكل استقبالهم دعما لموقف سياسي وإيديولوجي.

وقبل أن تنوّه المخرجة أن بولندا استقبلت ما يقارب من مليوني لاجئ أوكراني، وأنه لا يزال هناك الكثير من اللاجئين "غير الأوربيين" عالقين في الغابات وعلى الحدود ويتعرضون للموت؛ سوف تعاتب جندية زميلها وهو يهتم بالأطفال الأوكرانيين، بالقول: "من المؤسف أنك لم تكن أبًا حنونًا هكذا لأولئك الأطفال على الحدود البيلاروسية أيها المنافق". وكأنها رسالة غير مشفّرة من صناع الفيلم إلى جميع حكومات الاتحاد الأوربي.

فيلم "الحدود الخضراء" هو لوحة درامية للأفراد العالقين بين طواحين الحياة الموجعة، متأرجحين بين اليأس والأمل والخوف والصراعات السياسية، مقتفيا أثر اللاجئين العالقين في عالم النسيان.

بقي أن ننوه إلى أن الفيلم "الحائزة على جائزة مهرجان فينسيا الدولي" قد تعرض لهجوم شديد ومتكرر من قبل الحكومة البولندية، وشبّه الرئيس البولندي "أندريه دودا" الفيلم بالدعاية بالنازية، داعيًا إلى مقاطعته. وكان وزير العدل البولندي "زبيغنيو زيوبرو" قد شبّهه بفيلم دعائي لألمانيا النازية "يظهر البولنديين على أنهم قطاع طرق وقتلة"، مشيرا إلى المخرجة "هولاند" بوصفها "ستالينية". هذا وقد تم إصدار قرار بعدم ترشيح الفيلم لجوائز أفضل فيلم دولي في مسابقة الأوسكار للعام 2024.

سفاقف
من الفيلم