فوق "جسر التنهدات" تحت جسر الرئيس

2022.05.12 | 07:08 دمشق

jsr-alryys-almtqlyn.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد أن اعتقد السوريون، لعقدٍ كامل، أن لسجون حافظ الأسد (صمّام عدم رجوع). أصدر حافظ الأسد عفواً (عاماً) نهاية عام 1991. شمل العفو قرابة 2800 سجين قضوا في سجونه ما بين ثمانٍ وعشر سنوات، معظمهم من الإسلاميين ممن حكمتهم المحكمة الميدانية بالبراءة، وجُلّهم كانوا من الأحداث لحظة اعتقالهم. كان من نصيب سجن صيدنايا، حيث كنتُ، عدة مئات غادروا السجن على دفعات يومية. دخلوا السجن مطلع الثمانينيات يافعين وأطفالاً وغادروه شباباً ورجالاً.

كان في جناحٍ فوقنا، سبعة معتقلين من الحي الصغير ذاته الذي تربيت فيه، "مساكن المعلمين" في مدينة حمص. سبعةٌ ممن نجوا من مجزرة تدمر والإعدامات هناك. نعم، كانوا أحداثاً حين اعتقالهم ولذلك حكمتهم المحكمة الميدانية "براءة"، ومع ذلك قضوا في السجن تسع سنوات، بينما كان اثنان آخران من جيران الحي قد فقدا حياتهما. أحدهما في مجزرة سجن تدمر الشهيرة، والآخر إعداماً. سيتصادف أن تتلى أسماء خمسة منهم في الدفعة ذاتها فيخرجون إلى الحياة معاً، في حين سبقهما الآخران قبل يوم واحد. بين تلاوة أسمائهم وخروجهم، كتبوا لي رسالة شكر، فقد كنت صلة الوصل بينهم وبين أهاليهم في الفترة الماضية. كانت تلك الرسالة من بين أجمل الرسائل التي تلقيتها في حياتي.

يوم العفو ذاك، فرحت مئات العائلات السورية، في حين بقيت آلاف الأسر تنتظر لسنوات أخرى، من تلك الأسر ما زالت تنتظر حتى اليوم، أبناءها الذين اختفوا قبل عقود

في الحافلة من دمشق إلى حمص، عرف السائق أن معه معتقلين من حي واحد. في المدينة، لم يدخل الرجل إلى الكراج، بل أنزل الركاب على بوابته، ومضى بالخمسة المتبقين، إلى حيّهم. في ساحة "المساكن"، أطلق الرجل، على مدى دقائق دون توقف، أبواق الباص العالية. يومئذ اندلعت الزغاريد من الشرفات. ونزل الناس إلى الساحة، دون أن يلتفتوا لما عليهم من ثياب. نعم نزلت الأمهات والآباء والإخوة وكل الجيران، ليستقبلوا العائدين من الموت.

حوَّل سائق الباص الخروج الاعتباطي إلى حالة من الاحتفال، في حيّ جريح، بمدينة ككل المدن السورية جريحة، في بلد يعيش أهله على حوافّ الموت منذ عقود. يوم العفو ذاك، فرحت مئات العائلات السورية، في حين بقيت آلاف الأسر تنتظر لسنوات أخرى، من تلك الأسر ما زالت تنتظر حتى اليوم أبناءها الذين اختفوا قبل عقود. ما أردت الحديث عنه هنا هو هذا السائق. بدا لي وكأنه يمثل جمال الناس بمواجهة بشاعة السلطة، فكل بشاعةٍ وقبحٍ وسوءٍ في سوريا، كان خلفه نظام الأسد، حتى لو بدا ظاهر الأمر غير ذلك. فبينما يقوم نظام الخراب بسحق كل ما هو جميل، يحاول سوريون طبيعيون وبسطاء أن يزينوا الحياة ببعض اللطائف كلما استطاعوا.

إذاً حدث ما يشبه الذي يجري اليوم قبل نحو 30 عاماً. يومئذ أيضاً خرج السوريون هائمين على وجوههم، إلى مداخل المدن ومواقف الحافلات، حيث يتوقعون وصول الأبناء الغائبين منذ سنوات طويلة، دون أية معلومة عنهم. كان الناس كالسكارى وما هم سكارى، يفتشون في حالة من الهيستيريا، كل حافلة تمر. ويومئذ كنت، وآلافاً آخرين، ممن لم تشملهم قوائم العفو. فقط نسمع عما يجري في المدن السورية، عبر ما يرويه لنا الأهل في زيارات السجن.

نحن لا نختار الحقبة التي نولد ونعيش فيها. أقصى ما نستطيعه هو التكيف مع معطياتها ومجرياتها وأحداثها. هذا التكيف لم يكن سهلاً على البشرية في كثير من الحقب. فالتاريخ البشري مملوء بالمآسي، أوبئة وحروب وكوارث طبيعية ومجازر. إذاً لنعترف بدايةً، أن عيش السوريين في حقبة الأسد ليست استثناء في التاريخ الإنساني. ومع ذلك فإن شعورنا المرير بغضبة الحياة علينا، هو أيضاً شعور طبيعي، فكل المجموعات البشرية التي عاشت الكوارث قبلنا أصابها هذا الإحساس. ومن نجا حاول التحايل على الحياة بدل التكيف الطبيعي معها.

يتابع السوريون مشاهد خروج بعض المعتقلين من سجون الأسد الابن. صور كثيرة ووقائع قليلة، وأقل منها الأسماء. صور نادرة لناجين يحضنون أهاليهم. كل هذا يجعل الحالة أكثر غموضاً، والغموض فن خاص كان الأسد الأب أكثر من أتقنه. بينما يبدو مشهد المتجمعين تحت الجسر في وسط العاصمة دمشق، يشبه الحكاية السورية منذ أكثر من نصف قرن. كل ما جرى ويجري من خراب سوري، على كل الأصعدة خلال تلك العقود، كان يجري تحت نظر وأوامر وتوجيهات و(جسر) الرئيس. حتى ليمكننا تكثيف الحكاية السورية بكاملها منذ نصف قرن، من خلال حكاية سجون الأسد.

على هامش المشهد، تحت الجسر وفي مداخل المدن السورية، حيث ينتظر السوريون، آملين أن يكونوا من بين المحظوظين الذين نجا أحبتهم من مجزرة السجن السوري المستدام. على هامش استهتار الأسد بأرواح السجناء المفرج عنهم، تتسرب حكايات صغيرة تشبه حكاية السائق عام 1991. عائلة احتضنت سجيناً ريثما يجد أهله، مساعدة مالية قدمها أحدهم لسجين كي يستطيع الوصول إلى مدينته، وغيرها من تلك الحكايات التي تؤكد مسألة أساسية، كيف أن نظام الأسد يخالف كل سلوك بشري طبيعي، وكيف أن الناس البسطاء والعاديين يصححون ويخففون عن الضحايا نتائج جلافته. لن يخوننا التعبير لو قلنا، إنهم يرممون قبحه ببعض جماليات سلوك البشر العاديين.

فوق نهر "ريو دي بلازو" في مدينة فينيسيا الإيطالية، يمتد "جسر التنهدات". ليصل بين قصر "دوج" الذي احتوى خلال تاريخه الطويل مقراً لمحاكم التفتيش، وبين السجن في الجهة المقابلة. بُني الجسر الشهير في مطلع القرن السابع عشر، وسمي باسمه الحالي في القرن التاسع عشر، بفضل قصيدة للشاعر الإنكليزي "بايرون". عليه كان يمر السجناء المحكومون بالإعدام، لينتقلوا من المحكمة إلى السجن. هناك كانوا يطلقون آهاتهم وتنهداتهم الأخيرة قبل موتهم.

على العكس من جسر البندقية، المعروف بجماله الذي ألهم معماريين آخرين لتقليده في عدة أماكن من العالم. يقع وسط دمشق "جسر الرئيس" وهو (صرحٌ إسمنتي)، بُني زمن الأسد الأب، وكمعظم ما خلفه المِعمارُ الأسدي والبعثي عموماً، على قلّته، فإن الجسر يتسم بالقباحة. ولأن للبعثيين والأسديين ذوقهم الخاص، فقد سمّوه لشدة فخرهم به، باسم الرئيس. ليشتهر فجأة خلال الأسبوع الماضي، ويطلق عليه السوريون أسماء جديدة، "جسر الانتظار" أو "جسر المجزرة".

تحت الجسر، رأينا وسمعنا جزءاً بسيطاً، لكن ليس دون دلالةٍ، من مآسي السوريين الذين ناموا هناك، وفي أمكنة أخرى على أمل عودة المختفين. امرأة شابة من بين المنتظرين، ستقول في مقطع مصور: "بس يخبرونا إذا موجودين أو لاء. إذا عايشين أو ميتين. أبي وأخي صارلهم تسع سنين. لليوم ما منعرف عنهم شي". هل يبدو طلبها بسيطاً؟ إنسانياً طبعاً، هو من أبسط حقوقها، أما سورياً في زمن الأسد فلا، ليس بسيطاً على الإطلاق. معرفة مصير عشرات وربما مئات الآلاف من المختفين سيكون كارثة لنظام الأسد، رغم قدرته على احتمال أن يكون نظاماً أكثر من كارثيّ. فالغموض هو ما يجب أن يستمر مكتنفاً هذا الملف منذ ثمانينييات القرن الماضي وحتى اليوم. ملف المعتقلين والمختفين يجب أن يبقى على هذا النحو، كي لا يظهر حجم الجريمة. هذا ما فعله حافظ الأسد، وهو ما يتابعه وريثه اليوم.

إشهار السوريين اليوم لصور المختفين أمام العائدين علَّهم يتعرفون عليهم، وانتشار مئات الصور وآلاف الأسماء للمفقودين على مواقع التواصل بشكل غير مسبوق، يدلل بصورة لا تقبل أية مراوغة، أن السوريين لا يعيشون في دولةٍ

يتحدث أحدهم عن امرأة رأت صورة ابنها بين صور قيصر للقتلى تحت التعذيب، ومع ذلك تخرج كل يوم لتنتظر مع آخرين ابنها الذي لن يعود. قوة الأمل تصنع المعجزات، لكن لم يحدث يوماً أنها أعادت القتلى من موتهم. عام 1991 كان أبي ينتظرني، حالُهُ حال عشرات الآلاف، ممن خاب أملهم بعد أيام قليلة من العفو. كان يومياً يخرج للطريق صباحاً ولا يعود إلا بعد أن يهدّه التعب، ليجلس أمام الشباك ويتابع الانتظار. كان على أبي أن ينتظر بعدها خمس سنوات أخرى ليراني عائداً، وأراه أنا بعد تسع سنوات من الغياب، كانت كافية لتقوم بتهديمه النهائي.

قد يلخص القول المخزي للرئيس الفرنسي ماكرون، الذي أطلقه عام 2017، حالَ السوريين مع الأسد: "الأسد ليس عدواً لفرنسا، إنه عدو السوريين". إشهار السوريين اليوم لصور المختفين أمام العائدين علَّهم يتعرفون عليهم، وانتشار مئات الصور وآلاف الأسماء للمفقودين على مواقع التواصل بشكل غير مسبوق، يدلل بصورة لا تقبل أية مراوغة، أن السوريين لا يعيشون في دولةٍ، كان من واجبها أقلّهُ، أن تخبرهم بالمعلومات عن أبنائهم، وإنما تحت حكم مافيات ترتكب الجريمة وتحاول إخفاء آثارها. دولة يحكمها "عدو السوريين" بحسب ماكرون.

في بلاد الألم والقهر والجوع والإخفاء والموت والمجازر الجماعية. سوريا التي ما زالت منذ نصف قرن تسير فوق نهرها على "جسر التنهدات"، فإن معظم السوريين اليوم، بمن فيهم الموالون، إما يسيرون على جسر تنهداتٍ ما، ويطلقون آهاتهم من الجوع والحرمان وانعدام أسباب الحياة، أو أنهم يقبعون تحت جسر الرئيس، وهم يذرفون الدموع. فبينما كان المحكومون بالموت فقط هم من يطلقون آهاتهم فوق جسر البندقية، فإن ملايين السوريين، فعلاً أو مجازاً، ينتحبون اليوم تحت جسر الرئيس. يا لقسوة الحقبة التي عشناها! أكان على السوريين احتمال كل تلك التراجيديا لأكثر من نصف قرن؟