تنامت العدائية بين صفوف الناخبين ضمن الطيف السياسي بأكمله تجاه ملايين الأشخاص الذين هربوا من نظام بشار الأسد، ولهذا استجاب رجب طيب أردوغان وخصومه الآن لتلك الحالة عبر تصعيد النبرة بخصوص إعادة النازحين واللاجئين إلى موطنهم.
عندما هجرت الحرب في سوريا وتبعاتها على الجار العراقي ملايين الأشخاص من بيوتهم، قامت تركيا بتجربة سياسية جريئة ابتداء من العام 2011 وما بعده، حيث تحولت إلى وطن لأكبر تجمع للاجئين في العالم، أي لما يقارب من أربعة ملايين نسمة مسجلين وما يزيد عن مليون نسمة آخرين غير مسجلين، وذلك خلال الأعوام القليلة الماضية، وهنا لا يمكننا أن نبالغ حول مدى الشجاعة والكرم الذي أظهرته دول مثل تركيا، حيث فتحت أبوابها لملايين الناس المحتاجين في الوقت الذي لم يكلف العالم نفسه عناء تقديم أي معونة مهما بلغت بساطتها. ففي تركيا وحدها بلغت تكلفة الاستجابة لأزمة اللاجئين ما يزيد عن 35 مليار دولار أميركي، معظمها أتى من خزينة الدولة نفسها.
وبعد مرور ثماني سنوات تقريباً، يبدو كأن هذه التجربة قد بلغت نهايتها، ففي تركيا، بالإضافة إلى دول أخرى مثل لبنان وكولومبيا التي تركت لتتحمل عبئاً أخلاقياً وعملياً نيابة عن العالم بأسره، تغير المزاج العام، ليفجر تلك المظالم التي طال كبتها وتناسيها، فأنقرة اليوم باتت في وضع لا تحسد عليه، إذ لا يمكنها أن تفتح باب الجنسية، لأن العامة لن تصوّت على قرار مثل هذا، كما أن فرض هذا الأمر من الأعلى إلى الأسفل سيكون أشبه بمهمة انتحارية لمن يحاول أن يقوم به. ثم إنه لا يمكنها أن تقوم بمداهمات من دار لدار لتقوم بجمع ثم ترحيل ملايين اللاجئين أيضاً، لأن في ذلك مصيبة على المستوى الأخلاقي وفي نظر العالم بأجمعه.
تجنبت أنقرة هذا الخيار عبر تمديد وقتها لأطول مدة ممكنة، بيد أنه لم يعد بوسعها أن تمدد بعد الآن. وبالرغم من أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ما يزال سياسياً عظيماً، إلا أن خياراته باتت محدودة
لطالما تجنبت أنقرة هذا الخيار عبر تمديد وقتها لأطول مدة ممكنة، بيد أنه لم يعد بوسعها أن تمدد بعد الآن. وبالرغم من أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مايزال سياسياً عظيماً، إلا أن خياراته باتت محدودة بعد كل هذه الضغوطات، وهكذا تمكن خصومه من القيام بخطوات غير مسبوقة، كما تمرد عليه أصدقاؤه السابقون، ولا يمكنه أن يثق بحلفائه الحاليين. وبما أنه اشتهر بحدسه السياسي القوي وولعه بالانتخابات والتصويت؛ فقد أحس هذا الرجل بخطر وشيك قادم: إذ تحولت موجة معاداة اللاجئين في تركيا إلى حركة تنتظر من يقودها، لذا عليه أن يتصرف قبل أن تجد تلك الحركة زعيماً سياسياً يقودها.
بيد أن الانتقادات الحالية لم تأت بشكل مفاجئ، كونها تشكلت على مدار سنوات، ولطالما حذر كثير من الباحثين من المشكلات البنيوية للنظام العالمي للاجئين على مدى سنين طويلة، كما حذروا من التشوش المترتب على إيجاد طرق لمخاطبتهم، إذ تمثل المنظومة الحالية أبلغ مثال حول حالة النفاق المنظم، فنظرياً تقوم الدول التي تستضيف اللاجئين بواجبها نيابة عن المجتمع الدولي بأكمله، ولكن على أرض الواقع تستفيد باقي دول العالم من تضحيات تلك البلدان.
ثمة مسؤولية قانونية وأخلاقية تتمثل في عدم طرد أو إعادة اللاجئين إلى وطنهم الأم عند بلوغهم الحدود، ويعرف ذلك بمبدأ عدم الإعادة القسرية الذي تنص عليه المادة رقم 33 من المعاهدة الخاصة باللاجئين، بيد أنه لا توجد أية قواعد أو قوانين تنهى عن ملاحقتهم وإبعادهم قبل أن يصلوا إلى تلك النقطة، كما فعلت أوروبا، أو إبقاء وضعهم القانوني معلقاً في أرض قصية مثل مراكز الاعتقال الأسترالية الموجودة قبالة سواحل ناورو وفي جزيرة مانوس التابعة لغينيا الجديدة، أو في مراكز الاعتقال الأميركية المخصصة للمهاجرين بالقرب من حدودها مع المكسيك.
هذا وتستخدم الدول المصدرة للاجئين سلاح التهجير القسري كوسيلة لإجبار جيرانها وإرغام خصومها. ولقد اعتمد كثيرون على هذا التهديد أولهم رئيس كوبا فيدل كاسترو مروراً برئيس ألمانيا الشرقية إيريك هونيكر ورئيس ليبيا معمر القذافي ورئيس أوغندا إيدي أمين. ولقد اكتشفت الباحثة كيلي غرينهيل من جامعة تافتس والتي باشرت بأول تحليل منهجي حول استخدام التهجير كسلاح، بأنه ضمن ثلاثة أرباع الحالات تقريباً والتي حاول فيها من أجبر على التهجير القسري استخدامه كسلاح تمكن بعض من هؤلاء من تحقيق ما كانوا يصبون إليه على الأقل، بيد أنه لا توجد حتى الآن أية آلية لمحاسبتهم، ولا يحيط الوضوح حتى بأي جهة مسؤولة عن حل أزمات اللاجئين أو تقاسم أعبائهم.
ونتيجة لذلك، ما تزال الدول الأقل قدرة على تحمل تلك الأعباء تحمل تلك المسؤولية على عاتقها، إذ يعيش نصف اللاجئين في العالم في عشر دول فقط، وهي تركيا ولبنان والأردن بالإضافة إلى باكستان وأوغندا وإيران وإثيوبيا، وجميعها باستثناء واحدة منها تقع ضمن الدول النامية، أما متوسط الناتج المحلي الإجمالي للفرد فيها فبالكاد يزيد عن 3.800 دولار. ولقد تعهدت بريطانيا ضمن زوبعة كبيرة بأنها ستكون قد قبلت لجوء 20 ألف سوري بحلول شهر أيار/مايو من العام 2020. أما ولاية كيليس التركية، التي تعتبر من أقل مناطقها سكاناً والذين بلغ عددهم 142 ألف نسمة، فقد أصبحت موطناً لما يعادل 116 ألف لاجئ سوري، أي ما يزيد عمن استقبلتهم المملكة المتحدة بستة أضعاف، والتي يبلغ عدد سكانها 65 مليون نسمة.
بيد أن تضحيات تركيا لا تبرر السياسات الفظيعة غير المسؤولة التي أغرقتها في المستنقع السوري في المقام الأول، وسخفت من المخاوف المشروعة حول حاضر ومستقبل اللاجئين المقيمين فيها
بيد أن تضحيات تركيا لا تبرر السياسات الفظيعة غير المسؤولة التي أغرقتها في المستنقع السوري في المقام الأول، وسخفت من المخاوف المشروعة حول حاضر ومستقبل اللاجئين المقيمين فيها، أو تبرئة هؤلاء الذين تبنوا تلك السياسات لتعزيز ودعم مكاسبهم السياسية، أو كرخصة تسمح لهم بإظهار مواقفهم وآرائهم العنصرية المعادية للأجانب بشكل صريح وبلا أي خجل، وذلك بناء على أكاذيب ومزاعم تنتشر عادة على مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم. ثم إن أغلب الجدل القائم حالياً يفتقر إلى مناقشة ما يجري الآن على أرض الواقع، حيث يتم دفع تركيا نحو نقطة الانهيار، وقد بدأت تنهار بالفعل.
فلقد كشفت دراسة أجريت عام 2018 في مركز تابع لجامعة "إسطنبول بيلغي" لأبحاث الهجرة عن دعم ساحق وعابر للأحزاب لفكرة إعادة اللاجئين إلى بلادهم، إذ يفضل أكثر من 85% من الأتراك أن تتم هذه الخطوة. وحتى بين صفوف الناخبين من حزب الشعب الديمقراطي الموالي للأكراد، والذي يعتبر أكثر حزب يساري بالنسبة للقضايا الاجتماعية؛ إذ بلغت نسبة الدعم في أوجها 75% لهذا الرأي، بالرغم من أن هذا الحزب لديه لجنة دائمة معنية بشؤون اللاجئين، إلا أن موقفه الأكثر وضوحاً قد بني على مصلحته الخاصة، ولهذا يعارض هذا الحزب وبشدة إعادة توطين اللاجئين السوريين، ويعود ذلك لخوفه من إحداث تغيير ديموغرافي في المناطق ذات الغالبية الكردية على طرفي الحدود بين هاتين الدولتين.
الكاتب: سليم سازك طالب دكتوراه في العلوم السياسية بجامعة براون.
المصدر: فورين بوليسي