icon
التغطية الحية

فورين بوليسي: تغير هائل وجذري يطرأ على مخطط إيران وما تخبئه للمنطقة العربية

2023.08.17 | 11:34 دمشق

الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي لدى وصوله إلى مقر الجمعية العمومية بنيويورك في 21 ايلول 2022
الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لدى وصوله إلى مقر الجمعية العمومية بنيويورك في 21 ايلول 2022
Foreign Policy- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979، والقيادة في إيران تحاول أن تهيمن على الشرق الأوسط بعقليتها التي لم تتغير، فضلاً عن سعيها لإخراج الولايات المتحدة وإسرائيل من المنطقة. ولتحقيق هذا الهدف، اعتمدت طهران بشكل كبير على أسلوب العصا المعروف، فهي تحاول تدمير الدول العربية عبر الابتزاز أو الحركات المتمردة في الوقت الذي تشن فيه حملة إرهابية لا هوادة فيها ضد الولايات المتحدة وإسرائيل.

وفي الحين الذي لم تتغير فيه تلك الأهداف، يبدو أن الإيرانيين غيروا مخططهم الأكبر بطريقة جذرية، إلا أنه لا يسعنا التأكد من ذلك، من جراء غموض عملية صناعة القرار في إيران على الدوام، ولكن يبدو أن إيران اكتشفت فجأة أن الجزرة يمكن أن تصبح هي أيضاً أداة مفيدة في مجال السياسة الخارجية، ولهذا حيثما نظرنا سنجد طهران اليوم تقدم حوافز إيجابية تدفع الآخرين للتعاون معها بعد تراجعها عن اللجوء إلى الأساليب الفتاكة. لذا فإن السؤال الذي تواجهه الولايات المتحدة اليوم هو كيف بوسعها أن تعدل سياستها مقابل كل هذا التغيير؟

إيران بعد الوساطة الصينية

ثمة أمثلة كثيرة حول تغير إيران، إذ عبر وساطة صينية، عقدت إيران اتفاقاً مع السعودية، يمنح في ظاهره السعودية امتيازات أكبر من تلك الممنوحة لإيران. ونتيجة لذلك، عادت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بعد انقطاع دام عقداً من الزمان. بل حتى ناقش مسؤولو الدولتين فكرة التعاون لمنع السودان من الوقوع ضحية لحرب أهلية.

أعادت إيران أيضاً علاقاتها الدبلوماسية مع الإمارات، وهي تسعى اليوم للتعاون مع أبوظبي في مجال النقل الجوي والبنية التحتية أيضاً، وبدورها مضت الإمارات أبعد من ذلك عبر انسحابها من التحالف البحري الذي تترأسه الولايات المتحدة في الخليج العربي وموافقتها على الانضمام لتحالف منافس برفقة إيران.

شرع الإيرانيون أيضاً بعقد محادثات هادئة مع البحرين التي لم تغفر حكومتها بعد لطهران محاولاتها العديدة لإشعال ثورة في هذا البلد ذي الغالبية الشيعية. وعقدت إيران أيضاً اتفاقية تنموية جديدة مع عُمان، وطبّعت علاقاتها مع مصر.

وبالمثل، استأنف الإيرانيون محادثاتهم مع تركيا (وكذلك مع روسيا ونظام الأسد) فيما يتصل بالتوصل إلى حل لمشكلاتهما المشتركة في العراق وسوريا. كما عقدت إيران اتفاقية النفط مقابل الغاز مع العراق الذي يهيمن فيه حلفاء إيران على الحكومة أكثر من أي وقت مضى.

والأغرب من كل هذا هو ذلك المقترح الذي قدمته إيران بشأن قيام منتدى إقليمي بعيداً عن الولايات المتحدة أو إسرائيل، وقد حظيت هذه الفكرة بكبير اهتمام لم يكن لأحد أن يتخيله قبل عقد من الزمان. كما أنهى وزير الخارجية الإيراني جولة أجراها في أربع دول خليجية حظي خلالها الإيرانيون باستحسان وتقدير كبيرين لم ينالوا مثله من قبل.

الخلاف على حقل الدرة وغياب الولايات المتحدة

بين العرب والإيرانيين ما صنعه الحداد بكل تأكيد، فطهران لكونها طهران لا يمكنها أن تتجاوز خلافاتها تماماً مع الكويت على حقول الغاز المشتركة، وكذلك الأمر بالنسبة لخلافاتها مع الإمارات بسبب الجزر الثلاث التي وضع الشاه يده عليها قبل أن يسقط، وخلافاتها مع السعودية بخصوص مواصلة إيران مد الحوثيين في اليمن بالسلاح، ولكن عموماً، كان  هذا التحول مداً آسراً وحقيقياً بالمعايير الإيرانية.

ولكن مع كل هذا السلام والمحبة والصداقة التي قدمتها إيران لجيرانها لم تمد يدها بالمثل للولايات المتحدة وإسرائيل، إذ معهما ما تزال إيران تستخدم هراوتها بأقصى ما لديها من قوة، فما تزال البحرية الإيرانية تضايق السفن الأميركية في الخليج، فقد هاجمت إيران ناقلات نفط أميركية أو إسرائيلية في خمس مناسبات على الأقل خلال الأشهر الستة الماضية. كما حشد الإيرانيون الدعم لصالح العديد من الفصائل الفلسطينية، وبالمثل زاد حلفاء إيران ووكلاؤها من الميليشيات الشيعية في العراق من مضايقاتهم للقوات الأميركية هناك. وإلى جانب الحلفاء "السوريين" والروس، يمارس الإيرانيون في سوريا الأمر ذاته، على الرغم من أن عملية تبادل الأسرى الأخيرة بين الولايات المتحدة وإيران كشفت عن حاجة إيران الماسة للمال التي طغت على أي مصلحة لها بتحقيق انفراج حقيقي، أي إن هنالك شيئا يحدث، ولكن لم تضح ماهيته بعد.

يرجح كثيرون بأن الولايات المتحدة عبر مواصلتها لنهجها الساعي إلى الابتعاد عن شؤون الشرق الأوسط (منذ أيام الرئيسين باراك أوباما ودونالد ترامب، وتواصل النهج نفسه ولكن بنسبة أقل مع الرئيس جو بايدن)، خلقت فرصة سانحة أمام إيران.

بيد أن جميع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة يخشون أن تكف عن حمايتهم من التخريب الإيراني أو أي عدوان مباشر من قبل طهران، ولهذا كان بايدن أكثر من أبلى بلاء حسناً في هذا المضمار، إلا أن أياً من هؤلاء الحلفاء لن ينس كيف سخر ترامب من فكرة الدفاع عن السعودية والإمارات ضد الهجوم الإيراني المباشر في عام 2019، ليغير بذلك سياسة أميركا التي استمرت طوال 40 عاما (أو حتى 75 عاماً) بدون أن يدرك أنه فعل ذلك أصلاً.

ونتيجة لذلك، أحس حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية بالحاجة للحد من اعتمادهم عليها، فشرعوا بالبحث عن أصدقاء جدد وداعمين محتملين، فكان ذلك أساس الموجة التي ظهرت في الشرق الأوسط مؤخراً والتي تمثلت بمغازلة الصين وروسيا والهند وبعض الدول الأوروبية.

قد يكون الهدف من السياسات الخارجية الجديدة لإيران هو استغلال هذا الوضع، إذ بعد مرور 40 عاما من التخريب والاعتداء بلا هوادة، أصبحت الدول العربية تعرف ماذا بوسع إيران أن تفعله تماماً، لا سيما في حال غياب الولايات المتحدة عن الساحة لتقف في طريقها. وأمام هذا التهديد الحقيقي، يبدو بأن طهران أضافت حافزاً لتحسين العلاقات في حال تخلى العرب عن اعتمادهم على الولايات المتحدة وقبلوا بالهيمنة الإيرانية بديلاً.

مع تراجع اهتمام الأميركيين بالشرق الأوسط، وانشغال روسيا بأوكرانيا، وافتقار الصين لذراع عسكري حتى تهيمن وتسود، أصبحت الزعامة الإقليمية الألطف والأرق التي تمثلها إيران اليوم جذابة بالنسبة للدول العربية المتوجسة، ولهذا السبب أثبتت الحملة الإيرانية الآسرة الجديدة فعاليتها الكبيرة، حتى ولو بشكل محدود حتى الآن.

في هذه الأثناء، يبدو أن النهج العدواني الذي تواصله طهران تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل مكملاً للاستراتيجية العربية، إذ يبدو بأن إيران تؤمن بأن مواصلتها للتهجم على الأميركيين وعلى المصالح الأميركية في المنطقة لا بد أن يعجل في رحيل الأميركان.

أما بالنسبة لإسرائيل، فإن تصعيد النزاع فيها يساعد إيران على وضع الدول العربية في ورطة أصعب: وهي إما أن تنضموا إلينا فيحل السلام وتقوم التجارة بيننا، أو أن تنضموا لإسرائيل فتقوم الحرب عليكم، خاصة بوجود حكومة إسرائيلية من اليمين المتطرف قررت أن تصعد ضد الفلسطينيين بأساليب يبغضها حتى أشد العرب تراخياً مع إسرائيل، ولهذا فإن خلق مسافة مع إسرائيل له فوائده بنظر معظم الأنظمة العربية. لذا فإن النهج القائم على ازدواجية التقرب من الدول العربية وزيادة الهجمات ضد الولايات المتحدة وإسرائيل قد يكون الهدف منه هو دق إسفين بين الدول العربية وأهم عدوتين لإيران.

بيد أن هذا النهج يحمل بين طياته نقيضه أيضاً، لأن أكثر ما تخشاه إيران هو أن تقوم مصالحة بين الولايات المتحدة وحلفائها من الدول العربية، وأن يحدث تقارب أكبر بين تلك الدول وإسرائيل. ولهذا فإن هذا النهج الاستراتيجي الجديد يوحي بأن إيران فهمت أخيراً بأن ‘تشبيحها’ هو الذي وحد بين أعدائها، ومن هنا عليها أن تركز من جديد على مبدأ: "فرق تسد".

الخوف من إيران مازال قائماً

ما يزال حتى اليوم الدافع الأساسي لقيام الاتفاقيات الإبراهيمية وغيرها من أشكال التقارب بين الدول العربية وإسرائيل هو رغبتها بالتوحد  التي تنبع من خوف مشترك من إيران وحلفائها وأزلامها.

وهنا أيضاً كانت إدارة بايدن محقة عندما رأت بأن المصالحة بين السعودية وإسرائيل وتحالفهما فيما بعد سواء بشكل رسمي أو غير رسمي لا بد أن يشكل تهديداً لإيران ويمكن لذلك أن يصب في مصلحة الولايات المتحدة، وذلك لأن خلق تقارب بين أقوى جيش في المنطقة وأقوى الاقتصادات في المنطقة العربية سيتحول إلى عقبة منيعة أمام أي اعتداء إيراني. ولهذا يسعى الإيرانيون جاهدين لمغازلة السعودية وغيرها من الدول العربية بغية إبعادها عن محور إسرائيل والولايات المتحدة.

ولهذا تستحق إدارة بايدن كل التقدير لاعترافها بأهم جوانب التطور المفاجئ في العلاقات السعودية-الإسرائيلية وفي السعي الحثيث لتحقيق ذلك على أرض الواقع. بيد أن هنالك خطرا متربصا أيضاً، إذ في الوقت الذي يمثل فيه أي تحالف بين السعودية وإسرائيل تهديداً ماحقاً لإيران، سواء أستفادت منه الولايات المتحدة أم لا، لا بد لذلك أن يعتمد بشكل كبير على مدى تدخل الولايات المتحدة ومشاركتها في هذا التحالف، وذلك لأن الإيرانيين لا يحترمون إمكانيات السعودية أو حتى إسرائيل العسكرية كما يحترمون القوة العسكرية الأميركية، لأنها لم تردعها كما فعلت الإمكانات العسكرية الأميركية، ويعود أحد أسباب ذلك إلى الاعتراف بذلك، وهنالك سبب آخر وهو أن هاتين الدولتين لا تمتلكان من الإمكانيات القائمة على جمع المعلومات الاستخبارية ما تمتلكه الولايات المتحدة، كما أن كلاً من الإسرائيليين والعرب يبالغون دوماً في ردة فعلهم تجاه التحركات الإيرانية المشبوهة بطرق من المحتمل أن تصل حد الانفجار لو لم تتدخل واشنطن لتهدئ من روعهم ولتردع عدوهم.

خلاصة القول هنا: إن غياب الدور الأميركي الفاعل في المنطقة وظهور هذا النوع من التحالف بين السعودية وإسرائيل يمكن أن يزيد من الاعتداءات الإيرانية ويدفعها نحو التصعيد، وهذا ما سيخلق نزاعاً على نطاق أوسع لا بد له أن يدمر المنطقة ويمكن أن يصل إلى الولايات المتحدة وأن يتضرر بسببه العالم بأسره في حال أثر على صادرات الطاقة من الشرق الأوسط.

ولهذا السبب يجب علينا أن ننظر إلى التحالف بين السعودية وإسرائيل على أنه جزء من الالتزام الأميركي بمنطقة الشرق الأوسط، لا كبديل عنه، إذ يبدو أن إيران قد تعلمت خدعة جديدة، ولهذا فإن ما ننتظره اليوم هو إن كان بوسع الولايات المتحدة أن تتعلم هي الأخرى حيلاً جديدة.

المصدر: Foreign Policy