icon
التغطية الحية

فلسفة القبيلة بين الاستبداد والفوضى

2023.09.25 | 11:07 دمشق

آخر تحديث: 25.09.2023 | 12:06 دمشق

القبائل السورية
مجلس القبائل والعشائر السورية ـ الأناضول
تلفزيون سوريا ـ عليوي الذرعي
+A
حجم الخط
-A

من الغريب أن نكرر المغالطات التي روجها نظام الأسد عن القبائل السورية، وذلك بعد سنوات من الثورة على منظومته الثقافية، هذه المغالطات تتكرر في الإعلام وفي وسائل التواصل، لتصبح أشبه بمسلمات غير قابلة للنقاش. فهل حقاً تتناقض القبيلة مع فكرة الدولة، وتعُوق الوصول لدولة المواطنة، وتتناقض مع قيم احترام الرأي الآخر والديمقراطية؟

مغالطة "نهاية القبلية كهوية"

تعد القبيلة تنظيمًا اجتماعيًا إنسانيًا، وليست منتجًا عربيًا، وقد عرفته البشرية منذ نحو 12 ألف عام، أي منذ ظهور الثورة الزراعية.

أثبت هذا التنظيم فعاليته واستمراريته بصيغ متعددة وفقًا للظروف المتغيرة. من الأشكال المعاصرة المتطورة عن فكرة القبيلة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وكل تجمع يركز على أهداف محددة، وتجمع بين أفراده روابط معينة، حتى في علم التسويق هناك ما يُعرف اليوم باسم "القبيلة التسويقية"، حيث يرتبط العميل بالمنتج بشكل غريزي وتعصبي، لذلك نجد من يتعصبون لنظام تشغيل ويندوز (Windows) وآخرون لماكنتوش (Mac OS).

تخلص دراسة منشورة في العدد 19 من مجلة عمران للعلوم الاجـتـمـاعـيـة والإنـسـانـيـة بعنوان "الانتماء القبلي في وقتنا الراهن: التداعيات والتحولات" أن الهويات القبلية "لم تتآكل بشكل لا رجعة فيه لمصلحة التماهي مع الدولة والأمة والدين"، كما تنبه أنه "ليس من المناسب أن نقبل من دون تمحيص مزاعم الدول الحديثة القائلة إنها جوهريا تتعارض مع قيم الانتماء القبلي"، وتشير إلى دراستين حديثتين تظهران "كيف تساهم الأنساب ومزاعم الأصل في تأطير فكرة أحقية السلطة السياسية والاجتماعية في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة".

وهذا يثبت أن القبيلة لا تزال حاضرة كهوية للفرد والمجتمع، سوءا بشكلها الطبيعي الفطري أو أشكالها المستحدثة.

مغالطة "نهاية عصر حكم القبيلة" 

ضرورة التنظيم والاجتماع عززت حضور القبيلة واستمرارها بشكلها البدائي، بصورة متوازية مع أشكالها الجديدة. ولكن، محاولات توظيف القبيلة سياسيًا والتدخل في شؤونها الخاصة، والعبث ببعض مكوناتها أدت إلى تشظيها، ومن مظاهر هذا التوظيف والتشظي وجود مشايخ للقبائل في كل حقبة سياسية، فظهر شيوخ خلال فترة الاحتلال الفرنسي، وفي حقبة الأسد صعد العديد من الوجهاء لينافسوا مشايخ الحقب السابقة.

يذهب الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون في كتابه "منبعا الأخلاق والدين" أن الشعور القبلي هو شعور طبيعي غريزي، وبما أنه كذلك فمحاربته والبحث في طبيعته غير مجدية

أما خلال الثورة السورية، فقد تعقد المشهد وزادت سلطات الأمر الواقع. لذلك، وجدنا بعض بيوت المشيخة التقليدية تنشق إلى مشايخ متوزعين بالولاء للسلطات المختلفة. ويبدو أن الصراع بينهم يستند إلى توازنات متفق على سقفها.

إذا عدنا إلى تاريخ المنطقة سنجد أن القبائل هي التي حكمت هذه الجغرافية، فبعد الخلافة الراشدة القصيرة زمنيا، حكم الأمويون ثم العباسيون ثم العثمانيون والصفويون وحتى هولاكو وجنكيز خان كانوا قبائل، وفي حاضر المنطقة أيضا نجد أن معظم الدول محكومة من أنظمة تعود بتكوينها الاجتماعي للقبيلة وحكمت في بداياتها باسم قبائلها، حتى نظام الأسد هو نظام عائلي مموه طائفيا، وما الطائفة إلا وقود وحطب لجوهر النظام المتمثل بالعائلية التي هي نواة للقبلية.

مغالطة "القبيلة نقيضة الدولة والدين"

يذهب الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون في كتابه "منبعا الأخلاق والدين" أن الشعور القبلي هو شعور طبيعي غريزي، وبما أنه كذلك فمحاربته والبحث في طبيعته غير مجدية والأَولَى أن نعترف به ولا نقاومه، لذلك يرى أن شعور الانتماء القبلي يساهم في تعزيز التدين.

وبما أن الشعور القبلي غريزي وفطري فهو يُنتِج تنظيما بدائيا بسيطا، وهذا ما جعل القبيلة تقبل وتدعم تنظيما أكثر تعقيدا، فتقبلت فكرة الدولة وساهمت في تشكيلها تاريخيا، وحاضرا. كما أنه عضوي ومتين، حتى أن تقسيمات القبيلة أغلبها يعود إلى تقسيمات الجسد، فالبَطْنُ: دونَ القبيلةِ، وهو عضو بجسم الإنسان، وفَصِيلة الرجل: عَشِيرته، وهي أيضا زمرة الدم، وعصبته: بَنوه وقَرابتُه لأَبيه، وهي إشارة للأعصاب، وحتى الأسماء التي ليست أعضاء في جسم الإنسان فهي ذات دلالات على التعاون والدعم، فالأُسْرَةُ: الدِّرْعُ الحصينة.

وهذه المعاني المعجمية لتقسيمات القبيلة تشير أن القبيلة تمثل الكائن الحي المكون من أجهزة مختلفة، تتكون بدورها من أعضاء متباينة، ولكل عضو أنسجة متمايزة، وكل نسيج يتكون من خلايا متماثلة، فالقبيلة هي الكائن الحي والفرد هو الخلية التي تشكل الوحدة الوظيفية والبنائية في جسمه.

ونتيجة لذلك؛ تمارس دور أمان اجتماعي، فتضبط الفرد وفق العرف والعادات وتمنعه من التمرد على المنظومة، فالفرد في القبيلة مراقب ومحكوم بعرفها الذي لا يتناقض مع الدين والقانون إلا ببعض الشوائب التي يمكن معالجتها كالثأر وغيره.

مغالطة "القبيلة ترفض الديمقراطية" 

خلصت دراسة أعدها الدكتور يعقوب الكندري أن "قيما مثل احترام الرأي الآخر والعدالة والمساواة والولاء تكون أعلى عند المنتمين إلى أصول قبلية من أولئك المنتمين إلى أصول حضرية" وذلك لأن هذه القيم أصيلة في المجتمعات القبلية، وعندما جاءت الدولة الحديثة كانوا داعمين لها بصيغتها الجديدة.

كما بينت الدراسة أن أبناء القبائل يدعمون المؤسسة الأمنية والدينية أكثر من المنحدرين من أصول حضرية، كما وجد الكندري أن نتائجه تتوافق مع دراسة لباحث يمني وجد أن "أهل الريف أكثر وعياً وممارسة للجوانب الدينية المؤثرة في قيم المواطنة، مقارنة بأهل المدينة".

قد يكون من المبكر تعميم هذه الدراسة على بقية الأوطان العربية فلكل دولة خصوصيتها الثقافية والاجتماعية. ومع ذلك، تعد هذه الدراسة مؤشراً على عدم صحة المزاعم التي تعتبر القبيلة تجمعاً بدائياً يتعارض مع الدولة والديمقراطية.

تجارب الدول العظمى مع القبيلة

عندما دخل الأميركيون إلى العراق كانوا يوزعون كتاب "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي" على جنودهم، لكن شدة وعنف المقاومة العرقية آنذاك جعلتهم يراجعون أفكارهم السطحية عن طبيعة المجتمع العراقي المعقدة.

وهذا ما دفعهم للاستعانة بباحثين عراقيين وأجانب لدراسة القبائل العربية في العراق. وبفضل توصيات مئات الدراسات، توصلوا إلى نقطة الضعف التي استغلوها بنجاح لتشكيل ما يعرف بالصحوات. فقد وجدوا استعلاء الجهاديين المهاجرين على مشايخ القبائل والجهاديين المحليين، لاعتقادهم أن قيمتهم الدينية أعلى.

تعرض تنظيم القاعدة لهزيمة قاسية أمام الصحوات، وعندما تكررت تجربة القاعدة بثوب تنظيم الدولة "داعش"، وجدنا أن وتيرة هذا الاستعلاء خفت، حيث حاول تنظيم الدولة تشكيل جهادية محلية غير عابرة للقارات كما هو حال تنظيم القاعدة الأم.

وقبل تجربة الأميركان القريبة، توجد تجربة ناجحة للبريطانيين في التعامل مع قبائل الخليج العربي، حيث درسوا القبائل وعاشوا معها من خلال المستشرقين ولعل تجربة لورانس العرب تعبر عن فهم دقيق لطبيعة القبائل العربية.

القبيلة شرارة الثورة ولبنة الدولة

القبيلة ليست عاملًا من عوامل هدم الدولة، بل هي لبنة من أهم لبنات بنائها، ولكن المشكلة تحدث عندما تحاول السلطة "عشرنة الدولة، ودولنة العشيرة"، فتسقط الدولة وتباد العشيرة.

بنفس الوقت؛ القبيلة من أهم العوامل التي تساهم في إشعال فتيل الثورات والفوضى وعدم الاستقرار. ونذكر هنا أن الثورة السورية انطلقت بسبب المساس ببعض القيم القبلية التي تقدسها القبائل والأعراف الإنسانية منذ آدم إلى قيام الساعة.

ولهذا السبب، يُعَد التعامل مع القبيلة "دون معرفة" أمرًا خطيرًا. فالقبيلة تحمل العديد من التناقضات، وإدارة هذه التناقضات الداخلية والخارجية يتطلب فهمًا دقيقًا لأبسط الأمور المتعلقة بها. فهمًا لعاداتها وتقاليدها، وفهمًا لمقدساتها وعيوبها.