فرصة تاريخية كبرى

2019.11.06 | 18:09 دمشق

10201928112619221715327.jpg
+A
حجم الخط
-A

تمثل المظاهرات الكبرى في لبنان والعراق، التي كانت شرارتها الأوضاع المعيشية والاقتصادية التي يعانيها السكان، فرصة كبرى لسكان البلدين للخلاص من أنظمة الحكم القائمة على التوزيع الطائفي للسلطة، الذي يلغي أي إمكانية لنشوء دولة ديمقراطية تقوم على احترام حقوق الفرد -المواطن، ويفسح المجال أكثر لنشوء نخب الفساد والمحسوبية، وتعميق الصدوع الطائفية القائمة بالأساس، لمصلحة نخبة طائفية إيرانية الهوى والتوجه، تمارس قهراً وطنياً وقومياً تجاه أبناء البلد، وكلّ ذلك تحت غطاء أيديولوجي كاذب يدّعي محاربة أميركا وإسرائيل.

عرّضت المظاهرات الضخمة المناوئة لسلطات الفساد في لبنان والعراق، مصالح إيران فجأة للخطر، فضلاً عن أنها قد تفتح المجال أمام اندلاع مظاهرات مشابهة في إيران ذاتها، وهو الأمر الذي استنفر له القادة الإيرانيون، من خلال عملائهم

لم يجد القادة الإيرانيون ذريعة غير تلك التي يرددونها منذ عقود، وهي أن تلك المظاهرات من تدبير أجهزة استخبارية (غربية: أميركية وإسرائيلية بمساعدة أموال عربية)

في كلا البلدين: ميليشيا نصر الله في لبنان، وميليشيا الحشد الشعبي في العراق، وهما ميليشيتان قدّمت إيران إليهما كثيراً من المال والسلاح والتدريب، وهي تدرك أن أي ضربة لتلك الميليشيات، ولنظامَي الحكم الفاسدين، ستؤدي إلى خسارة نفوذها الإقليمي الذي أنفقت من أجله الكثير.

لم يجد القادة الإيرانيون ذريعة غير تلك التي يرددونها منذ عقود، وهي أن تلك المظاهرات من تدبير أجهزة استخبارية (غربية: أميركية وإسرائيلية بمساعدة أموال عربية)، وفي أحسن الأحوال تعدّها "فتنة" تستهدف إضعاف محور "المقاومة"، وذلك في محاولة للحد من انتشار المظاهرات واتساعها، وقد وصف إعلامُها العراقيين مؤخراً بأنهم "شيعة الإنكليز"، في إشارة إلى ارتباطهم بالخارج المعادي، من دون أن تنسى التلويح بأوراق القوة التي تمتلكها مع عملائها في كلا البلدين، وهي مواجهة المتظاهرين بالقوة وبشكل مباشر، وترسيخ الاحتلال الرسمي للبلدين من الميليشيات الوكيلة، وبالتالي من إيران.

تسعى إيران لتكرار تجربتها الناجحة في لبنان على العراق، حيث إنها أضعفت "الدولة" اللبنانية الهشة بالأساس، من خلال تقوية ميليشيا نصر الله عسكرياً، لتصبح في بعض الأوقات أقوى من "الدولة" في لبنان، ومن بعدها مشاركة تلك الميليشيا في التحكم في القرار السياسي للبلد، وذلك بتأسيس ميليشيا الحشد الشعبي بحجة محاربة إرهاب داعش، ومن بعده إدخال ممثلي تلك الميليشيات في "البرلمان" العراقي، وتحميل "الدولة" العراقية نفقات تسليح وإمداد تلك الميليشيات، والسعي لدمجها لتكون نواة الدولة الإيرانية في قلب الدولة العراقية. لقد كوّنت إيران جيوشاً إيرانية في بلدان المنطقة، استطاعت أن تتحكم في مصير البلدين، وهي ورقة القوة الوحيدة، لكنها الكارثية، التي تمتلكها وتهدد في نهاية المطاف باستخدامها، وعبّر عن ذلك حسن نصر الله، في خطابه الأول، إذ قال: "إذا نزلنا إلى الشارع، فستكون الشوارع لنا ولن نخرج منها".

تتصرف إيران تجاه التظاهرات وكأنها تعنيها بشكل مباشر، وكأنها في أراض إيرانية، حيث تعتبر هذه المظاهرات تهديداً وجودياً لها، وهي تدرك حجم المأساة التي ألحقتها بكلا البلدين، وتعرف بنفس الوقت أهميتهما بالنسبة إلى مشروعها الإمبراطوري النزوع، وخاصة في العراق، الذي أوفدت إليه قاسم سليماني للتنسيق مع الميليشيات ورموزها في الحكومة، من أجل وأد تلك الثورات، وخاصة أن عماد المظاهرات من الذين تعدهم إيران قاعدة لها، أي الشيعة، الذين يصرون على تأكيد ولائهم للعراق، بعد ما خبروه من سياسة مذلة من الإيرانيين تجاههم.

فتحت التظاهرات في لبنان والعراق الباب على مصراعيه أمام الجميع، للدخول والمشاركة في معركة التحرر الوطني والديمقراطي في كلا البلدين، فلم يعد خافياً على أحد هيمنة إيران الملالي على كلا البلدين وعلى غيرهما من عواصم، وكذلك المشروع الإيراني في تفتيت المنطقة وتشجيع الاقتتال الطائفي فيها، ناهيك عن دعمها لنظم الفساد التي نهبت البلاد وحولت شعوبها إلى أناس جائعين، حيث انعدمت فرص العمل بشكل كبير، وازدادت الخدمات سوءاً وانخفض مستوى الصحة والتعليم. ومن جانب آخر، علينا أن لا ننسى أن المواجهة ستكون مكلفة جداً، بنفس المقدار الذي استثمرت فيه إيران طيلة عقود، وأنها لن تسمح بأن يهدم المتظاهرون ما بنته في البلدين من سنين، وما جعلها عنصراً أساسياً في دورها الإقليمي.

كان السوريون، وما يزالون، أول من عانوا سياسة وتدخلات إيران إلى جانب نظام الأسد، فميليشياتها هجرّت وقتلت مئات الآلاف من السوريين، ومارست أشد أنواع الإهانات بحقهم، ولربما هي فرصة لأن تتجدد التظاهرات في كل سوريا، تضامناً مع اللبنانيين والعراقيين، وقبل كل شيء دفاعاً عن مصالح سوريا، وعن حقوق وكرامة السوريين، الذين وقفت إيران في وجه تطلعاتهم، وبالتالي، ستكون معركة كسر الهيمنة الإيرانية المقدمة الضرورية للخلاص من أنظمة الاستبداد في كل هذه البلاد.

يدرك العراقيون واللبنانيون، وقبلهم السوريون، أن إصلاح هذه الأنظمة الفاسدة القائمة على التحاصص الطائفي المكرس دستورياً أو المعمول به، هو أمرٌ غير ممكن، كون هذا الدستور يمنع أي تشكيلات حزبية وسياسية خارج الأطر الطائفية، ولذلك يطالبون

وصلت التظاهرات في لبنان والعراق إلى نقطة صار من الصعب التراجع عنها، حيث دخلت في مواجهة مكشوفة في النظام الطائفي ومن ورائه إيران

بتغيير قواعد هذا النظام السياسي، وأهمها نسف الدستور القائم على المحاصصة الطائفية، الذي أسس لدولة لصوصية، وبالتالي، فالبديل هو الثورة من أجل تأسيس نظام ديمقراطي لا يقوم على المحسوبية ويؤمن بوجود حقوق متساوية للجميع.

وصلت التظاهرات في لبنان والعراق إلى نقطة صار من الصعب التراجع عنها، حيث دخلت في مواجهة مكشوفة في النظام الطائفي ومن ورائه إيران، حيث تصدح الحناجر في الساحات بشعار: الشعب يريد إسقاط النظام"، وهو الشعار الذي أطلقه التونسيون ومن بعدهم المصريون والسوريون وباقي الشعوب في "الجمهوريات" العربية، قبل أكثر من ثماني سنوات. ربما يشهد العراق، الذي لم يختبر الربيع العربي، ربيعه الأجمل مع لبنان، وهما اللذان يشهدان أكبر احتجاجات في تاريخهما، وصار من الصعب على الحكومة مواجهتهما إلا من خلال حرب أهلية قد تلجأ لها إيران.

قد تكون الثورة مجازفة كبرى، لكنها فرصة تاريخية للتغيير والخلاص من اللصوص والانتقال إلى بناء دولة المواطنة والقانون، ويجب ألا تفّوت شعوب تلك البلدان تلك الفرصة التي ربما لا تجود بها الأيام ثانية، وأن تشارك فيها على نطاق أوسع.