غواية "حاكمات الظلّ" واستراتيجية السطوة الناعمة

2023.06.07 | 03:22 دمشق

غواية "حاكمات الظلّ" واستراتيجية السطوة الناعمة
+A
حجم الخط
-A

إنها ليست سجينة نظام الأسد، بل الوجه المبتسم للديكتاتور، تفضل الاحتماء بالإنكار عبر تمثيل دور المرأة اللطيفة. وهي ليست ظلاًّ موارباً يؤدي الوظائف الثانوية حسبما يقتضي مسار السرد الاستبدادي، فشخصيتها التي تقف خلف الأحداث الراهنة، ظاهرها وباطنها، يتطلّب تفكيكاً متأنياً، ذلك أنّ مثل هذه الآراء يجب ألا تُلقى جزافاً حولها، وسط تعميماتٍ اختزالية أو أحكام متحيّزة مسبقة، باعتبار تحركاتها "الاستعراضية" أشبه بـ "كبسولات مخدّرة" ضمن عملياتٍ ممنهجة من براءة الذمة التي يريد النظام -الذي يحميها- أن يشيعها هرباً من المساءلة والمسؤولية.

إنّ الرقة التي اتّصفت بها أسماء الأسد، ومنذ البداية، أخفت وراءها هوساً وشهوة للسلطة أضعاف ما لدى الزوج نفسه

تحركات من قبيل استغلالها لكوارث السوريين، واهتمامها "الدعائي" بعائلات الجنود والأطفال المصابين بالسرطان أو الناجين من الزلزال المدمر الأخير. تراها تضع أشرطة رقيقة على شعرها وترتدي فساتين خاطتها أرامل الحرب التي يقودها زوجها، مروراً بمشاركتها عشرات المتطوعين في تعبئة صناديق غذائية وتقديمها للضحايا والمحتاجين، كذلك ترويج صور احتسائها القهوة مع سيدة ريفية فقيرة، تجلس على الأرض في "تواضع" مدروس لتقديم صورة ملونة "للعائلة الرئاسية" ذات التاريخ الأسود. تراها أيضاً تزور أسرة معدمة لأحد القتلى، تخلع الحذاء عند العتبة، والدّلالة التي يحملها الحذاء الذي يدوس أعناق السوريين، مرتبطة ارتباطاً فكرياً برمزيته. وليس نهاية بالطبع بزيارة قرية المراح التابعة لمدينة النبك لمشاركة الأهالي احتفالهم السنوي بموسم قطاف الورد الشامي، بينما سبق لهذه المنطقة أن تعرضت خلال سنوات الثورة لحملات إبادة عسكرية عنيفة. بالتالي إنّ الرقة التي اتّصفت بها أسماء الأسد، ومنذ البداية، أخفت وراءها هوساً وشهوة للسلطة أضعاف ما لدى الزوج نفسه. إنها المرأة التي منحتها مجلة "فوغ" الفرنسية الشهيرة لقب "وردة الصحراء" وتراجعت عنه بعدما تصدعت الصورة المثالية لها بعد عام 2011.

وحدث في عهد الأسد الأب أنْ كان التعبير المنصف ذا الدلالة الصريحة الذي اختصر الدور الرسمي لأنيسة مخلوف، هو "عرّاب" مزرعة الرعب، ذلك أنّ أنيسة كانت عوناً كبيراً لزوجها في كلّ ما خطّط له ومضى فيه، فكانت أبرز مصدرٍ لأخبار رفاقه الذين أزاحهم في انقلاب 1971 مما كانت تلتقطه من زوجاتهم. وكانت، "شديدة الذكاء" في تشجيع الأسد على جولات البطش التي لم تتوقف ضد معارضيه. وعلينا أن نصدّق، أيضاً، ما نقلته هيلاري كلينتون، عن سعود الفيصل، قوله لها، (إنّ عائلة بشار، بقيادة أنيسة، لن تسمح له بالتعاون مع خطةٍ لإنهاء العنف، والبدء في تحول سياسي.. وإذ تقول العرب إنّ فلاناً ابن أبيه، كدليل على تمثله شمائل أبيه أو مخازيه، يجوز، هنا، القول، إنّ بشار الأسد ابن أبيه، وأمه أيضاً). ثم وبعد موت الأخيرة لقبت حاكمة الظلّ الجديدة بـ"ماري أنطوانيت دمشق"، وقامت صحيفة الغارديان البريطانية بتقديم تقرير عن حياة الترف التي تعيشها أسماء الأسد "المنفصمة" والمبالغ الخرافية التي تصرفها على التّسوق بينما يموت الشعب السوري قهراً وجوعاً وإذلالاً. كما وصفتها صحيفة "إيكونوميست" بـ "أميرة الحرب" التي، وعبر مجلس سري تقوده من داخل القصر الرئاسي، تتولى مهمة الهيمنة على اقتصاد سوريا، لتمكين نفوذها إلى جانب تمويل عمليات القمع الوحشية لنظام الأسد.

ولا شك بإلقاء نظرة فاحصة على التاريخ بأنا سنستعيد شهادات موثقة لعدد وافر من علماء العرب وهم يشيدون بالمهارات السياسية والإدارية لنساء انخرطن في إدارة الدول وغيّرن تاريخ الأمم، وإنّ عبارات من قبيل: (ساست السيدةُ المُلك، ودبّرت الأمور أعظم من الرجال) إنما تستمد قيمتها من علماء يعلمون ما هو مستقر نظرياً في المذاهب الفقهية بشأن إسناد "الولايات العامة" إلى المرأة. في المقابل ارتبطت مكائد القصور ودسائس الأروقة السياسية بنساء على قدر كبير من الدهاء، لعبن دوراً رئيساً في تغيير قواعد اللعبة السياسية في بلادهنّ، وأثّرن بذلك في حياة شعوبهن، عبر بوابة زوجة الرئيس، التي تجسد تشريحاً نموذجياً لماهية السلطة السياسية عندما تحرك خيوطها امرأة بشخصيتها القوية والحربائية. هكذا التقت على الدوام غواية "حاكمات الظلّ" مع سطوة النظام المستبد في خطين متوازيين، للوصول إلى العدم المطلق، بحثاً عن رخاء لن يُدرك، وعن أمان لن يتحقق، وعن طمأنينة قد لا تُبلغ في ظلّ حكم قمعي مغلق.

ما يبثّ الأمل في القلوب حقيقة وجود نسوة "ملهمات" في مواجهة سموم ثعابين الظلّ، قادرات على صنع ثوراتٍ لإسقاط رموز الأنظمة الشمولية

وتحفظ ذاكرة التاريخ أكثر النماذج الصارخة لأولئك النسوة "الطاغيات" ليس بداية بإيفا براون حبيبة وزوجة هتلر في آخر أربعين ساعة من عمرها، فقد كانت المرآة التي أطلّ منها هتلر على العالم، ولك أن تتخيل سطوة هذه المرأة على الفوهرر، وكيف كانت تديره خلال التصوير، لتقدم للعالم صوراً قاسية أعطت انطباعاً دموياً عنيفاً للطاغية، لن تمحو عنه اشتهاره بالسفاح الأشهر في العصر الحديث، ولا نهاية بـ"إيلينا شاوشيسكو" زوجة الديكتاتور الروماني التي تُعدّ نهايتها بحقّ عبرة تستحق أن تقف عندها الكثيرات، بعد إعدامها بالرصاص مع زوجها في ساحة قصرها المنيف، وهو نفس المكان الذي رفلت فيه بالنعيم أعواماً طويلة.

ما يبثّ الأمل في القلوب حقيقة وجود نسوة "ملهمات" في مواجهة سموم ثعابين الظلّ، قادرات على صنع ثوراتٍ لإسقاط رموز الأنظمة الشمولية. ولنا في رومانيا تشاوشيسكو مثالاً، إذ لم يدر ببال الأخير أنّ سقوطه سيكون على يد امرأة. إيرينا نيستور التي لعبت دوراً مهماً في نقل السينما العالمية للرومانيين عبر ترجمتها صوتياً، فأوقدت شعلة الثورة بصوتها الذي جعل الشعب يدرك أنّ هناك حياة حقيقية مترفة يحياها الآخرون بعيداً عن القبر الذي دفنوا فيه أحياء بلا رحمة. وعليه لا يغرنكم رؤية الديكتاتور اليوم عائداً إلى الحظيرة العربية، محاطاً بحراب الحرس ومباركة القادة وابتسامة الزوجة الواثقة. بل يتوجب علينا مراجعة مفهوم "الأبدية" و"القداسة"، باعتبارها حتماً مقضياً غير قابل للتغيير والتقويم، ودون الانزلاق إلى إغراء التعميم التاريخي الموهوم، أو إغراق الأوصاف الحتمية المزعومة، فالثورات غالباً ما تقف على أعتاب الطغاة المترفة.

لا يمكن، والحال هكذا، نفي صفة الدهاء المطلق عن أسماء الأسد. هي المنبوذة بداية زواجها، ولكي تتخلص من الطابع السري الصلب للعشيرة الأسرية، عمدت إلى زيارة أكثر من ثلاثمئة قرية، بالإضافة إلى مستشفيات ومدارس ومصانع مبررة تحركاتها بالقول: (أبحث عن الكيفية التي أصير بها مفيدة). هي في حقيقة الأمر كانت تدرك جيداً أنّ إرادة القبض على مفاصل الحكم لا تقتضي المجابهة المباشرة، بل انتهاج استراتيجية السطوة الناعمة القائمة على إبداء العلّة وتفسير الأسباب بهدوء. لذا عملت على استقطاب الانتهازيين من عبدة السلطة والمال، لتجعل منهم سياجاً يحيط بالزوج، بينما ترسم للعالم واقعاً خادعاً عن رضاء الأمة عنه وحبها له، في ظلّ رفاهية وهمية وأمان ليس له وجود. ويبدو أنّ الأسد وزوجته اليوم يطبقان ما قاله المفكر الإنكليزي الشهير ألدوكس هكسلي: (الدرس الوحيد الذي نتعلمه من التاريخ أنْ لا أحد يتعلم من التاريخ). لتتذكر أميرة الحرب السورية إذاً كلاً من: جيهان السادات، وفرح ديبا، وسوزان مبارك، ووسيلة بورقيبة، وإميلدا ماركوس.. عندما أرادت كل منهنّ أن تكون الرئيس الفعلي وجعل زوجها مجرد صورة أمام الشعب، ما كان من شعوبهنّ إلاّ أن لفظتهنّ جميعاً وفي وقت واحد.