غزة واللاجئون السوريون.. المرآة التي فضحت العالم

2024.05.06 | 06:16 دمشق

345
+A
حجم الخط
-A

ما من أحد اليوم في هذا العالم باستطاعته الإعلان عن انتصار مشروعه، فالصراع الدائر مستمر على القطعة، ولا مسؤولية مدنية أو أممية قادرة على الفعل ووقف العنف الممنهج بحق الشعوب، وخير دليل على ذلك هو حرب غزة ووحشية الصهاينة، وصَلَف النظام السوري وعجزه عن معالجة أزمة لجوء شعبه، ومحنة هذا الشعب المتمادية، والذي تتقاذفه أمواج المصالح الدولية، أمّا في لبنان فتعلن ثورة الشعب هزيمتها، من دون أن تصنع أحزاب السلطة أية حلول، وفي ظل الضغط الديمغرافي المتزايد، يتفق أطراف الصراع فقط على تشخيص أزمة النظام، من تخريب ممنهج للدولة بعد القضاء على مؤسساتها، وانتهاك القوانين والدستور، وتدمير الجامعات وقطاع التعليم، وتحاصُص الوظائف العامة، والاستيلاء على الإدارات وتوزيعها على المحاسيب والأزلام، من عديمي الكفاءة وممتهني السرقة والفساد والتشبيح على القانون.

قانون الهجرة الموسمية

أزمة النزوح السوري إلى لبنان المستمرة في النزف، لا يرغب أحد في وقفها، أقله ببعدها الإنساني، في حين تتعالى الخطابات العنصرية ضد اللاجئين في لبنان، الوطن المؤسَّس على ممارسات اجتماعية "أبارتهايدية" بين أبناء جلدتهم، ولما استشعرت أوروبا الخطرَ الداخلي من فقدان هذه الورقة الثمينة، سارعت إلى توزيع الرشى على الحكومة اللبنانية برئاسة ميقاتي، تقدَّر بمليار يورو، والطلب إليه إبقاء النازحين أربع سنوات إضافية بكلفة مالية زهيدة، كي لا تفتح أمامهم شطآن المتوسط للهجرة صوب أوروبا، في حين رحَّب الاتحاد الأوروبي بالهجرة الموسمية لمن تبقَّى من الشعب اللبناني إلى القارة العجوز، كرشوة إضافية، في استخدام جديد لعمالة الرأسمالية الغربية التي شاخت وهرمت. وهي أزمة يرغب النظام السوري في إبقائها، طالما أن الغرب لا يفاوضه مباشرة في طريقة إعادة هذا الشعب إلى الداخل السوري، وطالما أن السيولة المالية لا يمكن أن يتولّى إدارتها النظام السوري في عملية النقل والبناء والتطوير في البنى التحتية، وطالما أن الغرب وأوروبا والعرب، لا يرغبون في إعطاء الشرعية للنظام الحاكم من دون تفعيل القرار 2254 لتسهيل الحل، فالطرفان مستفيدان من أزمة النزف السوري للنازحين على أراضي الغير، وكل طرف يضغط بما يحقِّق مصالحه ومطامعه في إبقاء حال الانقسام والاهتراء في هذه البلاد حتى تتفكّك بشكل كامل، وهذا يوضح الفشل الأممي والعالم، وفشل الليبرالية بصورة عامة في إقامة الوزن والاعتبار لحركة الشعوب الإنسانية ومستقبل أبنائها.

هذا الإمعان في قتل الشعب الفلسطيني لم يوقفه أحد في هذا العالم، ولا داخل أروقة الأمم المتحدة، فما زالت إسرائيل تفتك قتلاً وتصفية في الداخل الفسطيني

صيغة الغالب والمغلوب

المرآة الثانية التي فضحت زيف هذا العالم "الحرّ"، هو حرب غزة المستمرة منذ أكثر من سبعة أشهر، والتي قضت على المدنيين بصورة فظيعة وهدمت منازلهم وأجبرتهم الآلة الإسرائيلية على النزوح والهجرة من ديارهم، واستحدثت لهم الولايات المتحدة ميناءً جديداً لترحيل من تبقَّى ومن يرغب إلى أراضي العم سام. هذا الإمعان في قتل الشعب الفلسطيني لم يوقفه أحد في هذا العالم، ولا داخل أروقة الأمم المتحدة، فما زالت إسرائيل تفتك قتلاً وتصفية في الداخل الفسطيني، وفي لبنان وسوريا والعراق وصولاً إلى إيران، وليس بمقدور أحد إيقاف هذه الوحشية، ولما انفلشت قضايا المقابر الجماعية وتحرَّك طلاب جامعات الغرب وأميركا، صار للكلام شأن آخر، وبدأنا نقرأ تحولات عميقة عالَمية، في عملية تهيئة وترتيب وتقديم صناع القرار في الجامعات التي انتفض طلابها على وحشية الصهاينة، للمطالبة بوقف هذه الحرب، وصار الغرب مشغولاً بإطلاق شعارات السامية ومعاداتها ومصطلحاتها، كي يُسكت هذه الأصوات التي فضحت النظم الليبرالية وتَغَنِّيها بالحريات وبالديمقراطية، فكان التوقيف العشوائي والاعتقالات بحق الأكاديميين والطلاب، الذي بلغ عشرات الآلاف في دول العالم وفي الجامعات، ومن هنا تجب إعادة صياغة العلاقات الدولية وفق الأسس التي كانت معتمدة في السابق، فالعلاقات الدولية دائماً فيها غالب ومغلوب منذ الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولكن حتى في أثناء الحرب الباردة افترضت نظريات توازن القوة في بقاء وتعايش الدول المتنافسة، وعندما انتهت لمصلحة التجمع الغربي، تمَّ احترام ساحات النفوذ المتعارف عليها ومصالح الغير، وهذا غير موجود اليوم، وفيه افتضاح كبير لأدوار الغرب في سياقاته الاستعمارية الجديدة في العالم وفي الشرق الأوسط.

وإذا كانت الأنظمة الوكيلة أو الكولونيالية، قادرة على نقل الشعوب بين الحين والآخر من دين إلى آخر ومن شعار إيديولوجي إلى آخر، حسبما تفرضه مصالح المشغلين والموجهين الكبار، فإن الكبار أنفسهم  من صناع القرار والنُّخب، هم الذين يتحكمون بكل المجتمعات والبشرية جمعاء، ويفرضون عليهم أسلوب الحياة والعيش الذي يناسبهم ويخدم توجهاتهم.

البروليتاريا وصناعة التاريخ

طالما تغنَّى المفكر كارل ماركس بنظريته التي أعطت الشعوب حجماً وقيمة وأهمية أكبر من حجمها الحقيقي، عبر تمجيد البروليتاريا وتأثيرها في صنع حركة التاريخ، فالماركسية لا تعطي الأشخاص والفرد أية قيمة أو أهمية في صناعة التاريخ، بل تعتبرهم مجرد أدوات في أيدي الشعوب التي هي المحرك الحقيقي لعجلة التاريخ، ولكن في زمننا هذا فقدت النظرية أية قيمة لها، فالشعوب صارت مجرَّد أدوات في خدمة الطبقات العليا من المتسلِّطين في الحكم، يقودون القطعان البشرية ويحركونها ويستخدمونها كيفما يشاؤون بحسب ما تقتضيه مصالحهم، فهذه الشعوب هي مجرد مطيَّة في أيدي صانعي التاريخ والحياة بشكل عام، لأنهم صنيعة الأنظمة السياسية والدينية والتربوية والتعليمية والثقافية، التي وضعتها الحكومات، ومهما حاولت التحرر من تلك الأنظمة تبقى رهينة في أيديها، حتى في ظل الأنظمة الحرة كالنظام الأميركي مثلاً، فهو يملك كل وسائل التطويع والتوجيه والتعبئة بكلِّ أشكالها، كما يملك أيضاً أعظم أنواع التكنولوجيا التي صنعها الآن، بالإضافة إلى الرصيد المالي وربطه بشبكة مُحْكمة قادرة على التحكم بكل الدول والأنظمة والأفراد من دون استثناء، وتركيعها وتطويعها في الاتجاه الذي يريده سادة العالم الماليون، فالشعوب المغلوبة على أمرها لا تستطيع أصلاً الخروج من القوقعة التي وضعتها فيها أنظمتها الدائرة في الفلك الأميركي خصوصاً والغربي عموماً. وإذا كانت الأنظمة الوكيلة أو الكولونيالية، قادرة على نقل الشعوب بين الحين والآخر من دين إلى آخر ومن شعار إيديولوجي إلى آخر، حسبما تفرضه مصالح المشغلين والموجهين الكبار، فإن الكبار أنفسهم  من صناع القرار والنُّخب، هم الذين يتحكمون بكل المجتمعات والبشرية جمعاء، ويفرضون عليهم أسلوب الحياة والعيش الذي يناسبهم ويخدم توجهاتهم. في حين تلعب التكنولوجيا الدور الأكبر إلى جانب الاقتصاد في عملية قولبة الإنسان وتسييره وتوجيهه وتشكيله، فهو مهما تطور يبقى مجرد فأر تجارب في أيدي أصحاب الاقتصاد والتكنولوجيا والمال.

لكن ماركس لم يخطىئ كثيراً، فهو الذي قال إن الواقع الاقتصادي هو من يحدد ويصنع الواقع الاجتماعي، أي أن كل شيء مرتبط بالاقتصاد وطرق الإنتاج والاستهلاك، فهي التي تصنع وتقوّلب الإنسان بحسب مصلحتها. حيث تلعب التكنولوجيا الدور الأكبر مع الاقتصاد في عملية قولبة الإنسان وتسييره وتوجيهه وتشكيله، فهو مهما تطور يبقى رهينة في أيدي أصحاب الاقتصاد والتكنولوجيا والمال.

تعميم الفساد السلطوي

العالم اليوم يعيش مهازل السلطات الحاكمة من فوق ومن تحت: سلطة الفساد المتناسل، نظام المحاصصة البشع، دويلات العصابات وقطاع الطرق والسطو المسلح والنهب المنظم، مخدرات وخوات وفلتان أمني وانتشار حواجز للخاطفين لحسابهم، أو لحساب دول وقوى خارج الحدود، واغتيالات أمنية عابرة للحدود. فضائح متسلسلة، من الأغذية الفاسدة إلى سرقة المال العام والأملاك  العامة، والنفط  والغاز الموعود، والميزانيات الضائعة. فنرى تراشقاً بالتُّهم والشتائم وتنظيم الخلافات والاشتباكات، لفرز الشعوب وتوزيعها عامودياً، مذاهب وطوائف وإثنيات ومناطق، لفرض الولاء الأعمى خلف زعيم يلهث وراء سلطة أو مال، أو بتعزيز الولاء الغريزي زرعاً للشقاق وسعياً وراء الفتن، فيتم تجديد الطبقة السياسية الفاسدة بآليات بالية مهترئة، تُعيد انتخاب من لا يمثِّل غير مصالح سيده الأعلى. فتتوارث المواقع في النظام وداخل الأحزاب والمؤسسات لتخريبها، ويتم الاستيلاء على القضاء بالترهيب وتدمير الركن الأساس في بناء الدولة الحديثة، وشل سلطة القانون وتعطيل مؤسسات الرقابة، وتعميم قيم التشبيح والبلطجة، لتسود قيم المحسوبية والتزلُّف والاستجداء والتسكُّع على أبواب النافذين، بديلاً من الكفاءة وتكافؤ الفرص.. إنه عالم مخيف، يتعمَّم فيه الفساد السلطوي بكل القطاعات الإنتاجية، مما يصعب مراقبته ومكافحته بسبب إدماج التكتلات والكارتلات الاقتصادية في إمبريالية عالمية جديدة، لا رحمة فيها لأحد...