غزة: الحرب والنفاق السياسي!

2023.10.27 | 06:49 دمشق

آخر تحديث: 27.10.2023 | 06:49 دمشق

غزة: الحرب والنفاق السياسي!
+A
حجم الخط
-A

يأخذ العدوان الإسرائيلي على غزة، سمة الحرب الشاملة ضد الفلسطينيين، وتدل على ذلك جملة من المعطيات، من أهمها توفير الغطاء السياسي والإعلامي الدولي للعمليات العسكرية الإسرائيلية، والذي يجعل من استمرار الحرب ممكناً، حتى الآن، على الرغم من تعارضه الكلّي مع القانون الدولي الإنساني، وفشل كل الجهود لإيقاف الحرب، لأسباب واضحة، يتمثل أبرزها في القرار الأميركي – الإسرائيلي، باستغلال المساندة الدولية، في حين يعترف "بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، إلى أقصى درجة ممكنة، وبصورة غير محدودة في ارتكاب المجازر.

لقد أدخل المجتمع الدولي نفسه، في أتون حرب، ليست حربه، عبر المساندة غير المسبوقة، لحكومات الدول الغربية، بصورة عامة، وبشكل خاص فرنسا وبريطانيا وألمانيا وكندا، إضافة بالطبع إلى الولايات المتحدة التي لا يمكن النظر إلى سياساتها، بمعزل عن ارتباطها أو مصدرها الإسرائيلي. وقد سمحت تلك المساندة غير المحدودة بانحيازها، للكيان الإسرائيلي، بتنفيذ الخطط التي تريد، من دون سقف، في أقصر وقت، ومن دون أي مساءلة قانونية محتملة، وبمختلف وسائل القوة التي تمتلكها. وهذا ما يجعل مما يجري، على أنه حرب حكومات الغرب الموالي والداعم لإسرائيل، ضد الفلسطينيين، تحت ستار "القضاء على مصدر الإرهاب: حماس". وأنها – بالقطع - ليست عمليات انتقام إسرائيلية، فحسب.

النفاق السياسي والمعايير المختلفة

أظهرت الحرب مدى النفاق السياسي المعلن والصريح الذي تمثل بالدعم السياسي، في تجاوز واضح وربما غير مسؤول لالتزامات تلك الحكومات بدعم ومساندة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفقاً لقرارات الأمم المتحدة، ومخرجات عملية السلام في الشرق الأوسط، يضاف إلى ذلك النتائج المترتبة حتى اليوم من جرّاء مجاراة إسرائيل، والسماح لها بالقتل والتهجير على أوسع نطاق، كما لم يحدث من قبل في تاريخ الحروب – العربية الإسرائيلية، أو العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، منذ تأسيس الدولة الصهيونية قبل 75 عاماً. هذا النفاق السياسي الذي يستحضر جريمة الهولوكوست، مقابل السماح بتنفيذ جريمة إبادة جماعية وتهجير شامل للسكان الأصليين لفلسطين، من دون أن تكون هناك أية مؤشرات للدفع باتجاه الالتزام، وفقاً للاتفاقيات الدولية ذات الصلة. وليست مسألة الأخذ بالمكاييل المختلفة في إنفاذ بنود القانون الدولي هي المشكلة الأبرز، إذ طالما مارس الغرب ازدواجية المعايير، في كل القضيا الدولية. لكنه اليوم يتجاوز ذلك إلى التحالف مع المعتدي، في ظل جنوح غربي "نحو تعزيز الحريات الخاصة" مقابل التضييق على الحريات العامة، والتجاهل التام لقضايا حقوق وحريات الشعوب التي ينقلب عليها، من دون أي التزام سياسي أو قانوني أو أخلاقي.

حملات التشويه والتضليل

شكلت تلك رافعة أساسية للمواقف المؤيدة لإسرائيل بصورة تتبدى فيها الحقائق، بجلاء كبير، في اتجاهين، هما: إدانة الطرف الفلسطيني، باعتباره "إرهابياً معتدياً"، وفي الحق الإسرائيلي في الاستخدام المفرط والمطلق للقوة. ونشهد منذ صبيحة "طوفان الأقصى" واحدة من أشد عمليات التغطية الإعلامية التي تترافق مع الغطاء السياسي الدولي، والتي تتركز في بث معلومات وأحداث وصور مغايرة تماماً لوقائع الكارثة الإنسانية المهولة الجارية على الأرض من جرّاء العدوان. وفي ظل تغييب تام لأسباب عدم الاستقرار الأمني في المنطقة – إن جاز استخدام هذا التعبير- إذ لا يتم الربط بين الاحتلال الإسرائيلي، وسياسات الحصار، والعقاب الجماعي المتواصل منذ 75 عاماً، ولعل الروايات الأولى (الغربية والإسرائيلية على حدّ سواء) بشأن ما يجري، حتى اليوم، شكلت إطاراً عامّاً للصورة الذهنية حيال "حق الدفاع الإسرائيلي" لدى قطاعات واسعة من الرأي العام الغربي. ويخدم هذا التضليل منع إيقاف العمليات العدوانية الإسرائيلية، والسماح باستنزاف القوى الدولية، بأية صورة أو وسيلة ممكنة لعدم إدانة الكيان الصهيوني، وبالتالي، إحداث تطور نوعي جديد في القضية الفلسطينية، تتمثل بفتح الطريق أمام وضع حدّ لعملية السلام المتعثرة، وخلق معطيات جديدة في المنطقة تتمثل بتدوير دفة الصراع في المنطقة لصالح الاحتلال الإسرائيلي بصورة تامة، وفق سيناريوهات متعددة قد لا تقف عند إعادة احتلال غزة وتهجير سكانها، وفي الحدّ الأدنى تجريف شمالي القطاع، وجعله أرضاً محروقة لمدى غير منظور.

تغييب الرأي العام

في سياق تجاهل غربي تام للرأي العام، تسود مخاوف عديدة تتمثل بانتهاك حقوق الأفراد والجماعات، بما يتصل بحرية التعبير والرأي، وهو ما يعد شكلاً من أشكال ممارسة القهر ضد قوى المجتمع، سيكون أبرز ضحايا ذلك ناشطو الرأي العام من كتابٍ وصحفيين وحقوقيين. ونشاهد جلياً كيف أن الحكومات الغربية سارعت لمساندة إسرائيل من دون العودة إلى ممثلي الشعوب في البرلمانات، وأنها تعزز من إبقاء السياسات الخارجية، بعيداً عن رقابة وإرادة المجتمعات المحلية/ أو الرأي العام، والذي يُترك قصداً أمام الأداء الإعلامي المنحاز إلى طرف بعينه، مع حملات وبرامج التضليل التي يتم بثها ونشرها بغزارة، كي تحول دون أي تحرك نحو مساءلة الحكومات، أو العمل في إطار المنظمات البديلة، لإنتاج رأي عام مناهض للحرب.

على الرغم من ذلك، فإن كثيراً من المجتمعات المحلية، في الدول الغربية الأشد مساندة لإسرائيل، تمكنت من كسر طوق العزلة التي تحاول الحكومات فرضها، وإظهار مساندتها للفلسطينيين، بمعزل عن الدفاع عن/ أو مساندة حركة حماس، وغير ذلك مما يشتت الرأي العام، ويحدّ من التوجه نحو إبراز البعد الأساسي في القضية، وهو حرية الشعب الفلسطيني، وحقه في تقرير المصير.

وفي واقع الأمر، إذا كانت حكومات الغرب المتصهينة ما تزال تغالي في نفاقها السياسي، وتلوّح بصورة مواربة باحتمال اتخاذ عقوبات بحق مناهضي إسرائيل، تأسيساً على حرية التعبير، وهو ما يفتح باباً على ممارسة الكراهية، لا يمكن الحدّ منه، فإن الحكومات الغربية تضع نفسها في مواقف تجاذبٍ حادّةٍ في المجتمعات التي تمثلها، وقد تؤدي إلى خسارة نسبة كبيرة في شعبيتها، كما يحصل اليوم في كندا، مع الحكومة الليبرالية، التي اختارت الانحياز بعماء إلى إسرائيل، في مجتمع متعدد الثقافات، متنوع القوميات، لم يعد في صالح الحزب الليبرالي، وقد تجلى بطرد رئيس الوزراء جوستين ترودو من لقاء جماهيري إسلامي، بصورة مذّلة، كمثال.

هذا النفاق السياسي يجعل من تلك الحكومات، ليست مساندة لإسرائيل فحسب، بل مؤيدة وداعمة لها، وشريكة لها في جرائم الحرب، ومحرّضة على ارتكاب مزيدٍ منها. وسوف تدفع ثمن تجاهلها لاتجاهات الرأي العام، خاصة فيما يتصل بالحقوق والحريات. في الوقت الذي تظل فيه إسرائيل غير راضية عن مواقف الغرب، على الرغم من كل ابتزازها له، كي لايجرؤ أحد على التذكير بالقوانين الدولية التي تلزم بحماية المدنيين، أو الجنوح نحو أي شكل من أشكال العدالة والسلام.