غزة.. أوكرانيا الشرق الأوسط

2023.10.23 | 06:15 دمشق

آخر تحديث: 23.10.2023 | 06:15 دمشق

غزة.. أوكرانيا الشرق الأوسط
+A
حجم الخط
-A

تعيش المنطقة في سياق تطوّر سياسي وأمنيّ كبير غير مسبوق، في إعادة لهندسة العلاقات السياسية والاقتصادية في الشرق الأوسط، وتبدو أنها معركة حاسمة على مستقبل المنطقة برمّتها، وقضية التطبيع بين السعودية وإسرائيل هي قضية استراتيجية للغرب وواشنطن، بعد أن سحبت الأخيرة كل من الرياض ونيودلهي من تحالف الــ"البريكس"، كما يُعتبر وقف التطبيع مع إسرائيل هو مسألة استراتيجية بالنسبة لإيران، فهذا هو جوهر الصراع الذي انفجر في المنطقة، مع التأكيد على حقوق الشعب الفلسطيني السليب بإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس، فهذا الانفجار الكبير تتلطَّى خلفه/ وتعبث به/ لعبة استراتيجية شديدة التعقيد، ربما ستكون تداعياتها وآثارها عميقة في الشرق الأوسط لعشرات السنين، حيث أتت عملية "طوفان الاقصى" في لحظة تاريخية تؤسس لتغيير كل المسارات، فإما أن يستمر الاقتتال وهذا الصراع من دون حل جذري شامل منذ قيامه، وإما السعي وضرورة الاستفادة من حجم الضربة الأولى التي تلقتها إسرائيل وكسرت هيبتها، لإجبارها على فرض حل وتقديم تنازلات في العودة إلى المبادرة العربية للسلام وحلّ الدولتين.

الشرق الأوسط اليوم، يمرُّ بأخطر مراحله في الحرب المندلعة في قطاع غزة، والتي ألْحقت هزيمة بإسرائيل، حيث صار من الضروري إعادة رسم خريطة سياسية جديدة للمنطقة، بعد أن خفَّ وهج القضية الفلسطينية إلى أدنى سلم أولويات العرب، بسبب الانقسام الفلسطيني وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني الذي تعيشه كثير من البلدان العربية، ما جعل الشعب الفلسطيني وحيداً أعزل في المواجهة، وفي مقاومة الانتهاكات اليومية لأرضه ومقدّساته والاستباحة لدماء أبناء شعبه، وزاد عليه حكومة نتنياهو والتحالف مع اليمين الديني المتطرف، والتي لا يمكن لهذه التركيبة أن تقدم الحد الأدنى من التنازلات لا مع الفلسطينيين، ولا مع حلقات التطبيع العربي رغم الدفع الأميركي لها، فتحول الصراع من وُجهته القومية (لأن القومية تتعلق بالأرض) إلى وجهته الدينية.

كل حركات المقاومة لإسرائيل والتي تدعمها إيران، تشكل خطوط دفاع متقدمة في بلدان كسوريا ولبنان والعراق واليمن، هي أمام اختبار حقيقي وامتحان دقيق

وواضح كذلك الافتراق الشعبي عن الحكام العرب، وهي التي ترزح تحت وطأة أنظمة قاهرة مستبدة، لا تؤمن بالحرية والتداول السلمي للسلطة، بل تؤمن بالقمع لكل مخالف لها، من أجل الحفاظ على عروشها وإرضاء الأسياد الخارجيين الضامنين بقاءها وديمومتها بمنحها صك البراءة وطوق النجاة الدائم، في مقابل رفض إسرائيل الدائم القبول بإنشاء دولة فلسطينية، والتمسّك بيهودية القدس كاملة، وصولاً لضمّ مستوطنات الضفّة الغربية. فصار الأردن محكوماً بهذا الصراع بهواجس مقاربة نتنياهو في إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، واعتبار القضية الفلسطينية مسألة وجودية لمنع إقامة الوطن البديل والتبديل الديمغرافي، ولذلك قبلت عمان وصمتت عن مشروع الممرِّ الاقتصادي من الهند إلى أوروبا رغم مروره في المملكة، وكذلك مصر التي تواجه الحركة الإسرائيلية المستهدفة لدورها الإقليمي، خاصة عندما حان الوقت في حرب غزة، وبعد تلقي تل أبيب الصدمة العسكرية الأولى، وصار مشروعها شبه المُعلَن تهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، لتصبح الأرض البديلة للديموغرافيا التي تريدها إسرائيل، من أجل تسهيل الممر الاقتصادي وإقامة قناة بحرية موازية لقناة السويس في أراضي غزة.. 

كل حركات المقاومة لإسرائيل والتي تدعمها إيران، تشكل خطوط دفاع متقدمة في بلدان كسوريا ولبنان والعراق واليمن، هي أمام اختبار حقيقي وامتحان دقيق، حتى لا تضعف القضية وحواضنها أكثر، خاصة في البلدان التي استمدت قوتها فيها ودخلت إلى مفاصل الحكم لتحمي ظهرها، وعندما حانت الفرصة ضربت فصائل المقاومة في غزة يوم 7 تشرين الأول ضربتها، لضمان حضورها كمرجعية للتفاوض والقرار في المِلف الفلسطيني وضمان حقوق هذا الشعب في أرضه ومقدساته، ولهدم مفاوضات التطبيع التي تقودها واشنطن بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل وخلط الأوراق، ولفرملة التطبيع بين السعودية وإيران، ولذلك، كانت عملية الطوفان في غزة.

فقد حرصت إيران رغم الحراك السياسي الذي شهدته الساحة اللبنانية، والذي كان ملائماً جداً لها ومراعياً لمصالحها وحدود قوتها، عبر اتفاق ترسيم الحدود بين إسرائيل ولبنان الرسمي، وبضرورة حماية حزب الله لأمن الطاقة في شرق المتوسط، مقابل الاحتفاظ  بنفوذه داخل مفاصل السلطة المركزية في بيروت، لذلك كان واضحاً التناغم بل الغزل، بين القوى الإقليمية حيال المواقف من حرب غزة، وسعْي كل الأطراف إلى التنبه لضرورة عدم توسُّع الحرب مع إسرائيل عبر فتح الجبهات من سوريا ولبنان وإبقائها ضمن قواعد الاشتباك، حتى لو شابها الشلل وحكمتها العقوبات وحصار الفقر والجوع الاقتصادي، وفقدان أدنى مقومات الصمود، وكذلك أيضاً الافتراق الشعبي والانقسام العمودي حيال ما تفعله فصائل المقاومة. لذلك عمد الأميركيون للضغط دبلوماسياً لمنع انزلاق أي طرف إلى تصرّف غير محمود يُخرج الوضع جنوب لبنان عن ضوابطه.

كما يدرك الأميركيون والعالم أنّ إسرائيل وإيران تريدان الحفاظ على التفاهمات على حدود لبنان وفي مياهه، وهم يدرسون الصيغة الأمثل المؤدية لضمانها، ويبدو أنّ هذا الحرص متبادل مع إدارة بايدن، وهذا ما جعل وزير خارجيته أنتوني بلينكن، وآخرين في الإدارة، يحيّدون طهران وينفون أيّة مسؤولية لها عن عملية "حماس" و"وطوفان الأقصى".

أما اليوم فقد وقع التناقض الذي لا يريد أي طرف من أطراف الصراع البقاء خارجه، رغم كلفته سياسيا وعسكريا وإعلاميا، لئلّا يخسر أحد فرصة المشاركة في رسم معادلات الشرق الأوسط الجديد

أخيراً، تبدو أطراف النزاع كلها في المنطقة في مأزق كبير وانكشاف تام، وتوضع اليوم بين خيارات صعبة: فإما التخلي عن حركة حماس وإخراج قادتها من غزة وتسليم الحكم والإدارة للسلطة الفلسطينية، أو التخلي عن رأس النظام في سوريا التي دفعت بعض القوى الغالي والنفيس في سبيل إبقائه، أو التسليم لإسرائيل في قيادة مفاتيح منطقة الشرق الأوسط الأمنية والاقتصادية. فصارت قدرة الجميع محدودة على التدخّل في مسار الأحداث هذه المرّة، ولا تريد أن تضحي بما حقّقه مسار التفاوض مع واشنطن تحت الطاولة وفوقها، بعدما تحققت المكاسب الكبيرة، وعادت بأرباح صافية تخدم كل الأطراف الإقليمية والدولية. أما اليوم فقد وقع التناقض الذي لا يريد أي طرف من أطراف الصراع البقاء خارجه، رغم كلفته سياسيا وعسكريا وإعلاميا، لئلّا يخسر أحد فرصة المشاركة في رسم معادلات الشرق الأوسط الجديد من بعد، وكذلك عدم التضحية بمكتسبات التفاوض مع إدارة ديمقراطية يمكن أن تتجدد مع الانتخابات الرئاسية الأميركية العام المقبل، وفي النهاية ربَّما ستفتح هذه الحرب أفقاً جديداً للسلام واتفاقيات تطبيع جديدة بشروط وإرادة سعودية عربية وإسلامية، وقرارات لمصر محكمة غير متزعزعة، كل ذلك مرهون بعدم تحقيق نتنياهو أية انتصارات ميدانية يعول عليها مع مرور الوقت، تمكّنه من بناء شرق أوسط أميركي - إسرائيلي جديد كما قال، لا مصلحة فيه ولا حيل وقوة لأي من القوى الدولية والإقليمية الأخرى.. ولذلك صعد من جرائمه الوحشية في ضرب الأطفال والمرضى بارتكاب مجزرة مروعة في المستشفى المعمداني بغزة، لنسف أية تسوية أو تفاوض مستقبلي يمكن أن يفكر بها بعض الأقطاب العربية والإسلامية في المنطقة..