أعلن السيناتور الأمريكي ليندسي غراهام في مؤتمر صحفي له يوم أمس في العاصمة التركية أنقرة أن الأدلة على ارتباط الجناح السياسي لوحدات حماية الشعب YPG بتنظيم حزب العمال الكرستاني PKK "واضحة للغاية"، الأمر الذي كان متناغماً مع الرؤية التركية تجاه الجماعة المقاتلة شمال شرق سوريا، والذي كان قد حذّر منه قبل ثلاثة أعوام في جلسة استماع للقوات الأمريكية.
كان التصعيد تجاه وحدات الحماية من قبل السناتور الجمهوري لافتاً عندما وصف تسليح الولايات المتحدة لهم في عهد الرئيس أوباما بأنه قرار "قصير النظر" وسبب لتركيا "كابوساً"، مشدداً على ضرورة حل "المشكلة التي تسببت بها الولايات المتحدة لتركيا"، بطريقة تقتنع بها الأخيرة أنه قد تم حلها فعلاً.
وجاءت تصريحات السيناتور بعد لقائه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ووزير الدفاع التركي خلوصي أكار، واجتماعه مع الرئيس رجب طيب أردوغان لمدة ساعتين ونصف في اجتماع مغلق بعيداً عن وسائل الإعلام.
غراهام الذي دعم ترمب في العديد من قراراته الداخلية والخارجية، عارضه بدرجة كبيرة في قراره الأخير حول الانسحاب من سوريا، ولم يكتف بالدعوة إلى عقد جلسة فورية لمجلس الشيوخ الأمريكي لمناقشة القرار والتحذير من أن هذه السياسة الجديدة "ستمهّد الطريق نحو 11 أيلول ثانية"؛ بل إنه اجتمع بترمب في 31 من الشهر الفائت لمدة ساعتين ليعلن بعدها أنه "يشعر باطمئنان أكبر بشأن إلى أين نتجه إزاء سوريا".
عقب انتهاء الاجتماع غرد غراهام بأن ترمب سيتأكد من أن أي انسحاب من سوريا سيتم بطريقة تضمن تدمير تنظيم الدولة بشكل كامل، وأن إيران لن تملأ الفراغ، أما الشرط الثالث الذي كان لافتاً في تغريدة غراهام فهو بحسب تغريدته "حماية حلفائنا الأكراد".
كان هذا التغير في خطاب غراهام مفاجئاً، وهو الذي كان قد انتقد وهاجم بشكل حاد وزير الدفاع في إدارة أوباما أشتون كارتر، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال جوزيف دانفورد خلال إحدى جلسات الاستماع للمسؤولين العسكريين في الكونغرس عام 2015، معتبراً أن السياسية العسكرية المتبعة من البنتاغون في سوريا وتسليح وحدات حماية الشعب المرتبطة على حد قوله حينها بحزب العمال الكردستاني ستخلق نزاعاً ملحوظاً مع "الحلفاء الأتراك".
عودة غراهام إلى وجهة نظره القديمة في مؤتمر أنقرة حول ارتباط وحدات الحماية الواضح بحزب العمال، أوضح أن التغير المفاجئ في خطابه كان في وقت يحتاج فيه غراهام للاصطفاف مع التيار المعارض لقرار ترمب داخل الإدارة الأمريكية، والذي كان يستند (التيار) في معارضته للقرار على نقطة "ضرورة حماية الحلفاء الأكراد"، وهي نفس النقطة التي دفعت وزير الدفاع ماتيس للاستقالة.
من أبرز الرافضين لقرار ترمب ولو لم يصرحوا بذلك علانية، وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتن اللذان بدءا فوراً جولة شرق أوسطية لطمأنة حلفاء واشنطن من الدول العربية وإسرائيل، ومحاولة تحشيد الدول العربية في تحالف عسكري لمواجهة خطر إيران، كلا المسؤولان بالإضافة إلى المبعوث الخاص للتحالف الدولي جيمس جيفري طالبوا بضرورة حماية "الحلفاء الأكراد"، لذلك كان على غراهام أن يتناغم مع هذه المطالب للوصول إلى الهدف المشترك لجميع المسؤولين المذكورين وهو إلغاء قرار الانسحاب.
غراهام لم يعارض قرار ترمب بالانسحاب من سوريا لما سيترتب عليه من مخاطر ستواجهها وحدات حماية الشعب، وإنما عارض ذلك في قناعة منه بأن أكبر المستفيدين منه هم حلف النظام وروسيا وإيران، وتنظيم الدولة، معتبراً أن الشراكة الاستراتيجية مع أنقرة أهم بكثير من الشراكة المؤقتة مع وحدات الحماية التي تعتبر قوات متعاقدة مع البنتاغون لمحاربة تنظيم الدولة.
تصريحات غراهام غير ملزمة.. ما أهميتها؟
من الجيد أن يكون هنالك أصوات في الولايات المتحدة كالسيناتور غراهام، تنادي بضرورة مواجهة إيران في سوريا، وعدم تسليم البلاد للروس بشكل كامل، والقضاء بشكل نهائي على تنظيم الدولة وخلاياه، منطلقاً من وجهة نظره التي وضحها في المؤتمر الصحفي بأنقرة يوم أمس بأنه من المهم العودة إلى مسار جنيف المدعوم بقرار مجلس الأمن 2254 الذي ترجم عملية الانتقال السياسي في سوريا عبر تشكيل هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات التنفيذية وانتخاب السوريين لاحقاً رئيساً جديداً لهم، لكنه اعتبر أن ذلك لن يحصل في حال انسحبت الولايات المتحدة بحكم أنها ستفقد تأثيرها على المجريات التفاوضية بدون وجود ميداني لها في سوريا.
هذا الربط بين التأثير على مجريات الأحداث السياسية والميدانية والوجود الميداني يتقاطع مع تطلعات الكثير من الثوار والسياسيين السوريين الرافضين لمساري أستانا وسوتشي واللذين خلقتهما روسيا للالتفاف على قرار مجلس الأمن 2254 الذي صوتت لصالحه حينها، روسيا نفسها التي لم تصل لهذه المرحلة من التأثير في سوريا لولا تدخلها الكبير عسكرياً في سوريا، الأمر الذي يؤكد منطقية رؤية غراهام.
كما أن غراهام وفي إجابته على سؤال مراسل تلفزيون سوريا في المؤتمر الصحفي المنعقد بالعاصمة التركية أنقرة يوم أمس، عمّا إذا كانت الإدارة الأميركية ما زالت ترغب بالإطاحة بالأسد، وهل ستتقبل بقاءه في السلطة كسياسة أمر واقع بعد أن بدأت عدد من الدول الحليفة للولايات المتحدة افتتاح سفاراتها لدى النظام في دمشق؟ قال السيناتور غراهام "بالنسبة لي وللعديد من أعضاء الكونغرس، الأسد هو مجرم حرب".
من هو غراهام؟
السناتور الجمهوري ليندسي غراهام وعضو مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية كارولينا الجنوبية منذ عام 2003، وُلد عام 1955 وحصل على شهادة الدكتوراة في الحقوق عام 1981، خدم في القوات الجوية للولايات المتحدة في فترة 1982-1988 ليتقاعد من سلاح الجو برتبة عقيد.
ويعد غراهام أحد أبرز الأصوات تحت قبة الكونغرس الأمريكي، نظراً لآرائه التي لا تتطابق بالضرورة مع زملائه في الحزب الجمهوري، ويعتبر في الولايات المتحدة من أبرز الشخصيات المؤثرة في السياسة الأمريكية الخارجية والعسكرية منها تحديداً كونه عضو لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ، ويُعرف عنه أيضاً علاقاته المتزنة مع رؤساء الولايات المتحدة.
حذّر غراهام كثيراً من مغبة انسحاب القوات الأمريكية من العراق وما قد يترتب عليه من عودة سريعة لنفوذ إيران عبر ميليشياتها الطائفية وظهور تنظيم الدولة مستغلاً الفراغ الأمني والتوترات الدينية في البلاد، وهاجم إدارة أوباما بشدة والاستراتيجية المتبعة في سوريا.
وهو كما أبدى وجهة نظره بعدم منطقية فصل التأثير بالوجود الميداني كما صرح في مؤتمر أنقرة يوم أمس، فإنه ذكر مراراً أنه لا يمكن الفصل بين سياسة الولايات المتحدة في سوريا وسياستها في العراق، وعاد ليؤكد ذلك عندما تمدد تنظيم الدولة وإيران من العراق إلى سوريا.
فقد غراهام أعز أصدقائه وحلفائه السناتور جون ماكين الذي فارق الحياة أواخر آب الماضي بعد صراع مع مرض سرطان الدماغ.
نادى عضوا مجلس الشيوخ غراهام وماكين منذ بدايات الثورة السورية بضرورة تشكيل قوة أمريكية عربية تركية لمواجهة روسيا وإيران في سوريا، إلا أنهما وفي كل مرة كانا يصطدمان مع التيار الآخر الرافض لزج المزيد من القوات الأمريكية في الشرق الأوسط، وربما هو نفسه التيار الذي أبدى إعجابه بقرار ترمب الأخير.
الرجلان الحربيان عبّرا مراراً عن وجهة نظرهما بأهمية أن تكون الولايات المتحدة "مصدر استقرار لدول العالم"، وأن "تتحلى الولايات المتحدة بالشجاعة" – كما قال غراهام- لمواجهة المخاطر خارج حدود البلاد لأنها في النهاية ستؤثر سلباً على الولايات المتحدة، وفي هذا السياق طالبا بضرورة مواجهة تنظيم الدولة ووضع حد لاعتداءات روسيا وإيران ونظام الأسد على الشعب السوري.
وقال غراهام وماكين في مقابلة تلفزيونية عام 2015 رداً على سؤال المذيع عن خطتهما لمواجهة نظام الأسد وتنظيم الدولة "أعتقد يجب أن نتعامل مع كليهما وأكبر خطأ يمكن أن نقع فيه هو أي نوع من التحالف مع روسيا، بما أن طموحات بوتين تتعارض بشكل كبير مع طموحاتنا، يجب القضاء على تنظيم الدولة وإنشاء منطقة عازلة لحماية المدنيين من براميل الأسد، الأمر الذي سيحد من موجات اللاجئين التي تثير الذعر في بلادنا ودول أخرى".
الضبابية في الاستراتيجية الأمريكية
كان لانكفاء الولايات المتحدة بالملف السوري والتركيز فقط على قتال تنظيم الدولة، آثار مدمرة لسوريا والشعب السوري، عندما خسر الثوار معظم مناطقهم لصالح إيران وروسيا، وما ترتب على ذلك من مجازر أودت بحياة مئات الآلاف وهجّرت ملايين السوريين إلى دول اللجوء والمخيمات، وأيضاً ابتعاد الولايات المتحدة عن مجربات الحل السياسي والاكتفاء بالتصريحات التي لم تغير من الواقع شيئاً.
هذا الانكفاء عزّز وجهة النظر الرامية إلى أن الولايات المتحدة لا تريد التدخل أكثر من ذلك في سوريا التي يعتبرها ترمب بلد "الموت والرمال"، وتسليم مقاليد الأمور لروسيا لإيجاد حل لهذ الملف المعقد.
والآن يواجه ترمب أزمات داخلية قد تهدد ولايته، تتمثّل بالمزاعم حول تدخل روسيا في الانتخابات الأمريكية وعلاقتها بترامب، وأزمة الإغلاق الحكومي الأطول في تاريخ البلاد، وبات ترمب الآن مضطراً ليفي بوعوده لناخبيه عندما وعدهم بخفض عدد القوات خارج البلاد وعدم صرف المزيد من الأموال في الخارج، وأن "أمريكا أولاً".
بالنهاية فإن رسم ملامح السياسة الأمريكية الخارجية لا تقتصر على الرئيس الأمريكي، وإنما للسلطات التنفيذية كالبنتاغون ووكالة المخابرات المركزية CIA وغيرها رأيها الحاسم في ذلك، فضلاً عن التجاذبات الدائرة بشكل دائم تحت قبة الكونغرس، ولذلك لا يستطيع أحد أن يحدد ما إذا كانت الضبابية في الاستراتيجية الأمريكية هي استراتيجية بحد ذاتها أو أنها نتاج طبيعي لآلية صنع القرار الأمريكي المعقد.