icon
التغطية الحية

"عيبٌ على الذي يصدق".. عن تاريخ الكذب وانحطاطه

2021.12.23 | 09:29 دمشق

aqnt_kdhb.jpg
+A
حجم الخط
-A

مقتت العرب منذ أولها الكذب، ونفرت من فاعله، فكان ملازماً له لا براء منه، فكذبة واحدة يأتيها عاقل بالغ تكفي ليوسم بالكذب، مصداق القول: "مَن استحلى رضاع الكذب عسر فطامه"، أما الصبي والشيخ كبير السن فهما مضرب مثل المتوقع كذبه لقلة الإدراك، فقيل: "أكذب من صبي" و"أكذب من الشيخ الغريب"، وعند العرب كاذب مطلق وهو السراب وغيم تموز، وكاذب محتمل كالبرق والحلم، وقيل إن أكذبهم كان رجلاً من العمالقة اسمه "عرقوب" أخلف وعداً أجّله مراراً، فراح مضرب مثل لمن سواه، فقالوا: "أكذب من عرقوب".

ونجد في المستطرف أمثلة عديدة من الشعر عن الكذب منها قول أحدهم:

"حسب الكذوب من البلية بعض ما يحكى عليه

فمتى سمعت بكذبة من غيره حسبت إليه".

بينما آخر يحدد دوافع الكذب فيقول:

"لا يكذب المرء إلا من مهانته

أو عادة السوء أو من قلة الأدب".

كذلك عند العرب كذب دون الكذب كالـ "الكذبة البيضاء" و"أعذب الشعر أكذبه"، كمثل قول جان جاك روسو بالكذب الذي لا ضرر ولا مصلحة فيه، وكذلك –أو منه- التخيلات، حيث لا يراه كذباً، وفي الأصل يصنف جان جاك روسو الكذب بشكل مختلف، فالتدليس عنده الكذب على الآخرين لجلب مصلحة، والافتراء هو الكذب لأذى الآخرين وهو الأسوأ، فهل يُبرَّر من كل هذا الكذب المعطِي مثل ابتسامة عابرة أو تلويح باليد أو نشوة كاذبة؟ وكذلك الغيبيات في الأساطير والأديان التي لا يبررها فريدريك نيتشه؟

ونجد في المستطرف أيضاً: "وكان بفارس مُحتسب يُعرف بجراب الكذب، وكان يقول: إن منعت الكذب انشقت مرارتي، وإني والله لأجد به مع ما يلحقني من عاره من المسرة ما لا أجده بالصدق مع ما ينالني من نفعه". وهذا يتطابق مع تعريف أرسطو للكذّاب على أنه ليس من يستطيع الكذب بل من يميل إليه ويفعله عن قصد.

والكذب في الأديان السماوية ليس كغيره من الموبقات، فهو ناقض للإيمان، ففي القرآن الكريم: {إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون} (النحل 105). وفي العهد القديم: "ابتعد عن كلام الكذب، ولا تقتل البريء والبار، لأني لا أبرر المذنب" (خروج: 23/7)، وأيضاً: "الرب يكره شفاه الكذب" (مزامير: 120/2). ومن الجيد هنا أن نسأل روسو عن موقفه من الكذب الجالب للمصلحة في الأديان السماوية مثل الكذب على العدو أو لإصلاح ذات البين!

وللكذب في اللغة معانٍ مختلفة، فحين نقول "كذّب عن أمر أراده" أي أحجم وانثنى، و"حمل عليه فما كذّب" أي ما جَبُن، لكنه في الأصل نقيض الصدق، وفعل ما هو مناقض للحقيقة أو الواقع، ويتفق الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا مع ثنائية كذب/ صدق ولا يتفق مع ثنائية كذب/ حقيقة، إذ يتوافق مع أرسطو بربط الكذب بالقصدية، فنحن لا نكذب حين نقول خطأ نظنه بقرارة أنفسنا حقيقة، وقد نكذب حين نقول حقيقة نظنها خطأ، وبذلك يتفق أيضاً مع رأي القديس أوغسطين بضرورة توافر النية السيئة بخداع الآخرين للحكم على فعل الكذب (أي أنه من المستحيل الجزم بكذب أحد ما)، ويتفق معه باستحالة كذب الإنسان على ذاته، إذ ينبغي أن تصبح الذات أحداً مغايراً لتخدعه بخلاف ما تعتقد. ودريدا يناقش الكذب في محاضراته المجموعة في كتاب (تاريخ الكذب) ليس من حيث مفهومه بل من حيث فعل الكذب، إذ يرى أن لا تاريخ يمكننا اقتفاؤه للكذب، لكنه يثير هذا السؤال الكبير: "هل بإمكان الإنسان أن يكذب على نفسه؟".

"إذا حصرنا عبارة (خداع الذات) بمعناها الدقيق، سيصبح قبول الفكرة القائلة بإمكان الإنسان الكذب على ذاته أمراً بالغ الصعوبة"

في هذه النقطة يستحضر تعبير الكاتبة الأميركية حنة آرنت في مقالتها "السياسة والكذب، تأملات في وثائق البنتاغون"، حيث استخدمت عبارة "خداع الذات"، فتقول: "إذا حصرنا عبارة (خداع الذات) بمعناها الدقيق، سيصبح قبول الفكرة القائلة بإمكان الإنسان الكذب على ذاته أمراً بالغ الصعوبة". وإذا تحرينا المعنى الدقيق لخداع الذات في معاجم العربية سنجد "الإيمان بمفهوم أو فكرة أو رأي مغلوط أو خاطئ عن ذاته"، ونجد أيضاً "عدم الثبات على رأي"، فالفارق بين الكذب والخداع كبير، ويذكرنا ذلك بمقدمة الدكتور برهان غليون لكتابه "عطب الذات"، ولكن الدكتور غليون لا يتحدث عن ذات فردية بل ذات جمعية عربية "رسخ في ذهنها قناعات وأوهام ومعارف وتقديرات، لذاتها، وللواقع الذي يحكم وجودها ويحدد جملة الخيارات المتاحة". أي أن لدى هذه الذات خطأ أصيلاً في تصورها لكليتها وأجزائها، فهي "منخدعة"، ولكن إذا افترضنا أن أجزاء كبيرة من الشعوب العربية تحررت من ذلك التصور بعد ثورات الربيع العربي، فهل هي ذوات صادقة مع نفسها الآن، أم أنها تكذب على نفسها؟ ألا يقتضي ذلك إجابات على جملة كبيرة من الأسئلة لعل من أولها "هل نحن نشكل ذاتاً جمعية حقاً؟"، وما يتبعه من سلسة تعريفات ومفاهيم حول الهوية والوطنية ...إلخ، أو أن نسأل أحد قيادات الثورة "هل ما زالت الثورة مستمرة؟" أو أحد موالي النظام السوري "هل النظام مجرم؟".

لم تكن حنة آرنت الكاتبة الوحيدة التي ربطت بين السياسة والكذب، بل يكاد يتحول الربط بين السياسة والكذب إلى ربط مفاهيمي، ما قد يبرر الكذب السياسي مهما كان فجاً، كالكذبة بأن الطيران المصري أسقط ألف طائرة إسرائيلية في حرب حزيران، والكذبة بأنه لا تعذيب في المعتقلات الإسرائيلية، وأن سوريا خرجت من حرب تشرين منتصرة، وأن أميركا غزت العراق بسبب وجود سلاح نووي، وأنه من الطبيعي أن يُقتل نصف مليون طفل في غزو العراق من أجل تحرير شعبه، وأن النظام السوري شرعي. وقد عبر عن ذلك كله أوسكار وايلد بـ "انحطاط الكذب" على يد السياسيين والإعلاميين والمحامين، بعد أن كان فناً يجيد ممارسته الفنانون وخصوصاً الأدباء منهم، فكم كان إسفافاً حين برر الإعلام السوري المظاهرات الشعبية بأن الناس خرجوا للشوارع ليشكروا الله على نعمة المطر، وحين ردد بشار الأسد القول النازي الشهير "اِكذب اِكذب حتى تصدق نفسك" وكأنه لا يعبر عنه.

إنه زمن سائل بالفعل على رأي زيغمونت باومان، يصلح له شعار وحيد "الكذب ملح الرجال، وعيب على الذي يصدُق"، أما نحن فيجب أن نقول: "عيبٌ على الذي يصدِّق".