عن "النخبة" وصناعتها

2024.06.12 | 06:17 دمشق

6455555555555
+A
حجم الخط
-A

لم يغب دور النخب بشكل عام - وبالأخص النخبة السياسية الثقافية- عن حوارات وأحاديث السوريين منذ أن انفجرت الثورة السورية، وغالباً ما يُحمِّل السوريون النخبَ مسؤولية الإخفاقات المتتالية التي عرفتها الثورة بوصفها ( أي النخب) المسؤولة عن قيادة المرحلة الراهنة التي تمر بها سوريا فهي التي يفترض أن يقع على عاتقها قيادة التغيير، وصناعة تاريخ المجتمع، وانتقاد السبل والآليات الخاطئة وهي التي يجب أن تقترح الحلول، وتضع الآليات التي يجب استعمالها للوصول إلى الهدف، لكن ما حدث وما آلت إليه أوضاع سوريا فتح الباب واسعاً أمام منتقديها واتُهمت – ولاتزال تتهم - بأنها فاسدة، ومتقاعسة، ومقصرة، وغارقة في نرجسيتها وحبها للسلطة، وأنها تخوض صراعاتها بدلالة السلطة وليس بدلالة الواقع والآفاق.. الخ.

 

لن أخوض هنا في تعريف النخبة أو تصنيفاتها، فهذا بحث يحتاج لحديث طويل قد لا يكون مهماً في ما أريد الحديث عنه، لكن من الضروري القول إن جوهر الحوار الذي أثاره مقال* نشره الدكتور "حازم نهار" على عدة مواقع تحت عنوان "هل يمكن صناعة نخبة ثقافية - سياسية سورية" تركّز في معظمه حول قراءة الجانب السياسي والنتائج التي تشهدها سوريا اليوم بعد ثلاثة عشر عاماً من الثورة، وبالتالي فإنني سأتناول فقط النخبة" الثقافية - السياسية" وهو ما ينطبق إلى حد كبير أيضاً على النخب الأخرى وإن يكن بدرجات متفاوتة.

بداية أرى من الضروري القول إن الدور المفترض للنخب بشكل عام هو إشكالي منذ بداية تداوله، وكان ولايزال يعكس في مراحل تطوره كمفهوم أنساقاً ثقافية وسياسية تتطور بحكم تطور مجتمعاتها، لكنه في مراحله الأولى كان انعكاساً لنسق ثقافي استبدادي سلطوي ديني أو طبقي ثم تعمق أكثر في مرحلة السلطات الاستبدادية التي أنتجتها الأحزاب الشمولية أو الأيديولوجيات التي سادت في القرن الماضي، وكان من الطبيعي أن تتطور صيغته وتتعمق وتتخذ أبعاداً جديدة، وها نحن اليوم أمام مفهوم معقد ومتشابك يختلف كثيراً عن بداياته.

لكي تقود نخبة ما مجتمعاً ما لا بد من افتراض الاتفاق والانسجام وإقامة هرمية ما، تنظم صيغة العلاقة بين الثقافة والمثقفين والمجتمع.

"النخبة معلمة الجماهير"، "النخبة قائدة الجماهير"، "طليعتها"، "وعيها الطبقي"، " وعي مصالحها"، "صانعة التاريخ"..إلى آخر الصفات التي يتم تداولها عن النخب ودورها، ورغم الصيغة الاستعلائية لهذه التوصيفات بمجملها وما يولده هذا التعالي من إشكالات سواء لدى المصنفين على أنهم نخبة، أو لدى بيئة هذه النخبة، فإن الإشكال "الأخلاقي" للتعالي كان يتراجع أمام الدور الحقيقي الملموس على الأرض لهذه "النخب"، وهذا يعزز - برأيي- صفة الاستبداد الكامنة فيه، ويمكن القول إن الوجه الأكثر خطورة لهذا الاستبداد المسكوت عنه تمثل أولاً بإلحاق الثقافة بالسياسة، وهو إلحاق رغم وجود ما يبرره إلى حد ما فإنه في جوهره إلحاقٌ جائر تم استغلاله كثيراً لتمكين النظم الشمولية والمستبدة من السيطرة والاستمرار، ومعظمنا عاش تجربة الأنظمة التي قرر فيها الساسة شكل ومحتوى الثقافة التي يجب أن يتبناها المثقفون ويسوّقوها كما لو أنها مقدس آخر يضاف إلى جملة المقدسات التي يعتبر انتقادها كفراً.

لا يقتصر "الفعل الاستبدادي" للنخب على النظم الشمولية أو الاستبدادية بل نراه أيضاً في الأنظمة الديمقراطية التي يتمتع فيها المثقف بحرية التفكير والتعبير، لكنه يختلف هنا في دوره، وفي آليات تخلّقه ومن ثم في آليات فعله، فقيادة النخب للمجتمع في هذه النظم إنما تحددها القوة المادية أو المعنوية لهذه النخب أولاً، أي قدرتها الحقيقية في إحداث التغيير، ومن ثم تحددها الصيغ القانونية الناظمة لعلاقات المجتمع.

بعيداً عن الجانب الأخلاقي أو الاستبدادي أو الديمقراطي لدور النخب وتعقيداته فإن "صناعة" النخب إنما تحتاج أولاً إلى بيئة مناسبة، أو إلى افتراضات قد تتوفر أو لا تتوفر، فلكي تقود نخبة ما مجتمعاً ما لا بد من افتراض الاتفاق والانسجام وإقامة هرمية ما، تنظم صيغة العلاقة بين الثقافة والمثقفين والمجتمع، وهذا يفترض أيضاً تعريفاً موحداً للثقافة، ولدور المثقف، ولعلاقة الثقافة في السياسة والأخلاق والمقدسات وما إلى ذلك، وهذا يتناقض إلى حد كبير أو قليل مع مفهوم الثقافة التي جوهرها التنوع والاختلاف والاشتغال الدائم على خلق معنى آخر للأشياء والمفاهيم وحتى فهم المصالح.

أيضاً لفهم دور النخب ومحاكمته وإنصافه لا يكفي المثاقفة العامة حوله، إذ لا بد من التركيز على العلاقة العميقة التي تربط الدور الراهن لهذه النخب باللحظة الراهنة للمجتمع وممكناتها، ورغم أن هذه العبارة تبدو بديهية وتستعمل باستسهال بالغ فإنها جوهر المشكلة، فالنخبة الفاعلة في لحظة ما تغدو بلا أهمية في لحظة أخرى، وفي سنوات ثورتنا السورية أمثلة بالغة الوضوح على صعود من كان مجرد تصنيفهم ضمن النخب يثير السخرية والاستهجان إلى موقع المؤثرين والفاعلين بقوة (يقترن كثيراً تعريف النخبة بالمؤثرين لدى قسم كبير من المثقفين والمفكرين) هذا الصعود الذي فرضته القوة، سواء قوة السلاح أو المال أو قوة العصبية التي يُؤثَر فيها، هي القوى الفاعلة اليوم إلى حد كبير في الحدث السوري، لكن مهما تغيرت القوى الفاعلة فإن "النخبة" السياسية تبقى الفاعل الأهم كونها تشكل الحقل الذي تتصارع فيه النخب الأخرى، وهو الذي يؤطر ويصوغ علاقاتها فيما بينها من جهة، وفيما بينها وبين المجتمع من جهة أخرى.

المشكلة الأهم في سوريا ليست في عجز أو في غياب النخب فقط، إنها بوضوح في غياب الحقل السياسي العام، أي في غياب المقدمات الضرورية لإنتاج النخبة السياسية، وبالتالي يصبح الحديث عن صناعة النخب حديثاً متخيلاً أكثر مما هو واقعي، إذ لا يمكنك أن تصنع لاعبين محترفين من دون أن يكون لديك ملاعب، وبناء على ذلك فإن المهمة الأجدى اليوم إنما تكمن في خلق هذه المقدمات، أي في إعادة الصراع السوري إلى محدداته الأساسية وحقله الأساسي، حقل السياسة، ودور "النخبة السورية اليوم ينبغي أن يتركز أساساً في صناعة ثقافة سياسية تسحب السياسة من يد مختطفيها.

هل يمكن تصنيع مؤسسات سياسية سورية تسهم في خلق نخب سورية؟

من الطبيعي القول رداً على الفقرة السابقة إن صناعة "ثقافة سياسية" هو مهمة النخبة السياسية، لكن أيضاً من الطبيعي القول إن من يصنع الثقافة السياسية هي الدولة أولاً، والمؤسسات السياسية ثانياً سواء الأحزاب السياسية أو النقابات أو منظمات المجتمع المدني ..الخ، وبغياب الدولة والمؤسسات السياسية على تنوعها تصبح النخب عاجزة، وتغدو مهمة إنتاج هذه المؤسسات اشتغالها الأهم.

لا يمكن إنتاج أي نخبة نظرياً، فالنخبة في جوهر معناها هي قوة فعل وتأثير، ومعنى وجودها هو حقل الممكن لا المتخيل، وبالتالي لا بد من توفر عنصرين أساسيين لخلق أي نخبة هما الجدوى، والمنافسة، وبغياب آليات قياس الجدوى، وآليات التراكم، ومعايير التنافس ومقاييسه يصبح عمل النخب مجرد متخيّل نظري لا تحدده أية ضوابط، ويصبح أيضاً مشاعاً يعتقد الجميع أنهم قادرون على اللعب فيه، هذه العشوائية الشديدة لا يمكن أن تصنع تراكماً، ومن البديهي أن غياب التراكم لا يفضي إلى أي جدوى.

لا يتسع المجال هنا لتفصيلات كثيرة ضرورية في تبيان الرأي حول النخبة ودورها وتعريفها وصناعتها لكن من الضروري الإشارة إلى أن عناصر القوة التي يفترض امتلاكها لنخبة ما لا ينحصر في القوة العسكرية أو قوة السلطة أو الاقتصادية، فهناك قوة الرأي العام وهي المجال الوحيد المتاح اليوم أمام النخب السياسية في سوريا، وامتلاك هذه القوة قد يكون حاسماً في الحدث السوري، وهو ما غاب عن اهتمام هذه النخب، وأدى إلى توهم معظمها أنه لا حلّ إلا بالاستقواء بالخارج كمصدر للقوة، ولم يكن هذا الاستقواء والاستتباع للخارج حكراً على طرف من أطراف الصراع بل اختاره طرفا الصراع وهذا ما تسبب في تذرير المجتمع وإضعاف القوة التي كان من المفترض أن تكون الأهم، أقصد قوة الرأي العام السوري.

ختاماً إذا كان الحوار بالغ الضرورة في هذه المرحلة من تاريخ سوريا، وبالغ الضرورة لـ"صناعة نخب" فإن هذا الحوار سيظل عاجزاً عن إحداث أي فعل ما لم يكن هناك مؤسسات تستطيع مراكمة ما ينتج عنه، ومن ثم البناء عليه.

لنحاول إعادة صياغة السؤال على نحو آخر: هل يمكن تصنيع مؤسسات سياسية سورية تسهم في خلق نخب سورية؟