عن الليرة التركية والقيمة العادلة

2022.06.15 | 06:54 دمشق

img_1654845527.jpeg
+A
حجم الخط
-A

أنهت الليرة التركية تداولات الأسبوع الماضي عند مستوى 17,1 ليرة مقابل الدولار الواحد لتسجل أدنى مستوى لها منذ 21 ديسمبر 2021 ولتسجل خسارة تعادل 22 % من قيمتها خلال عام 2022 وتكون قد سجلت أسوأ أداء بين عملات الأسواق الناشئة هذا العام.

خلال العام الماضي فقدت الليرة التركية حوالي 40% من قيمتها بعد أن انخفضت إلى أدنى مستوى تاريخي لها عند 18,40 ليرة مقابل الدولار الواحد قبل أن تقلص من خسائرها وتنخفض إلى حدود 10,30 ليرة مقابل الدولار بعد إطلاق البنك المركزي التركي لآلية الوديعة المحمية من تغير سعر الصرف قبل أن تعاود الانخفاض وتختم العام عند مستوى 11,3 للدولار الواحد.

مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية فشل المركزي التركي في الدفاع عن المستوى السابق نتيجة توجه المستثمرين إلى التخلي عن أصول المخاطرة المرتفعة والتي تشكل الليرة التركية إحداها والتوجه نحو الملاذات الآمنة المتمثلة في الذهب والدولار في الدرجة الأولى والين الياباني والجنيه الإسترليني والفرنك السويسري بالدرجة الثانية، وانخفضت الليرة التركية بشكل تدريجي نحو مستوى 14,8 ليرة مقابل الدولار الواحد والذي تحول لخط الدفاع الجديد للمركزي التركي.

في منتصف إبريل/ نيسان من العام الحالي أطلق الفيدرالي الأميركي أكبر موجة للتشديد النقدي من التسعينيات في إطار حربه على التضخم في الولايات المتحدة الأميركية والذي وصل إلى أعلى مستوى له منذ 1981، حيث رفع سغر الفائدة بـ 50 نقطة أساس، وارتفع نتيجة لذلك مؤشر الدولار لمستوى قياسي وارتفع عائد السندات الأميركية والتي يعتبر ارتفاعها من العوامل ذات التأثير السلبي على عملات الأسواق الناشئة مما دفع الكثير من هذه الدول إلى رفع الفائدة لتجنب التخارج الكبير للأموال الساخنة باتجاه السندات الأميركية.

لم يستجب المركزي التركي لهذه التغيرات في السياسة النقدية العالمية وأبقى سعر الفائدة عند 14% وهو السعر نفسه الذي بقي ثابتا منذ ديسمبر 2021، ومع معدلات تضخم جامحة وعجز قياسي في الحساب الجاري سقط خط الدفاع الثاني، وتجاوزت الليرة الحاجز النفسي عند 15 ليرة دولار لتدخل بعدها في سوق هابط أوصلها إلى مستوى المقاومة المهم عند 16,4 للدولار الواحد.

في الثامن من الشهر الحالي أعلن الرئيس التركي أن بلاده ستستمر في سياستها الاقتصادية الحالية وأنها لن ترفع الفائدة بل ستستمر في تخفيضها منتقدا الدول التي ترفع الفائدة قائلا بأنها تعطل النمو الاقتصادي، وأن بلاده لا تعاني من التضخم بل من ارتفاع تكاليف المعيشة فقط. وعلى الرغم من إطلاق وزارة الخزانة التركية بعد ذلك لأداة مالية جديدة أطلقت عليها اسم (سندات الخزينة المرتبطة بمؤشر الدخل) والقيام ببعض الإجراءات الأخرى المتعلقة بزيادة الضرائب على الفروض الاستهلاكية من 5% إلى 10% وتقليص مدد السداد الخاصة ببطاقات الائتمان، إلا أن الأسواق استجابت بصورة سلبية واستمرت الليرة في الانخفاض لتتجاوز حاجز 17 ليرة للدولار الواحد، وارتفع مؤشر مقايضات التخلف عن سداد الديون إلى أعلى مستوى منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008 عند 815 نقطة.

في هذه المقالة سوف نناقش الأسباب الحقيقية لأزمة الليرة التركية من وجهة نظر اقتصادية تقنية بعيدا عن السياسة، على الرغم من إدراكنا لتأثير هذه الأزمة على الواقع السياسي التركي مع اقتراب الانتخابات الرئاسية التركية والتي انطلق سباقها مبكرا ويشكل الاقتصاد أحد الأصوات الأكثر ترجيحا فيها.

1- تضخم الطلب أكبر بكثير من تضخم العرض:

أشارت قراءة التضخم عن شهر يونيو 2022 الصادرة عن مكتب الإحصاء التركي إلى الارتفاع السنوي في مؤشر أسعار المستهلكين (التضخم) بلغ 73،5 في حين بلغ مؤشر التضخم الرئيسي (باستثناء أسعار الطاقة والغذاء) 56,5 أي ما يعادل أكثر من ثلثي مؤشر التضخم الكلي.

بافتراض أن هذه الأرقام صحيحة على الرغم من التشكيك الكبير فيها بسبب الإقالات التي وقعت في مكتب الإحصاء وظهور قراءات أخرى أشارت إلى أن التضخم أعلى بكثير وأصبح من ثلاثة أرقام وتجاوز 100 %، فإن التضخم المستورد أو ما يسمى تضخم العرض الناتج عن ارتفاع التكاليف بسبب أزمة الاقتصاد العالمي وارتفاع أسعار الطاقة الناجم عن الحرب الأوكرانية لا يتجاوز 20%، في حين أن تضخم الطلب الناجم عن سيولة الأسواق وزيادة المعروض النقدي من الليرة التركية بسبب سياسة التيسير الكمي التي يتبعها المصرف المركزي التركي الغير تقليدية القائمة على أسعار فائدة منخفضة دون النظر إلى معدل التضخم وسياسة التوسع الائتماني يشكل نحو 55% من إجمالي التضخم، وهذا لا يمكن مواجهته من دون تشديد السياسة النقدية ورفع أسعار الفائدة وتقييد الائتمان، حيث تقول المعادلة الاقتصادية إن سعر الفائدة = معدل تضخم الطلب، ويجب الهبوط بالتضخم أولا لتهبط الفائدة لأن التضخم هو السبب والفائدة هي النتيجة وليس العكس

2- السباحة عكس التيار والعوائد الحقيقية السلبية:

خلال إغلاقات كورونا، قامت البنوك المركزية على مستوى العالم بتيسير السياسة النقدية من خلال تخفيض الفائدة وطباعة النقود وضخها في الأسواق بهدف حماية اقتصاداتها من الدخول في الركود، بعد انحسار الجائحة وبدء انتعاش الاقتصاد العالمي تسببت هذه السيولة النقدية في ارتفاع تضخم الطلب بشكل كبير مما دفع كبرى البنوك المركزية إلى إطلاق جولة واسعة من رفع الفائدة بهدف امتصاص هذه السيولة، ابتدأ الجولة بنك إنكلترا ثم تلاه الفيدرالي الأميركي ليلتحق المركزي الأوروبي بالركب ويعلن نيته رفع الفائدة الشهر المقبل.

في المقابل غرد المركزي التركي خارج السرب وخفض الفائدة 500 نقطة أساس خلال شهرين في خطوة تخالف كل قوانين الاقتصاد الكلي ثم ثبت المعدل عند 14% خلال  الخمسة أشهر الماضية نتيجة للضغط العنيف الذي تعرضت له الليرة، ومع ارتفاع التضخم إلى %73,5 احتلت تركيا المستوى الأول على مستوى العالم من حيث العوائد الحقيقية السلبية عند 59 نقطة سالبة، حيث تقول المعادلة الاقتصادية إن العائد الحقيقي = سعر الفائدة الاسمية – معدل التضخم، الأمر الذي يجعل الاستثمار في الليرة غير جذاب وخصوصا مع رفع الفائدة على عملات تعتبر ملاذات آمنة خالية من المخاطرة تاريخيا مثل الدولار والجنيه الإسترليني، الأمر نفسه ينطبق على الاستثمار في سندات الخزينة التركية، بالإضافة إلى احتمالات ركود الاقتصاد العالمي التي تدفع المستثمرين إلى الملاذات الآمنة مثل الذهب والتخلي عن أصول المخاطرة المرتفعة، هذا الواقع سيدفع إلى خروج كثير من الأموال من أصول الليرة التركية ويدفعها للانخفاض من جديد.

3- الميزان التجاري خاسر:

قفز العجز التجاري في تركيا بنسبة 157% على أساس سنوي في مايو الماضي إلى 10.68 مليار دولار، إذ أظهرت البيانات أن صادرات تركيا ارتفعت بنسبة 15.2% إلى 18.97 مليار دولار في مايو/أيار، بينما قفزت الواردات 43.8% إلى 29.65 مليار دولار. ومع التوقعات التي تشير إلى أن سعر برميل النفط سيصل إلى 140 دولارا للبرميل الواحد في نهاية العام بسب استمرار نقص المعروض في أسواق الطاقة العالمية وحظر النفط الروسي، واستمرار انخفاض سعر اليورو الذي تباع به معظم الصادرات التركية، فإن العجز التجاري مرشح للارتفاع، وبالتالي لا يمكن تحقيق خفض التضخم من خلال تحقيق فائض في الحساب الجاري وفق السياسة الاقتصادية التركية غير التقليدية.

4- القيمة العادلة والمستويات الحرجة:

من خلال تحليل السلسلة الزمنية لتحركات الليرة التركية خلال العشر سنوات يتبين أنها تتأثر بخمس متغيرات رئيسية: مؤشر التضخم العام، العجز التجاري، سعر الفائدة، عائد السندات الأميركية، مؤشر الدولار الأميركي، وفق القيم الحالية للمتغيرات السابقة نستطيع أن نقول إن القيمة العادلة لليرة التركية هي 17,7 ليرة مقابل الدولار الواحد.

وفق المؤشرات التقنية شكل إقفال الأخير فوق مستوى 17,1 مستوى حرج حيث لا تظهر أي نقطة مقاومة قبل القمة التاريخية عند 18,3 ليرة للدولار الواحد، على الرغم من اعتقادنا من أن المركزي التركي سيخوض معركة طاحنة لمنع وصولها لهذا المستوى لأنه سيكون بمثابة إعلان فشل للنموذج الاقتصادي الذي تم اتباعه منذ نهاية العام الماضي وفشل آلية الوديعة المحمية التي كلفت الخزينة حتى الآن 158 مليار ليرة تركية دون فائدة تذكر، ولكن مع الاحتياطيات المتآكلة والارتفاع المرتقب لمؤشر الدولار وعائد السندات الأميركية مع إطلاق الجولة الثانية من رفع الفائدة الفيدرالية من قبل المركزي الأميركي في 15 يونيو/ حزيران الحالي، من الصعب الاستمرار في هذه المعركة طويلا.

الجدير بالذكر أن المركزي التركي توقع أن يكون سعر صرف الليرة في نهاية العام 17,65 ليرة للدولار الواحد، في حين توقع بنك غولد مان ساكس أن يبلغ سعر صرف الليرة ما بين 21 إلى 24 في نهاية العام الحالي في حال استمرار السياسة النقدية الحالية.

الخلاصة:

تدفع الليرة التركية ثمن السياسة النقدية غير التقليدية التي يتبعها المركزي التركي والتي تخالف النظرية الاقتصادية الكلية واتجاهات السياسية النقدية العالمية بالإضافة إلى قوة الدولار الأميركي وارتفاع عائد السندات الأميركية ونتائج الحرب الروسية الأوكرانية، يحتاج المركزي التركي إلى بيان يعلن فيه استقلالية قراره بشكل كامل والتزامه بقوانين الاقتصاد الليبرالي، لأن مزيدا من التأخر في ذلك قد يدفع الاقتصاد التركي بالكامل إلى وضع اقتصادي يطلق عليه اسم (مصيدة السيولة) وحينها كل أدوات السياسة النقدية لن تجدي نفعا لأنه دائما هناك حدود لعلم الاقتصاد يكون ثمن تجاوزها باهظا.