icon
التغطية الحية

عن "الكتابة الإبداعية" ومفهوم الأدب المستنسَخ في العصر الحديث

2022.02.25 | 16:01 دمشق

katb_abday.jpg
(لوحة: ليونيد باسترناك)
+A
حجم الخط
-A

يُتداول مصطلح "الكتابة الإبداعيّة" بكثافة في المنتديات الثقافيّة والإعلام، وهو مصطلح حديث نسبياً، ولا يوجد له أصل في كتب الأدب التراثيّة، حتى إنّ بعض الأكاديميين المتخصصين بالأدب لا يجدون حرجاً عندما يقولون بأنهم لا يعرفون على وجه الدّقة الأصل الأجنبي للمصطلح وبدايات تداوله في عالمنا العربي، أو من نقله للعربيّة.

الإشكالية الدلالية لمصطلح "الأدب"

ما يزال مصطلح "الأدب" مَوضِع بحث وجدال فهو مصطلح غير مستقر في الدّلالة، ولعل بحث  "مفهوم الأدب في النظرية الأدبيّة الحديثة" فيه تلخيص لهذه المعاني عبر العصور المتتالية، ففي الجاهليةِ وصدر الإسلام كان المَعنى اللغويّ للأدَب هو المعنى السائد وهو مَأخُوذٌ مِن "مَأدُبَة" أيِ: الوليمة، ثم تحوَّل إلى معنى آخر يتضمّن المعنى الخلقي والتهذيبي، ثم أضيف معنى تعليميٌّ للأدب في العصر الأُمويِّ، فقد ظهر "المؤدِّبون" الذين يعلِّمون أولاد الخلفاء، ثم أصبح يطلق على جميع العلوم، بينما في العصر العباسيِّ أصبح يختص بمن يعمل على حِفظ الشّعر ومعرفة الوزن والإيقاع، ثم زال لفظُ الأدباء عن العلماء وانفرد به الشعراء والكتَّاب.

أمَّا مفهوم الأدب في العصر الحديث، فلهُ معانٍ مختلفة وكثيرة، فهو "فن جميل يتوسل بلغة" عند طه حسين، وهو "فن الإبانة عمّا في النّفس، والتّعبير الجميل عن مكنون الحسِّ، والتَّصوير النّاطق للطّبيعة، والتّسجيل الصّادق لصور الحياة ومظاهر الكون ومشاهد الوجود" عند محمد الخفاجي في كتابه "الشّعر الجاهلي".

وهناك الكثير من هذه التّعاريف التي تتجاوز في مضامينها كافة أنواع السّجالات حول الأدب ووظيفته وعلاقته بالمجتمع، وتتجاوز أيضاً تصنيف الأدب إلى أدب اشتراكي وأدب ملتزم وأدب مقاوم، تتجاوز هذه السّجالات والتّصنيفات لتجعل للأدب مضامين إنسانيّة خالصة.

منشأ الكتابة الإبداعيّة

يُعتقد أن مصطلح "Creative writing" (كتابة إبداعية) قد استخدم لأوّل مرة من قبل "رالف إميرسون" (Ralph Waldo Emerson) عندما أشار إليه في خطابه "الباحث الأميركي/ The American Scholar"، لكن ترجمة هذا المصطلح إلى تطبيق عملي لم يحدث إلا في عام1885 عندما قُدّمت الفصول الأولى في "الكتابة الإبداعيّة" في جامعة هارفارد.

اكتسبت الكتابة الإبداعيّة  حيّزاً بارزاً عند إعادة صياغة مقرّرات التّعليم الجامعي بعد الحرب العالميّة الثّانية، حيث أنشئ أوّل برنامج رسميّ للكتابة الإبداعيّة بدرجة ماجستير في جامعة إيست أنجليا عام 1970، من قبل الروائيّين مالكولم برادبري وأنجوس ويلسون.

تُعرف الكتابة الإبداعيّة على أنّها تعبيرٌ كتابيّ شخصيّ، يعتمد على الابتكار وليس التّقليد، والكاتب إذ يحاولُ محاكاة الواقع، فإنّه يستخدم فكرهُ ولغتهُ وخيالهُ، لخلق قطعة حياة فنية تضجُّ بحيويّة العيش

إذا بحثنا عن جذور مصطلح "الكتابة الإبداعيّة" في موقعي معجم الدوحة التاريخي للغة العربية والمُعجَم التّاريخي للّغة العربيّة، فإن البحث لا يسفر عن أيّ نتيجة لها علاقة بمفهوم الكتابة الإبداعيّة، ولعلَّ من أوائل الكتب -إذا لم يكن الكتاب الأول- التي بدأت تتداول هذا المصطلح في العالم العربي هو كتاب زمن الشّعر للشّاعر السّوري أدونيس، الصّادر عن دار العودة عام 1972م.

ما هي الكتابة الإبداعيّة؟

تُعرف الكتابة الإبداعيّة على أنّها "تعبيرٌ كتابيّ شخصيّ، يعتمد على الابتكار وليس التّقليد، والكاتب إذ يحاولُ محاكاة الواقع، فإنّه يستخدم فكره ولغته وخياله، لخلق قطعة حياة فنية تضجُّ بحيويّة العيش، وتكون عامرة بشخوصها وأحداثها وأمكنتها، وخصوصيّة بيئتها"([1]).

كما يعرّفها عبد الفتّاح البجّة بأنها "الكتابة التي تهدف إلى التّرجمة عن الأفكار والمشاعر الدّاخلية والأحاسيس والانفعالات، ومن ثمّ نقلها إلى الآخرين بأسلوب أدبيّ رفيع؛ بغية التّأثير في نفوس السّامعين أو القارئين تأثيرًا يكاد يقترب من انفعال أصحاب هذه الأعمال"([2]).

بينما يُفرد أدونيس فصلاً كاملاً للكتابة الإبداعيّة في كتابه "زمن الشعر"، حيث يرى أن الكتابة السّائدة هي الكتابة الوظيفيّة بسبب هيمنة السُّلطة على المجتمع، ويرفض تسمية من يكتبونها بـ"كتّاب" إنَّما منضِّدون لأفكار السّلطة، لذلك يجد أن مستقبل الأدب العربي مرهون بوعي الكُتَّاب بضرورة تجاوز الارتباط بالسلطة إلى الارتباط بالإنسان.

عندما نُمعن النّظر بتعريفات الكتابة الإبداعيّة المتنوعة والمتباينة؛ سنجد أنّ جميع التَّعريفات تتقاطع بنقطة جوهريَّة واحدة وهي الإبداع الإنسانيّ، وبالعودة لمفاهيم الأدب في العصر الحديث، فإنَّنا نجد أنَّها أيضاً منتجات إبداعيَّة سمتها الموحدة الإنسانيّة، على ضوء ذلك؛ يبدو لنا أنّ الكتابة الإبداعيّة هي ذاتها الكتابة الأدبيّة بحسب مفهوم الأدب في العصر الحديث.

لماذا لم تترجم الـ Creative writing إلى كتابة أدبيَّة بدلاً من إبداعيَّة؟

من خلال ما سبق لم نشعر بأن ثمة فرق بين الكتابة الأدبيَّة والإبداعيّة، فهو مجرد تنويع بالمفردات، فأصل التّجربة الكتابيّة هو الإبداع والإنسان، فهل هناك أسباب موضوعيّة لترجمة المصطلح creative writing إلى كتابة إبداعيّة بدلاً من أدبيّة؟

يقول الشّيخ علي الطّنطاوي: "لعنة الله على الشّعر الجميل والوصف العبقريّ إن كان لا يجيء إلا بذهاب الدّين والفضيلة والعفاف، وعلى كلِّ أديب يُفسِدُ عليَّ ديني ويذهب بعرضي ويحقر مقدّساتي"([3]).

بهذه الكلمات البسيطة يلخِّص الشّيخ علي الطّنطاوي رأيه في بعض أصناف الأدب التي تتجاوز القيم الاجتماعيّة والمقدَّسات الإسلاميّة، إلّا أنَّ الشّيخ ورغم موقفه الحاد من هذا "الشّعر الجميل والوصف العبقري" لا ينفي عن كاتبها صفة "الأديب"، رغم أنَّه "يُفسد الدِّين ويحقِّر المقدّسات"، وفي موضع آخر يصف أدب الحَداثة بأنه "الأدب المزور"، ورأي الشّيخ يمثِّل شريحة واسعة جداً من الأدباء والقراء، فمعظم شخصيّات الأدب الإسلاميّ لهم رأي مقارب، ومُجمل إصدارات رابطة الأدب الإسلامي العالميّة تغذي هذه النَّظرة القديمة للأدب، والتي تستمد شرعيّتها من مفهوم الأدب تاريخيّاً، فمنذ العصر الجاهلي تضمَّن الأدب المعنى الخلقي والتهذيبي، ورغم أن مفهوم الأدب بالعصر الحديث تجاوز تلك المعاني، إلّا أنّها ما تزال تُرخي بظلالها على مجموعة كبيرة من القرَّاء والكتّاب، وهذه الإشكالية تتجاوز الأدب إلى جميع الفنون، والأمثلة على ذلك كثيرة كالرّسوم المسيئة للرَّسول والرّوايات المسيئة للمعتقدات الإسلاميّة، فالإشكاليّة ليست بمسمى الكتابة الإبداعيّة أو مفهوم الأدب بالعصر الحديث، وإنّما بمضمون هذه المصطلحات، مضمونٌ ناتجٌ عن تحوّلات تاريخيّة "اجتماعيّة وسياسيّة" لحضارات الآخرين، فالمضمون مستنسخ، مثله مثل المصطلح المترجم، لذلك نجد أنّ هذه القضايا لا تنتهي، ولعلَّ فيلم "أصحاب.. ولا أعز" -على سبيل المثال- ليس أول القضايا التي أثيرت ولن يكون آخرها.

ونتيجة لكلِّ ذلك نجد أنَّ شرائح واسعة من المجتمع العربيِّ المحافظ لا تطلق صفة "الأديب" أحياناً على من يتضمن إنتاجه ما يثير الغرائز أو يمسُّ المقدَّسات، فيعتبرون أحمد شوقي أديباً، بينما نزار قباني شاعراً، على الرّغم أن كليهما شاعر بالأصل، وكذلك الأمر بالنّسبة للمسرحي والرّوائي والقاص وهلم جرّا.

ويبدو أن ترجمة "Creativ writing" إلى "كتابة إبداعية" جاء تهرُّباً من العبء الثّقيل لمعنى الأدب بالعقل الجمعيّ، وللانتقال إلى كتابة تتجاوز هذه الجزئية، لتنطلق إلى واقع ترسمه كما تريد، دون محدِّدات أخلاقيّة مجتمعيّة أو دينيّة، وقد تكون التّرجمة جاءت حرفيّة للمصطلح الإنكليزي، لكنّ ترسيخها وتداولها على نطاق واسع جاء تماشياً مع الرّغبة بترسيخ مفهوم الأدب "المستنسخ" في العصر الحديث بمصطلح جديد.


[1] مبادئ الكتابة الإبداعيّة للقصة القصيرة والرّواية، طالب الرفاعي.
[2] أصول تدريس العربية بين النّظرية والتّطبيق.
[3] فصول في الدعوة والإصلاح