عن الدولار واليورو وحرب العملات العالمية

2022.07.28 | 06:44 دمشق

عن الدولار واليورو وحرب العملات العالمية
+A
حجم الخط
-A

أعلنت البنوك المركزية العالمية حربها على التضخم منذ بداية هذا العام والذي ارتفع بشكل كبير في معظم الاقتصادات المتقدمة والناشئة مع بدء انتعاش الاقتصاد العالمي بعد إغلاقات كورونا والتي شهدت عمليات طباعة النقود وضخها في مفاصل الاقتصاد بشكل كبير، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع تضخم الطلب لتأتي الحرب الروسية الأوكرانية وتعمق الجراح من خلال حدوث اختنافات في سلاسل التوريد واختلالات هيكلية في أسواق الطاقة أدت إلى ارتفاع التضخم من جهة العرض السلعي الناجم عن ارتفاع تكاليف الإنتاج التي ارتفعت بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء.

بدأت حركة التشديد النقدي مع بنك إنكلترا الذي صوتت لجنة السياسة النقدية فيه على 5 زيادات متتالية للفائدة، بعد أن وصل التضخم إلى أعلى مستوى في 40 عامًا عند 9.4 في المئة، مما رفع المعدل الأساسي من 0.1 بالمئة إلى أعلى مستوى بعد الأزمة المالية عند 1.25 في المئة.

وقال محافظ بنك إنكلترا، إن مجلس الأمناء قد وضع "على الطاولة" مقترح رفع معدل الفائدة بمقدار 50 نقطة أساس في اجتماع شهر أغسطس المقبل، في إطار تسريع وتيرة تشديد السياسة النقدية لكبح جماح التضخم.

وكان الجنيه الإسترليني سجل أدنى مستوى له فيما يزيد على عامين مع ارتفاع مؤشر الدولار بشكل كبير وحالة الاضطراب السياسي التي رافقت استقالة حكومة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون.

أما الفيدرالي الأميركي أكبر البنوك المركزية العالمية والذي صدّقت لجنة السياسة النقدية فيه على ثلاث رفعات للفائدة منذ شباط الماضي ينتظره اجتماع مهم في السابع والعشرين بعد وصول التضخم في الولايات المتحدة إلى أعلى مستوى له منذ أربعين عاما عند 9,1%، حيث تترقب الأسواق رفعا إضافيا للفائدة بقيمة 75 نقطة أساس، في حين تشير توقعات أخرى إلى إمكانية رفع الفائدة بـ 100 نقطة أساس والتي أعادت الحديث إلى ما يسمى صدمة فولكر عندما رفع رئيس الاحتياطي الفيدرالي السابق بول فولكر أسعار الفائدة إلى أعلى نقطة في التاريخ في الثمانينيات لإنهاء التضخم المكون من رقمين في الولايات المتحدة.

وكان مؤشر الدولار قد تجاوز نقطة 109 ليصل إلى أعلى سعر له في عشرين عاما مقابل سلة العملات الرئيسية هذا الشهر بعد صدور بيانات التضخم وارتفاع احتمالات تشديد السياسة النقدية بشكل أعنف من قبل الفيدرالي الأميركي.

أما المركزي الأوروبي والذي يعتبر آخر البنوك المركزية الكبرى الملتحقة بركب تشديد السياسة النقدية لمواجهة التضخم، والذي من المفترض أن يعلن عن أول زيادة للفائدة هذا الشهر بعد أن وصل التضخم على أساس سنوي إلى مستوى قياسي عند 8,6% وانخفض اليورو مقابل الدولار إلى أدنى مستوى له منذ عام 2002 دون نقط التكافؤ، فإنه يجد نفسه بين خيارين إما رفع الفائدة بقوة لمواجهة التضخم مما قد يؤذي اقتصادات دول جنوب منطقة اقتصاد اليورو مثل إسبانيا واليونان وإيطاليا التي استقال رئيس حكومتها تحت ضغط أزمة ديون حكومية كبيرة، أو إبقاء السياسة النقدية بصورتها الحالية مما يخاطر بدفع التضخم في مؤشر أسعار المستهلكين إلى الارتفاع إلى مستوى تضخم من رقمين.

شكلت تحركات البنوك المركزية السابقة الذكر عودة ما يسمى في علم الاقتصاد النقدي (حرب العملات العكسية)، حيث سعت الدول على مدى أكثر من عقد إلى عكس ذلك، حيث إن العملة الضعيفة كانت الاستراتيجية التي اتبعتها معظم البنوك المركزية على مستوى العالم بهدف تعزيز الميزة التنافسية للشركات المحلية بحيث تستطيع أن تبيع منتجاتها بالخارج بأسعار تنافسية مما يعزز النمو الاقتصادي ونمو الناتج المحلي الإجمالي مدفوعا بميزان تجاري رابح.

ولكن مع ارتفاع كلفة كل شيء من الوقود إلى الغذاء برزت قيمة العملات كجزء مهم وكبير في معادلة التضخم، وأصبح تعزيز القوة الشرائية أكثر أهمية.

يعتبر هذا التحول في السياسة النقدية خطرا جدا خاصة في حال استمرت المنافسة على تقوية العملات دون رادع، لأنه يهدد بإحداث تقلبات شديدة في قيمة العملات الأكثر هيمنة عالميا، وإلحاق ضرر كبير في الشركات التي تعتمد على التصدير وإحداث تقلبات مالية خطرة في الشركات متعددة الجنسيات ونقل أعباء التضخم المفرط إلى كافة أرجاء العالم.

في هذه المقالة سوف نتحدث عن تاريخ حرب العملات العالمية وأثرها على الأسواق الناشئة والمتقدمة ودورها في ارتفاع كلفة الديون السيادية وعجز الميزان التجاري للدول.

1- اتفاقية بلازا:

تاريخيا كان أشهر ظهور لحرب العملات العكسية عام 1985 خلال فترة ولاية الرئيس الأميركي رونالد ريغان الأولى حيث ارتفعت قيمة الدولار الأميركي إلى أعلى قيمة له على الإطلاق مقابل الجنيه الإسترليني على خلفية ارتفاع أسعار الفائدة طويلة الأجل.

في البداية اعتبرت الإدارة الأميركية في ذلك الوقت أن الارتفاع الكبير في سعر صرف الدولار هو تعبير عن قوة الاقتصاد الأميركي، ولكن سرعان ما ظهرت العيوب، حيث تعرضت إدارة الرئيس رونالد ريغان لضغوط كبيرة من قبل المصنعين الأميركيين والذي واجهوا صعوبات كبيرة في تسويق منتجاتهم في الخارج بسبب قوة الدولار الأميركي حيث خسرت الشركات الأميركية مليارات الدولات مقابل الطلبيات الدولية لصالح المنافسين اليابانيين.

الأمر الذي دفع إلى عقد اتفاقية بلازا في سبتمبر 1985 نسبة إلى فندق بلازا في مدينة نيويورك حيث اجتمع محافظو البنوك المركزية من أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان حيث تم التوصل إلى اتفاق يقضي بتخفيض قيمة الدولار الأميركي بنسبة 40% خلال عامين بهدف إعادة التوازن للأسواق العالمية.

ومنذ ذلك الحين نادرا ما تدخلت البنوك المركزية للتأثير على قيمة العملة، ففي عام 2010 أطلق وزير المالية البرازيلي (جويدو مانتيجا) اسم حرب العملات عندما اتهم دولا مثل سويسرا واليابان بتعمد إضعاف عملتها لزيادة قدرتها التنافسية في الخارج وأنها تساهم في تعميق الصدع الاقتصادي بين اقتصادات الأسواق الناشئة ونظيراتها الأكثر تطورا.

2-العملة المسلحة:

الصين أيضا والتي ما زالت تحارب عملية رفع قيمة اليوان أمام العملات الأخرى، حيث يغذي ذلك الصادرات الرخيصة إلى كل أرجاء العالم والتي عززت الطفرة الاقتصادية الصينية، وقد سمحت الصين بهبوط اليوان دون المستوى النفسي الذي هو 7 يوان مقابل الدولار الواحد وهو مستوى لم يتخطاه منذ عقد من الزمن، مما دفع وزارة الخزانة الأميركية إلى تصنيف الصين كمتلاعب بالعملة واتهمتها باستخدام استراتيجية العملة المسلحة.

أما اليابان والتي تعتبر صاحبة أفضل تجربة نقدية بعد الحرب العالمية الثانية، فقد انخفضت عملتها "الين الياباني" بأكثر من 20% منذ بداية هذا العام، حيث أشار المركزي الياباني إلى أن هبوط الين ليس جيدا للاقتصاد الياباني، في حين يتوقع كثير من الاقتصاديين بأن المركزي الياباني سيلتحق بالبنوك المركزية الكبرى ويرفع الفائدة لرفع قيمة الين.

3- الدولار وكلفة الديون:

أما الأسواق الناشئة وخصوصا المصدرة منها كتركيا والأرجنتين فقد بدأت تدفع بقوة ثمن ارتفاع الدولار عالميا الناتج عن سياسة التشديد النقدي التي ينتهجها الفيدرالي الأميركي في إطار حربه في مواجهة التضخم، وخصوصا أن هذه الدول لديها ديون بالدولار أكبر من ديونها بعملتها المحلية، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع كلفة الدين وتخفيض التصنيف الائتماني لبعض هذه الدول كما حصل مع تركيا مؤخرا.

كما أن تركيا تتعرض لمشكلة إضافية تتمثل في انخفاض قيمة اليورو مقابل الدولار، حيث إن معظم الصادرات التركية مقومة باليورو والواردات مقومة بالدولار، الأمر الذي سيتسبب بمزيد من العجز في الميزان التجاري التركي.

وتعاني مصر أيضا من أزمة ديون حادة بسب خروج الدولار من أدوات الدين الحكومي المصري الناتج عن ارتفاع عوائد سندات الخزانة الأميركية والتي تدفع الدولار إلى الخروج من الأسواق الناشئة وعودته إلى موطنه الأصلي، الأمر الذي أدى إلى حدوث انخفاضات حادة في الجنيه المصري ودفع الحكومة إلى طلب مساعدة صندوق النقد الدولي.

الخلاصة:

ما يزال من غير الواضح إلى أي مدى ستلعب العملة القوية دورا في كبح التضخم، أو ما يسمى في علم الاقتصاد (بمعدل التمرير وهو معدل تأثير سعر الصرف مقابل العملات الأخرى على مؤشر أسعار المستهلكين) حتى الآن لا تأثير يذكر، تاريخيا كان ارتفاع الدولار بقيمة 10% يؤدي إلى انخفاض التضخم بنقطة مئوية كاملة، أما الآن وعلى الرغم من ارتفاع الدولار بسبب رفع الفائدة إلى أعلى مستوى منذ عشرين عاما، فقد قفز التضخم في الولايات المتحدة الأميركية إلى أعلى مستوى له منذ أربعين عاما، فهل تكون حرب العملات الحالية لعبة محصلتها صفر؟