icon
التغطية الحية

عن أصالة نصري و"كفوكيم" وحساسية الذات المنهوبة

2022.07.28 | 15:27 دمشق

نصري
+A
حجم الخط
-A

تبدأ ذاكرتي مع اللغة الكردية بكلمة (ez) بمعنى، أنا، وهي أول ما علّمني إياه صديقي الكردي "سالار" في السكن الجامعي بدمشق، حيث اتفقنا على جملة من العبارات نتبادلها في أثناء لعب الورق (الشدّة) أو للهمز واللمز، ما أدى لشيوع بعض العبارات بين شلتنا. لن أنكر أن ذلك أثار استياء البعض، لكننا لم نكترث لذلك.

ولن أنكر شعوري بسعادة ضمنية حين سمعتها من أصالة نصري لأول مرة حين تم تداول الأغنية على صفحات التواصل الاجتماعي، حيث رمت أصالة حجراً في بحيرة الذاكرة الراكدة، لكني لم أنتبه للشارة أو للمكتوب في ملحقات صفحة اليوتيوب عن الكلمات واللحن وأصحابها، كان من الواضح أنها من التراث الكردي بالنسبة لي، ولكن لم يكن من الواضح أن الكلمات العربية مأخوذة من أغنية إبراهيم كيفو المغني الأرمني!

غالباً ما يُدرج التراث والفلكلور ضمن الملكيات العامة، والتي تعود ملكيتها للدولة، ويختلف قانون حفظ الملكية حولها من بلد لبلد، ففي بعض البلدان لا يسمح باستخدامها خارج حدود البلد دون موافقة الدولة/ النظام مثلاً، ولكن، كيف يحافظ الذين لا دولة لهم (أو المُنتهَكين من قبل الأنظمة) على تراثهم؟ لعله من الطبيعي حينذاك أن تكون حساسيتهم أعلى تجاه محاولات الاقتراب منه وإن كانت بنوايا حسنة.. ربما! أما بالنسبة للتعدي على الملكية الفكرية الشخصية لمنتج مكتوب أو مسموع فهي محاولة استحواذ، عَلِم من قام بالفعل ذلك أم لم يعلم، ولعل التراضي بين الأطراف أو القانون هما اللذان يحكمان في هذه القضايا.

(توارد خواطر، أو توارد مصائر) ما الذي يمكن لهذه المقدمة أن توحي به؟

قد يكون الحلم/ الخاطرة، والمآل/ المصير، في لعبة الحياة القصيرة هاجسين متعاكسين بالشحنة والاتجاه؛ بينهما حيز ضيق للتفاهم بين الخصوصية والرحابة في الخيال والعمومية والصرامة في تشابه النهايات؛ نوّاس يتراوح بين الجنوح للتفرّد وبين الحاجة للانصهار في المجموع كمكوّن منسجم غير منبوذ. عن لحظة استقرار هذا النوّاس والتصالح بين الحلم والمآل جاء في غير محل: "فالحالمون يقدّسون الأمس، أو يرشُون بوّابَ الغد الذهبي... لا غد لي ولا أمس؛ الهنيهة ساحتي البيضاء".

يستهل الشاعر الكبير محمود درويش ديوانه (لا تعتذر عما فعلت) بالآتي:

توارد خواطر، أو توارد مصائر:

لا أنت أنت

ولا الديار ديار

(أبو تمام)

والآن، لا أنا أنا

ولا البيت بيتي

(لوركا)

لعلّ عوامل عديدة دفعت بشاعرنا بعيداً عن صياغة قرار الاتهام بعملية السرقة الموصوفة. وقد اتُّهم هو كما اتُّهم من قبله أبو تمام بالسرقة، وغيرهم كثيرون. لكني أقرأ في التوارد الذي وضعه بين كفتَي (أو) تلميحاً للأبعد، وهو حالة السكينة بين الخيال والواقع، فإذا كان مصيره كما مصير غيره من الشعراء، ومنهم لوركا وأبو تمام، محكوماً بهذه الغربة الذاتية والمكانية، فعلامَ يجزع؟ لذلك لا يعبأ بأهوال المآل النهائي وهو الموت، ويقول درويش في آخر القصيدة نفسها:

"هل هذا هو؟" اختلف الشهود:

لعله، وكأنه. فسألت: "من هو؟"

لم يجيبوني، همست لآخري: "أهو

الذي قد كان أنت... أنا؟" فغض

الطرف. والتفتوا لأمي لتشهد

أنني هو... فاستعدت للغناء على

طريقتها: أنا الأم التي ولدته،

لكن الرياح هي التي ربته

قلت لآخري: "لا تعتذر إلا لأمك"!

الشاعر الذي يبدأ قصيدته بذات مفضوحة مباحة "ها هي ذكرياتك كلها مرئية..." يدافع عن خصوصيته بالأم، الأم بمعناها العام: الوالدة، الأرض، الحبيبة، الوطن، الهوية...

يتشابه الموروث الشعبي في سهل وجبل حوران وهضبة الجولان، على سبيل المثال، من جنوبي دمشق إلى شمالي الأردن ولكن الشعور بالملكية الذاتية المباشرة لكل هذا الموروث لا يكاد يبارح أيّاً من أبناء المنطقة على اختلاف مشاربهم

ربما لم أكن لأقرأ كل ذلك على هذا النحو لو لم نجرب التهجير وغربة اللجوء، وما يورثه من هشاشة وانخفاض عتبة الحساسية تجاه أقوال وأفعال الآخر قريباً كان أم بعيداً. هذا الإحساس بأنك منهوب، ليس من أشياء مادية خاصة بل معنوية ترمّم هويّتك الموشكة على الانهيار أمام جملة من التحديات لا يمكنك أحياناً فهمها إلا كمؤامرات محاكة بإتقان لإسقاطك في الهاوية وطمر حتى صدى صراخك الأخير.

يتشابه الموروث الشعبي في سهل وجبل حوران وهضبة الجولان، على سبيل المثال، من جنوبي دمشق إلى شمالي الأردن، لكن الشعور بالملكية الذاتية المباشرة لكل هذا الموروث لا يكاد يبارح أيّاً من أبناء المنطقة على اختلاف مشاربهم؛ مثلاً تتشابه الأغاني إلى درجة التطابق أحياناً بين درعا والسويداء، والكل يشعر بأنه المالك الحصري لهذا الموروث وأنه منهوب في الوقت ذاته، وبما يخلّفه ذلك من شعور بالغبن يخلّف أيضاً إحساساً بانتماء ما أكثر عمقاً على الرغم مما تهتك حبله الانتماءات الدينية والمذهبية. لكن ذلك ما كان ليكون لو أن البنية المجتمعية أكثر تماسكاً بمعنى نضج الهوية الوطنية وسموها فوق الاعتبارات الأخرى.

تدخل في هذا الباب وبشكل أوضح وأعمق الهوية الكردية بما عانته من تهميش ونبذ على زمن حكم البعث، الأمر الذي ينبغي العمل الآن على ترميمه في سياق بناء الهوية الوطنية، لذلك ليس من الغريب أن يحس أبناء الهوية المطموسة بمحاولة الامتصاص السلبي لثقافتهم عند أي محاولة اقتراب غير منتبهة لهذه الحساسية، وخصوصاً حين يشارك فيها اشخاص من غير الثقات من قبل أهل الثقافة المقصودة.

أذكر حين سمعت أغنية (هيّمتني) لغالية بنعلي مع Bert Cornelis وأحببتها منهما كما لم أحبها من أحد قبلهما، لم أنتبه وقتها إذا كانت غالية كتبت في ملحق الفيديو شيئاً عن أصل الكلمات أو الأغنية، وينطبق ذلك على أغنية (لأكتب ورق وأرسلك) في شارة مسلسل تلفزيوني. لكن هذا لا ينطبق على كل شيء لأن هناك تراث منقول شفاهياً أكثر مما هو مدوّن توثيقاً، وهذا قد يؤدي مع الزمن لتغير هويته، ونحن ننتبه إلى كم الخلط والتعدي الكبير بين الأغاني العربية والتركية والكردية التي أتاحت لنا تجربة اللجوء التعرّف إلى كثير من الألحان المتطابقة فيها وبلغات عديدة. لا يمكننا أن نسمي هذا بغير (السرقة)، لدرجة أن هويتها الأصلية تضيع في النهاية، ويجب على الأقل تفهم حساسية الثقافات المحجوبة لهذه التخوفات.

بعد كل ما قيل لا أرى الدخول من جديد في تفاصيل القضية الأخيرة عن أغنية كفوكيم ذا جدوى، ولكن المجدي أن الأسماء التي يجب أن تُعرف قد عُرِفت، وبالنسبة لي فقد سمعت مزيدا من أغاني حسن الجزراوي ومحمد عارف وإبراهيم كيفو، وسمعت الأغنية الأصلية بأكثر من صوت وربما من عدة مغنين مختلفي الجنسيات وقرأت عدة قصص عنها.

 

محمدعارف
محمد عارف

 

في النهاية سأقف عند الريح (بما تحمله من دلالة إلى الشعر  والغناء، والضياع أيضاً) في حديث محمود درويش عن ذاته المفضوحة المباحة: "لكن الرياح هي التي ربته"، وقوله في قصيدته المهداة إلى سليم بركات مشيراً إلى الذات المباحة أيضاً:

 "ليس للكردي إلا الريح تسكنه ويسكنها،

تدمنه ويدمنها، لينجو من

صفات الأرض والأشياء..."