عندما ينتصر الإنساني فيما يفشل السياسي

2023.02.24 | 05:44 دمشق

عندما ينتصر الإنساني فيما يفشل السياسي
+A
حجم الخط
-A

وانتهى الزلزال، أو فلنقل إن الأرض استقرت وهدأت وعادت كما كانت. فهل نعود بحياتنا كما كنا بأحاديثنا وترهاتنا وجدالاتنا العقيمة مع قليل من الأيتام ونقص في عدد من يشاركنا الحياة؟ أجزم بنعم خصوصا وأن الحياة نهر وسيل جارف يأخذ بطريقه الجميع شاؤوا أم أبوا، ولا بأس أن نرتق بعض جراحنا، ثم ماذا؟ بعد شهر أو اثنين وسنجد عائلات الضحايا تتسول المساعدة بعد تأمين الخيمة وفقد المعيل، والسؤال الأهم ما الدروس التي يمكن تعلمها من هذه الهزات التي هزت ضمائر الكثير وليتها ترج عقولهم ليجترحوا جديدا غير طارئ ولا عاجل، ناجعا أو يتوسم درب النجاعة والجدوى في خضم هذه الفوضى في كل شيء.

كتب صحفي سوري عن فزعة العشائر بالجزيرة السورية لمنكوبي الزلزال في شمال سوريا، ما معناه أن العشائر التي لم يقحم نفسه في نقدها لاعتبارات تخصه؛ استطاعت أن تنجد المتضررين بما تستطيع وملأت قافلة قاطرات في حين لو تنطعت لها أحزابنا السياسية العتيدة لم تستطع أن تملأ حمل سوزوكي أو سيارة صغيرة، أو "تريزينة" كما يسمونها أهل الرقة ودير الزور، ولعلي أنطلق من مخالفته لوجوب تعرية أي جهد سلبي للعشائر وتفكيك منظومتها العصبوية من جهة، مع ضرورة عدم إنكار دورها كأحد أطر التعبئة الاجتماعية، والتي قد يكون فيها الخير عبر جملة من القيم التي تنتخي بها العرب، وتهز وجدانها فتهرع لنجدة المستغيث، ولعل ما فعلته في جمع المساعدات الأهلية من بيوتاتها يمثل شكلا لم يعرفه الآخرون في تنوع جهد العشائر من فزعة الدم إلى فزعة الحياة،  وما رأيناه من صور أطفال يحملون الفرش واللحف لأجل إيصالها لسيارات تجمعت لنجدة المنكوبين، كما اشتركت النساء اللواتي ادخرن فرشهن ليوم نائبة أو فرح فتبرعن بما يملكنه؛ وهنا يظهر جهد مدني أهلي وقد أجد حرجا في تسمية حالات التآزر تلك والشبكات الأهلية بمنظمات مجتمع مدني أو مؤسسات أهلية، لعطب أصاب ذاكرتنا الحديثة من مشكلة المؤسسات بعد اتخاذها شكلا سياسيا، وتنافسها والدخول في شبهى التمويل والتأويل والتدويل.

التآزر الاجتماعي يمكن أن يتخذ بعدا سياسيا أو تتم بلورة جهد سياسي بناء عليه ليعلو مفهوم دولة التكافل الاجتماعي والعدالة الاجتماعية

كما أني أثني على ماقاله عن عجز الأحزاب السياسية عن تعبئة سوزوكي صغيرة، ولعلنا عبر التحرش بجهد كلا الجهتين نصل لما يفيد في بعض جوانبه، إذ أن الثورة السورية وما حفلت به من تحولات أثبت أن الجماعات الأهلية، والمجتمع المدني غير المؤسس أوروبياً كمنظمات ال "إن جي أو" كان الأقدر،  أو على الأقل كان الأسرع في الاستجابة للحدث، ما يحيلنا إلى ضرورة إدراك أن في الشعور الإنساني البسيط ما يجمع ويؤسس؛ فيما لو غابت عنه السياسة والمصلحة ولو في جهده الإنساني الإسعافي الطارئ في أدنى احتمال، نعم الإنساني الخالي من الاستعراض ولا الباحث عن شهرة أو إعلام هو ما يمكن التعويل عليه، ولعلنا نستطيع من خلاله استنباط كثير من الرؤى السياسية إذ لابد للإنسان أن يسوس أمر حياته مع محيطه وفق برامج عمل وتنظيم جماعي، فنجد أن التآزر الاجتماعي يمكن أن يتخذ بعدا سياسيا أو تتم بلورة جهد سياسي بناء عليه ليعلو مفهوم دولة التكافل الاجتماعي والعدالة الاجتماعية بدلا من الديموقراطية التي صدعت رؤوسنا بها عبر تلك التسميات الطويلة لأحزابنا على رقعة العالم العربي وحتى في أصغر بقعة من سوريا في شمالها لدى أحزاب البعث الكردي أيضا، والتي تختتم غالبا بكلمة الديموقراطية في مسماها، كما تقوم عائلات قيادات أغلب الأحزاب بتوريثها من أقصى يسارنا إلى وسط بعثنا العربي الكبير والكردي الصغير، والمضحك في الأمر أنها كلها كتبت ضد التوريث وحفلت أدبياتها بالندية  للإسلام ونظام الخلافة الإسلامية تحت مبدأ معاداة التوريث وحبا بالديموقراطية.

القبعات البيض التي قدمت شهداء وأعطت دروسا للأمم المتحدة المثقوبة وبنت رصيدها بالدم لتعطي العالم دروسا في التضحية والشرف المهني

الديموقراطية التي نظّر لها غربنا ودافع عنها وحارب واحتل تحت شعارها وفيض سعارها الحميم، وجعلت أميركا تجتاز بحار العالم لتغزو أفغانستان لفرضها فانهزمت، ثم دمرت العراق لفرضها فسلمته لإيران وانهزمت أيضا، المؤسف والمثير للتساؤل لماذا هذا الحضور المثير للديموقراطية في مسميات أحزاب لا تعرفها؟، وغياب فكرة العدالة الاجتماعية مع حزمة الحقوق الأساسية للمجتمع من تداول سلمي للسلطة وحيادية الدولة وانفصال السلطات؟ وإنا إذ نحاول أن نقرأ السياسة ورجالها وبرامجها وخنادقها وفنادقها، لا بد وأن نعرج على تلك الجهود التي تم الاشتغال عليها في منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الأهلية خارج منظمة القبعات البيض التي قدمت شهداء وأعطت دروسا للأمم المتحدة المثقوبة وبنت رصيدها بالدم لتعطي العالم دروسا في التضحية والشرف المهني.

وتعريجاً على منظمات المجتمع المدني المتبناة أوروبيا التي استهلكت شبابنا وشاباتنا في التخطيط والتنظيم والتوعية والتوجيه، فصاروا أساتذة وخبراء لكن بلا مدارس ولا صفوف ولا طاقات ولا ساحات عمل حقيقية، فباتوا أشبه بمؤسسات أوروبا التي تغط في البيروقراطية، ولعل تأخرها في الاستجابة لم يكن سوى صورة عن فقدانها روح المبادرة التي لم يتعلمها أحد انطلاقا من البرامج الأوروبية التي تحول الفرد إلى روبوت، ناهيك عن فقدان طاقة التمويل وطرح البرامج وتنفيذها دون موافقة ودراسة، فخرجنا بعد سنين عجاف ومال كثير وبرامج تأهيلية بنسق مترهل من الدارسين للحوكمة والعدالة الانتقالية والدعم النفسي نتفرج وننتظر، كمن ينتظر غضبة هيئة الأمم فيفاجأ بالتعبير عن القلق، لابد من وقفة يقفها الجميع قدام الله وقدام أنفسهم وقدام الضحايا من جرحوا ومن قضوا تحت الأنقاض والبحث عما يمكن أن نستفيد منه مما مضى.

نحن أمة قتلها قلق الأمم وتعويلها عليه كثيرا، وبات علينا أن نقلق على أنفسنا وأجيالنا بطريقة لا تعتمد إلا على طاقاتنا نحن ولنبحث بين جنباتنا عن جيل ينهض ليبني وطنا من تحت الركام.