عندما شرع "الأسد" أبواب سوريا "للمجاهدين"

2022.06.06 | 07:01 دمشق

dash-alraq.jpg
+A
حجم الخط
-A

في شتاء العام 2005 كنتُ في الصف الحادي عشر الثانوي، أقيم بقريتي الصغيرة بمنطقة رأس العين التابعة لمحافظة الحسكة السورية، حينئذ شاهدتُ أولَ فيديوهات قطع الرؤوس على قرص رقمي، كانت أولى الدعايات ربما التي يمارسها نظام بشار الأسد لصالح من سيصبحون أنصاره بعد بضع سنوات على الثائرين ضده في عموم الجغرافيا السورية.

ربّما الكثير من القراء لم يشاهدوا هذه الفيديوهات الفظيعة، إلا بعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" وسيطرته على مساحات كبيرة في العراق وسوريا.

أحد شبان القرية المترع بحب الرئيس العراقي السابق صدام حسين مثله مثل المئات من السوريين الذين انخرطوا بالحرب بتسهيلات أمنية من النظام السوري، كان قد حصل على القرص المشؤوم من محل للصوتيات يبيع الأقراص الرقمية، التي يحمل عليها الأغاني والأفلام المصرية والمسرحيات، وبشكل طبيعي يرافق ذلك أن تبيع محال الصوتيات أشرطة من نوع آخر هي فيديوهات "التنظيمات الجهادية" على أنها "للمقاومة العراقية" ضد قوات الاحتلال الأميركي، وقتئذ كان النظام يدس السم بالعسل لما يفترض أنه شعبه.

كان هناك محلان في رأس العين في الشارع الرئيسي الوحيد بالمدينة، وأذكرهما بالتحديد لأن الشاب الذي جاء بالقرص الرقمي، زعم انه حصل على القرص من أحدهما دون أي يحدد أيهما بالضبط.

الغريب أنَّ المحلين يبعدان مسافة أقل من 100 متر عن فرع حزب البعث الحاكم في سوريا وفرع الأمن السياسي، الذي يعرف الصغيرة والكبيرة، ومن غير الطبيعي أن يكون بيع مثل تلك الأشرطة المصورة - التي تبث فظائع المذابح الطائفية في العراق التي يذبح فيها مقاتلو التنظيمات الجهادية في العراق، مواطنين عراقيين بحجة التعامل مع القوات الأميركية - مستمراً دون مراقبة و"رعاية حكيمة".

كان النظام السوري يريد أن يتوقف الغزو الأميركي بالعراق خشية أن يتحوَّل إلى نهج يسقط حكمه من خلاله

وقتذاك، كان النظام السوري يريد لمنطقة شمال شرقي سوريا، ذات التركيبة العشائرية في أغلبها والمعروفة بحبها لنظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، أن تتحول شيئاً فشيئاً إلى داعمة له في حربه بالعراق، وأداته الوحيدة بالحرب كانت الجهاديين الذين يعبرون المنطقة إلى العراق، حتى إن رئيس الوزراء العراقي آنذاك نوري المالكي وجه اتهامات للنظام السوري حينئذ بدعم الإرهاب في بلاده، وكان النظام السوري يريد أن يتوقف الغزو الأميركي بالعراق خشية أن يتحوَّل إلى نهج يسقط حكمه من خلاله.

وبحكم أن هذه المنطقة في أغلبها ذات مرجعية "صوفية" وينتمي أفرادها إلى الطرق الصوفية، لا بد للنظام من التعويل على الوازع القومي المهزوم، بطريقة مبتكرة اعتمدت على تغذية التطرف عبر تسهيل تداول فيديوهات الذبح الجهادية، التي سوف تجد جمهورها متجاوزة الجدار الصوفي الذي سيضعف تلقائياً أمام "علو الكعب القومي" في المنطقة على أي رابطة أخرى، متأثرا بالهزيمة المدوية لأكثر الأنظمة العربية شعبية بين أبناء المنطقة.

ولم يكتفِ النظام السوري بذلك، بل استغلَّ وشجَّع المطربين الشعبيين لزيادة حظوة الجهاديين وربطهم بـ "أسد العرب" عبر الأغاني التي كان يرددها المطربون الشعبيون على أنغام الموسيقا ووقع الدبكة الصاخب بالأعراس الشعبية، التي كانت عامرة بعد كل موسم حصاد للقمح.

اجتمعنا في منزل قريب لي، بعد أن استعَرنا مشغل الأقراص الرقمية الوحيد بالقرية، كان اشتراه أحد الشبان لمشاهد فيديوهات الأعراس الشعبية بعد انتشار ظاهرة تصوير الأعراس بالريف بالفترة ذاتها، وعلى شاشة تلفزيون "سوني ريكس" من إنتاج سوري 20 بوصة، شاهدنا المذبحة مستغربين ومستنكرين في داخلنا لما يجري، دون أن يجرؤ أي من الحضور على إدانة ذلك، باعتبار أنّ المذبوحين خونة خانوا العراق الذي نحبه ونحفظ أغاني مطربيه عن ظهر قلب، بالإضافة إلى أنَّ أهلنا كانوا يعشقون رئيسه "صدام" الذي كثيراً ما أتحفنا بكاريزمته ولباسه المشابه للباس أهلنا (عقال وغترة ودشداشة وعباية).

كان الرئيس صدام يدبك الجوبي، ويطلق النار من باردة (برنو) وهي متوافرة عند كل عائلة من عوائلنا التي تحرص على الاحتفاظ بها تحت "النضيدة" (عفش العائلة من "دوشك ولحف ومخدات").

أذكر أنّ الفيديو افتتح بالفعل بمشاهد لعربات همر عسكرية أميركية، وهي تتطاير من جراء انفجار عبوات ناسفة زرعها "المجاهدون" في الطرقات.

كان منظراً يثلج النفس وقتئذ، خاصة أننا لم نكن نعرف عن القرص سوى احتوائِه عمليات "للمقاومة العراقية" ضدَّ القوات الأميركية.

لكن، وبعد بضع دقائق فقط من الحماسة نتفاجأ بشاب يتحدث العربية الفصحى ويغطي رأسه بقناع يتوسط الشاشة، وأمامه رجل أربعيني، ثمَّ يوجه المقنع للرجل الذي يبدو مستسلماً لمصيره تهمة التعامل مع الأميركيين، ويقوم بذبحه بدمٍ بارد مع صيحات التكبير المرافقة!

ما زلتُ أتذكر أني بعد انتهاء السهرة ركضتُ فزِعاً دون النظر خلفي من الرعب الذي تركته المَشاهدُ بنفسي، وغطيت نفسي باللحاف حتى طمرت رأسي وأغلقتُ عينيَّ بقبضتي كرضيع خائف؛ لعلي أنجح بالنوم مباشرة وهو ما لم يحدث بالطبع.

في تلك الفترة، كان النظام يستغل فاجعة الهزيمة بالعراق، لا لحشد السوريين وطنياً ضده، بل لجعل سوريا كلها مشاعا أمام الفيديوهات الطائفية وسمح بنشاط ديني دعوي جهادي، لعل أبرز صوره هي ظاهرة أبو القعقاع السوري، (محمود قول أغاسي) الذي حول مسجد العلاء الحضرمي في حي الصاخور بحلب إلى مركز للتدريب بجو من الخطب النارية التي تدعو للجهاد بفلسطين وفيما بعد العراق بعد الغزو الأميركي ما زاد من أتباعها، كما كشف تحقيق لقناة الجزيرة عرض في برنامج الصندوق الأسود.

وعبر مؤسسة أطلق عليه "غرباء الشام" وزع "أبو القعقاع" مئات الأشرطة الصوتية لخطب جهادية، وأصبح لديه آلاف الأتباع في سوريا، الذين أظهر التحقيق انخراط بعضهم بفصائل المعارضة السورية.

فخلال الحرب على العراق، كان يستقطب "أبو القعقاع" المجاهدين للقتال في العراق، وهذا ظهر في اعترافات مصورة نشرتها القوات المسلحة العراقية.

كان نظام بشار الأسد وقتذاك يخشى من تكرار الولايات المتحدة تجربتها في العراق بسوريا وإسقاطه، مثلما حصل مع البعث العراقي ونظام صدام، خاصة بعد إخراج الجيش السوري من لبنان، ولأجل ذلك اتخذ قراراً بمواجهة الأميركيين في العراق بواسطة الجهاديين، ثم وبعد امتلاك هذه الورقة عرض خدماته على الأميركيين واعتقل مئات العائدين من العراق بما فيهم غير المنخرطين بالتنظيمات الجهادية إلى سوريا، كعربون ولاء للولايات المتحدة الأميركية على دوره الجديد بالمنطقة، وفي سبيل امتلاك الورقة قام بصنعها.

كان نظام الأسد يدرك أن هذه الكتائب التي احتفظ برموزها بسجونه لسنوات، ستعمل لصالحه عبر تقليص فعالية الحراك الثوري المدني واستحضار الخطاب الإسلامي الذي راهن على أنه لن يقبل من الأطراف الدولية

فيما بعد ومع اندلاع الثورة السورية ضد النظام بشهر آذار 2011، أطلق النظام عشرات الجهاديين الذين كان اعتقلهم خلال فترة المصالحة ومد يد الود إلى الولايات المتحدة ليتدخلوا في الصراع بين الثورة ونظام الأسد لصالحه، عبر تأسيس عشرات الكتائب الإسلامية التي أصبحت سلطتها موازية لسلطة الجيش السوري الحر في المناطق التي حررها من النظام على امتداد الجغرافيا السورية، وحتى قبل دخول جبهة النصرة وتنظيم "داعش" على الخط، كان نظام الأسد يدرك أن هذه الكتائب التي احتفظ برموزها بسجونه لسنوات، ستعمل لصالحه عبر تقليص فعالية الحراك الثوري المدني واستحضار الخطاب الإسلامي الذي راهن على أنه لن يقبل من الأطراف الدولية، أياً كان معتدلاً أو متطرفاً.

حتى إن انخراط بعض هذه الفصائل في القتال ضد "داعش" ببعض المناطق السورية لم يشفع لها ولم تقبل كشريك لا في قتال "داعش" من قبل التحالف الدولي ولا الأسد بطبيعة الحال.

فيما بعد دعم نظام الأسد تنظيم "داعش" في بعض المعارك بشكل مباشر، لا عبر أشخاص مثل (أبو القعقاع) لا يعرف بالضبط حجم انخراطهم بالتنظيم، إلا أن واحدا من هؤلاء على الأقل ظهر بلا قصد بإعلام النظام ذاته، حين بث تلفزيونه الرسمي مشاهد مصورة لما زعم أنها "المصالحات في دير الزور العام الجاري، وظهر بشكل مباشر وعلى الهواء قياديٌّ في التنظيم قال إنه كان يعمل في "ديوان الحسبة" التابعة لـ "داعش" وقد انخرط بـ "المصالحة" داعيا الآخرين للعودة إلى "حضن الوطن".

وكان الدعم العسكري للتنظيم ضد فصائل الجيش السوري الحر، أحد ركائز الخطة الاستراتيجية للأسد، الذي شاركت طائراته بقصف بعض مواقع (الحر) في دير الزور، إبان هجوم "داعش" على المناطق المحررة في العام 2014، فقصة النظام مع "داعش" وأخواتها بدأت بالأقراص المصورة وبالتأكيد لم تنته بعد.