icon
التغطية الحية

عندما تنساب الأيديولوجيا بين ثنايا السرد و(البوكر).. عن رواية "تغريبة القافر"

2023.06.17 | 07:34 دمشق

قافر
+A
حجم الخط
-A

تدور أحداث رواية "تغريبة القافر" الحاصلة على الجائزة العالمية للرواية العربية 2023 (بوكر) في قرية المسفاة العُمانية، أبطالها من المهمشين. يروي تفاصيلها الراوي العليم، وتعنى بالأسطورة الشعبية وتفاصيل الطبيعة، كما تحتوي على حبكات جانبية كثيرة.

الرواية تسحرك بجمال السرد، وروعة الوصف. إلا أن بعض الرسائل المَشُوبَة بالأدلجة والتَسْيِيس يعكران صفو الجمال فيها.

المتن الحكائي وخصوصية اللغة

تبدأ الرواية بمشهد جماعي: "غريقة.. غريقة. ارتفع صوت الطارش في بلدة المسفاة وهو يطرق الأبواب ويصيح بالناس: غريقة.. غريقة.. حد غرقان في طوي لخطم".

ليتبين أن الغريقة امرأة حامل بدأت تنجذب للماء بطريقة غريبة. يستخرج الطفل من رحم الأم المتوفاة ويسمى سالم، ينبذه أهل القرية لاعتقادهم أنه ملبوس بالجان، لكنهم يعترفون بقدرته على سماع خرير الماء في باطن الأرض بعد أن يدلهم عليه في سنوات الجفاف، ويطلقون عليه "القافر"، ثم يعتزل هذه المهنة بعد انهدام أحد الأفلاج على والده مما يتسبب بوفاته بعد ليلة واحدة من زواجه.

تنتهي الرواية بمشهد فردي لسالم وهو يصارع الموت بعد انهدام الفلج عليه، فيتعايش مع الحياة في سرداب تحت الأرض، ليضمد جراحة ويتغذى على الحشرات والاسماك، ويخرج أخيرا بمعجزة تتوازى مع معجزة خروجه الأول من رحم والدته الغريقة.

"تتالت الضربات، وتحول جسده كله إلى يدين لا همّ لها إلا ضرب ذلك الجبل الجاثم أمامه كأنه يضرب كل ما عاشه مُذْ كان طفلًا، يهوي بالمطرقة على سجنه، على غيابه، لم يكن يعلم أن جسد الصخرة يتداعى أمامه، كان غائبا في غضبه، متحدا مع مطرقته في هدم كل الجدران التي واجهته، تداعت الصخرة أمامه، وانفتح الخاتم على النفق الطويل، فانطلق الماء بقوة وجرف معه كل شيء".

رمزية الماء يزيدها السيل وضوحا وافتضاحا، فالسيل الجارف رمزية على التوق للتغيير السريع، وكأن الرواية تريد أن تقول لنا إن التغيير المفاجئ (بما في ذلك الثورات) مثل السيل له تأثيرات مدمرة!

 وما بين مشهد البداية الملحمي ومشهد النهاية الفردي تحاول الرواية تسليط الضوء على الأساطير الشعبية المنتقلة مشافهة لترصد تفاصيل الحياة البسيطة للمهمشين في القرى البعيدة، وذلك بلغة شاعرية أنشأت قاموسها الخاص من التشبيهات الفريدة والمستنبطة من الطبيعة والماء، فمثلا عندما يصف الراوي حَبّ سالم لخطيبته يقول: "كما ينفجر الماء من قلب الحجر، ويسري الينبوع منحدرا برقته على الأرض العطشى، وكما كان القافر يطرب لخرير الماء في الأعماق، ناداه الحب. رآه في ابتسامتها عندما كانت تقف أمام داره...".

تترافق هذه اللغة مع الدارِجة العمانية في الحوارات، وبعض مفردات هذه اللهجة غير مفهومة، وغير مشروحة في أسفل الصفحة، لكننا بالعموم نستطيع أن نستشف المعنى من خلال السياق العام في أغلب الأحيان.

الرمزية بطعم الأيديولوجيا

يغلف الترميز في الرواية بمحسنات بديعية لا تنجح بتورية المعنى، فرائحة النفط تفوح من خلف الأغلفة المزركشة لتقول إن الروائي يتحدث عن النفط وليس عن الماء، فقلّة الماء (النفط) تسبب الفقر والجوع، وأيضا كثرته تسبب الفساد والموت والطغيان وعمى البصر والبصيرة، فالقرى (دول الخليج) قبل اكتشاف الماء (النفط) كانت بسيطة والناس كانوا أنقياء، وبعد استخراج المياه (النفط) جرت الثروة بين أيديهم وتغير كل شيء:

 "عاش الناس حياة رخاء وسال المال بين أيدي الأغنياء، أصحاب البساتين الكثيرة لا سيما الذين توسّعوا في المزارع الجديدة، فتمرغوا في البذخ، وصاروا يشترون أشياء كثيرة لم يعرفوها من قبل ولم يحتاجوا إليها، فتنافسوا في جمع الآلات والأثاث وبنادق الصيد والصيغة من الفضة والذهب، لكيلا يظهروا أمام الناس في حال أقل من الدعة والغبطة والغنى. وطوال تلك السنين ظل عريق بن خميس مجنون القرية يجوب الحارات وهو يردد أن القيامة ستقوم قريبا، وأن ما يفعله الناس علامة على ذلك، ولكن لا أحد كان يبالي به وبما يقول".

 لكن دوام الحال من المحال، فقد نضب الماء (النفط) بعد أن حدثت تغيرات اجتماعية واسعة في بنية المجتمع:

 "جاء الصيف وذهبت مياه الينابيع والوديان، تبخرت ولم يبق منها إلا آثارها، عندئذ شعر الناس بالعطش، فصاروا يشربون بغير انقطاع، فما عادوا يرتوون البتة، حتى الدعة المعهودة في عيونهم اختفت. امتد المحل إلى كل البقاع، لم يبق بلادا ولا قرية قريبة أو بعيدة على حالها، وبدأت الحياة تنحسر وتتلاشى، حتى أن الموت تفشى في الأرض فأخذ الأطفال والمواليد والأغنام وصارت الطيور تقع من عليائها ميتة بفعل العطش، ثم انتشرت السرقات وتقاتل أهل القرية على نصيبهم من الماء وما تبقى لهم من زاد شحيح. صار الناس في كل جمعة يخرجون لصلاة الاستسقاء، لعل الله ينظر إلى حالهم ويغفر لهم ما أسرفوا في حقه وحق أنفسهم".

على العموم، وبصرف النظر عن صحة ترميز النفط بالماء، فإن الماء في الرواية هو الثروة مهما كان شكلها ومهما كانت أسبابها سواء أكان الماء أو النفط أو حتى تجارة (الكبتاغون).

رمزية الماء يزيدها السيل وضوحا وافتضاحا، فالسيل الجارف رمزية على التوق للتغيير السريع، وكأن الرواية تريد أن تقول لنا إن التغيير المفاجئ (بما في ذلك الثورات) مثل السيل له تأثيرات مدمرة! وهذه إشارة مضمرة لدولة خليجية محدّدة حظيت بثورة تشريعات وانفتاح غير معهود. ولعل ذلك ساعد الرواية في نيل (البوكر).

الموقف من المدينة والمرأة

للرواية موقف أيديولوجي من المدينة؛ فالشخصيات التي هاجرت من القرية إلى المدينة انتهت بالضياع والمرض والنسيان مثل "إبراهيم بن مهدي" زوج مرضعة سالم، وحتى الهجرة لقرى أخرى أدت إلى المصير ذاته فسالم فقد أباه أثناء اقتفاء أثر الماء في قرية مجاورة، وتاه وسجن في سرداب تحت الأرض عندما حاول العيش والتملك في قرية أخرى.

كما ترسم الرواية صورة مثالية لوفاء المرأة. وفاء غير مبرر بالمنطق الروائي، وكأن الرواية تريد العودة إلى الطبيعة والعلاقات البسيطة، وترفض الحداثة ومنتجاتها.

التناص والنهاية المبتورة

يكثر التناص في الرواية، قد يبدو أحيانا واضحا، وقد يتستر في مواضع أخرى، فمثلا حاسة السمع الشديد للقافر هي تناص مع حاسة الشم الشديد في رواية (العطر) للروائي "باتريك زوسكيند"، ففي كلتا الروايتين تبدأ الأحداث بولادة غرائبية للبطل، وتموت الأم ويؤخذ الوليد لمرضعة ثم تتكشف الأحداث لقدرته العجيبة في الشم في حالة "غرنوي" بطل رواية العطر، وفي السمع في حالة "سالم" بطل رواية تغريبة الغافر.

وكذلك النهاية التي تبدو مبتورة في كلتا الروايتين، فمن الملاحظ أن الفصول الثلاثة الأخيرة من رواية "تغريبة القافر" لا تتضمن إلا حدثا أو حدثين فقط والبقية وصف وحبكات جانبية لا تخدم الحبكة الرئيسية بشي، ونفس الأمر نلاحظه في الفصول الأخيرة من رواية العطر.

أيضا انتظار "نصرا بنت رمضان" لزوجها القافر سالم بعد احتجازه في باطن الأرض وإلحاح أهلها عليها بالزواج ومماطلتها لهم بحجة أنها تريد إكمال غزل صوف أغنامها، يذكرنا بالأساطير اليونانية حيث يذكر أن بينولوبي زوجة أوديسيوس الذي ذهب لمحاربة طروادة وأطال الغياب ونتيجة إلحاح الرجال النبلاء عليها للزواج تحججت أنها ستنسج كفنا لوالد زوجها، وعندما يكتمل الكفن ستتزوج إلا أنها كانت تزيل قسما من حياكتها النهارية في الليل لإطالة مدة الحياكة وبالتالي موعد الزواج.

 حكايات نَيِّئَة وشخصيات تَائِهَة

تتضمن الرواية حكايات قروية كثيرة مثلت حبكات جانبية، أغلبها لم تخدم الحبكة الرئيسية، إضافة إلى أنها بدت وكأنها ثرثرة روائية غير مكتملة، فأغلب هذه القصص لم تنته، مثل قصة "آسيا بنت محمد" التي هجرها زوجها "إبراهيم بن مهدي" ونسيها، وعندما أرسل إليها في مرضه ذهبت إليه، ثم توقف الكاتب عن سرد القصة، فبدت مبتورة بلا نهاية ولا غرض من سردها.

الشخصيات الرئيسية بالرواية على علاقة وثيقة بالماء وهي شخصيات عميقة اشتغل المؤلف على بنيتها النفسية ومعالمها الجسدية، لكن بالمقابل هناك شخصيات هامشية ظهرت فجأة واختفت فجأة دون وجود مبرر لظهورها ودون وجود مبرر لاختفائها مثل الطفلة المشلولة وأمها "السمراء ذات الرأس الكبير".

وبالرغم من كل ذلك، فإن الرواية تستحق اهتمام رواد النقد البيئي وهو النقد الذي يبحث في العلاقة بين الأدب والبيئة، وذلك لاشتغال الروائي على الطبيعة بتفاصيل تشعرك بتناغم السرد مع جمال الطبيعة، وهذا ما سيدفعك، ربما، إلى قراءة ما سيصدر عن الروائي مستقبلاً.