عقدة إدلب بين الدول الضامنة وثمن الاتفاقيات المؤقتة

2020.08.22 | 00:01 دمشق

nqtt-mraqbt-trkyt-ghrb-hmah.jpg
+A
حجم الخط
-A

ليس من المستغرب أن تخفي اللياقة الدبلوماسية بين الدول الضامنة لمسار أستانة تركيا وروسيا وإيران، خلافات كبيرة على الصعيد السياسي والميداني السوري، لتصل تلك الخلافات إلى العقدة الفاصلة التي ستحدد مصير ومستقبل منطقة إدلب المرتبطة بأجزاء من ريف اللاذقية الشمالي وريف حلب الغربي، إذ إن هذه المنطقة تمر منها الطريق الدولية إم4 حلب - اللاذقية، وشكلت اختلافات أجندة الدول الثلاث عقدة كبيرة تبذل تركيا مع الجانب الروسي جهودا دبلوماسية كبيرة من أجل حلها، حيث أن إدلب لم يعد فيها أي متسع للمناورة الميدانية لكلفتها البشرية الكبيرة، وخاصة لجهة المعارضة والدولة الضامنة لها تركيا، وعلى الخلاف من ذلك، تركيا لديها مخططات لتحويل هذه المنطقة إلى منطقة آمنة.

ولم يكن من باب الصدفة أن تعلن روسيا على لسان المتحدثة باسم وزارة خارجيتها ماريا زخاروفا، الأسبوع الماضي، وقف الدوريات المشتركة مع تركيا على الطريق الدولية إم 4، رغم تحقيقها النجاح، فهو استكمال للتناقضات الروسية المستمرة أمام الحليف التركي على الساحة السورية منذ سنوات، واستمرار للتنصل من الاتفاقيات والمعاهدات الموقعة بين الجانبين، رغم تحقيق مطالبها إلا أنها تفضل أن يكون هناك ثمن لكل خطوة جديدة، فتعمل على تأجيل وعرقلة تحويل إدلب لمنطقة آمنة، رغم أن التحضيرات التركية قد اكتملت تقريبا وأعدت خطة لذلك، إلا أن روسيا تحاول ربط كل استحقاقاتها الدولية مع مختلف دول العالم، بمصير محافظة إدلب في تناقض مستمر، يجعل من المدنيين يدفعون دائما ثمن الاتفاقيات المؤقتة في المنطقة، والتي بحاجة إلى تثبيت وترسيخ وثبات في إدلب والمناطق المحيطة بها.

الأجندة الروسية تركز على ما تزعم أنه وحدة سوريا جغرافيا واجتماعيا وسياسيا وأمنيا، دون التمسك برأس النظام بشار الأسد، فيما إيران متمسكة برأس النظام حتى النهاية دون أن تأبه لأي تغيرات جغرافية واجتماعية وديمغرافية، فيما تركيا تظهر كطرف ساع وبشكل جاد لتوفير الأمان والحماية للمدنيين، ومنعا من نزوحهم بل وتؤيد عودتهم، عبر منطقة آمنة واتفاق شامل يوقف إطلاق النار، يحل المشاكل العالقة في إدلب ويؤسس للعملية السياسية، والحشد الأخير في المنطقة بمعظمه يتم عبر ميليشيات مذهبية إرهابية تابعة لإيران، ليبدو التصعيد الأخير أساسه الجانب الإيراني الذي يطالب بدعم من روسيا بالطريق الدولية، حلب- اللاذقية، وتأجيل تطبيق بقية الاتفاقات المتعلقة بوقف إطلاق النار، وعودة المهجرين وفصل المعارضة السورية المعتدلة عن الجماعات الراديكالية.

الاتفاقيات الموقعة في المنطقة جميعها تحمل صفة أنها مؤقتة، وعلى المدى القريب أو المتوسط، وتحمل دائما مضامين يحتاج تطبيقها لفرض هدوء عام في المنطقة، بحيث يتفرغ الجانب التركي لتنفيذ الاتفاقيات المكلف بها دون مخاطر مستمرة بمواصلة عمليات النزوح واستهداف فصائل المعارضة، ما يؤدي لنزيف قوى المنطقة، ويجعل عدم استقرارها سببا في انتقال الشرارة مجددا لبقية المناطق، فالاتفاقيات المؤقتة لن تنتج الاستقرار، كما أن الجانب الروسي لم يلتزم بلجم النظام والميليشيات الإيرانية المذهبية عن وقف تصعيدها بالمنطقة عبر الخروقات المستمرة، وسياسة القضم المتدرجة، فكانت اتفاقيات مؤقتة هشة غير قادرة على العيش والاستمرار ونتائجها لا تفرق أمنا السوريون بحاجة له بعد معاناة من النزوح المتكرر.

ومقابل تلك الاتفاقيات قصيرة الأمد، عملت تركيا على إرساء فكرة تشكيل المنطقة الآمنة أسوة بمناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام، لتكون إدلب أيضا مكانا آمنا للمدنيين والنازحين الذين لم يتبق لهم سوى هذا المكان، بعيدا عن القصف والتدمير والقتل والألم، فطرحت فكرة المنطقة الآمنة وعملت على تشكيلها فعليا عبر الزج بقواتها وآلياتها العسكرية وتعزيز المواقع العسكرية، منعا لأي تقدم جديد للنظام وحلفائه، وعلى العكس من ذلك فإن تركيا ترغب بإعادة النازحين من مناطق حدود اتفاقية سوتشي التي تشمل قرى وبلدات ريف إدلب الجنوبي وريف حماة الشمالي إلى مناطقهم، ضمن اتفاقية نهائية شاملة، وهو ما تمتنع عنه روسيا رغم موافقاتها المبدئية.

الحشد الحاصل حاليا والتصعيد المستمر، مع توقيف الدوريات المشتركة من جانب أحادي، يؤكد حتمية استراتيجية الردع التركي المنفذة خلال الأشهر الأخيرة، حيث تمركزت التموضعات التركية الجديدة في أماكن استراتيجية وتم تعزيز الجبهات وتدريب الفصائل بشكل احترافي، برزت نتائجه بالظهور في استنزاف أي قوى من النظام تحاول التسلل في جبهات جبل الزاوية وريف اللاذقية، فتركيا عبر الاتصالات الجارية حاليا لجأت إلى الدبلوماسية من جهة، وإلى التعزيز الميداني من جهة ثانية، وزادت من تعزيزاته بشكل غير مسبوق، يجعل أي تصعيد أو خرق مجرد مغامرة غير محسوبة، وإن تمكنت تركيا بالفعل من ردع الجانب الروسي إلا أن التصعيد الإعلامي سيستمر متواصلا باتجاه التصعيد بأي وقت، وكان مسلسل إسقاط الطائرات المسيرة المتبادل في الأيام الماضية في إدلب وشرق الفرات بين تركيا وروسيا، مجرد رسائل ودليل على سياسة كسر العظم الممارسة في هذه المنطقة، التي تحتاج لعقلانية ودبلوماسية لحلها، وتشبه لعبة شد الحبل التي ترسم لكل جهة الحدود المسموح بها.

وتشير معطيات عديدة إلى أن النظام وبدعم من الحليفين الروسي والإيراني، يعدان لعملية عسكرية محدودة ربما في جنوب إدلب، لتحقيق مكاسب تقربها من جنوب الطريق الدولية، تتبعها اتفاقية نهائية مع الجانب التركي، وهذه المعطيات تأتي من القرارات الروسية أحادية الجانب، ومن التحذيرات التركية المستمرة، ومن عودة الاتصالات الدبلوماسية بعد غياب لفترة، مقابل تواصل لقاءات الدبلوماسيين الأتراك مع نظرائهم الأميركيين للحديث عن سوريا، فضلا عن توقعات تركية بأن تكون هناك عملية عسكرية محدودة من قبل النظام وحلفائه، أعدت تركيا مع المعارضة لها بشكل كبير رادع، قد يضع أي تقدم لقوات النظام أمام مغامرة غير محسوبة، خاصة أن الحشودات التركية هذه المرة غير مسبوقة، والتموضعات الجديدة تؤكد أنها طويلة الأمد، وربما تلجأ روسيا بهذا التصعيد إلى مواجهات تجبر الطرفين على عقد لقاءات على وقع تلك الخروقات من أجل تحقيق مكاسب أخرى، قبيل التوصل لاتفاق دائم ومستمر في المنطقة، وهو الأسلوب الذي لجأت له في المرات السابقة، حيث اعتادت على عمل تصعيد كبير وقصف مكثف، تتبعه لقاءات متواصلة بين البلدين، ومطالب متعددة، تفضي لاتفاق وقف إطلاق النار مؤقتة.

ومهما تكن التطلعات والطموحات الروسية حاليا، فإن الواقع الميداني تبدل بشكل كبير خلال الأشهر الماضية، ولم يعد بالإمكان التفريط بأي شبر في المنطقة، وهو ما تعيه تركيا وتعيه روسيا بنفس الوقت، بوجود حزم تركي كبير جاد هذه المرة، ولذلك فإن أي مغامرة عسكرية جديدة في المنطقة قد تكون كارثية، وبالطبع لن تصل لحد المواجهة المباشرة بين تركيا وروسيا عسكريا، ولكن قد تكون هناك عواقب وخيمة تلحق بقوات النظام والميليشيات الإيرانية في المنطقة، خاصة إذا ما شملت الخروقات والقصف، استهدافات للقوات التركية المتمركزة بالمنطقة، عندها سنكون أمام واقع جديد ربما نشهد معه عاصفة تركية مدمرة تستهدف قوات النظام، وربما سيفتح ذلك لاتفاق نهائي دائم بالمنطقة يجعل من تنفيذ المنطقة الآمنة أمرا واقعا، وهو ما قد رسم بالفعل ميدانيا، بانتظار التوافق النهائي التركي الروسي.