عدالة انتقائية أم انتقامية؟

2024.02.24 | 17:40 دمشق

آخر تحديث: 24.02.2024 | 17:40 دمشق

عدالة انتقائية أم انتقامية؟
+A
حجم الخط
-A

واحد من أهم مطالب ثورة الكرامة التي نشدها السوريون بداية 2011 هو تحقيق العدالة، عدالة كانت مفقودة في أروقة المحاكم ومستباحة في أقبية المخابرات بعد أن تغول نظام الأسد وأحكم قبضته على الدولة ومؤسساتها بما فيها الهيئات الدستورية والقضائية العليا، وباتت كلها في خدمة الديكتاتور لتعزيز بقائه في السلطة. العدالة التي لا يمكن لها أن تكون دون حياة سياسية ينتج عنها تداول للسلطة عبر عملية انتخابية نزيهة ينتج عنها هيئات تنفيذية منتخبة وأيضا هيئات رقابية ودون هذا المسار ستبقى العدالة لعبة في يد كل سلطة غير منتخبة.

وجود منظمات وهيئات حقوقية سورية في الغرب لأجل الدفاع عن حق السوريين بمحاكمة النظام أمر مطلوب ومفيد على المدى الطويل لأن مسار العدالة يحتاج إلى كثير من الوقت

بعد الثورة ونتيجة لجهود حقوقيين وناشطين سوريين بدعم من بعض الجهات الرسمية وشبه الرسمية في الغرب جرت محاولات كثيرة لأجل وضع مسار لمحاكمة النظام ورجالات حكمه على مجمل الجرائم التي ارتكبت في سوريا، بعد أن قتل النظام أكثر من نصف مليون مدني وهجر قسرياً نصف الشعب السوري تقريباً وتم تدمير حواضر ومدن وأرياف كثيرة على امتداد الجغرافيا السورية، وهناك حتى اليوم آلاف المفقودين ممن لا يعرف مصيرهم، وعشرات الآلاف من المعتقلين، هذه الجرائم كلها ورغم فظاعتها لكنها لم تجد سبيلاً بعد للمحاكم الدولية المعنية بجرائم الحرب، وحتى جرائم استخدام الكيماوي منذ عشر سنوات وحتى اليوم ورغم توفر الأدلة لكن لم يصدر ولا حكم قضائي واحد بحق النظام. وجود منظمات وهيئات حقوقية سورية في الغرب لأجل الدفاع عن حق السوريين بمحاكمة النظام أمر مطلوب ومفيد على المدى الطويل لأن مسار العدالة يحتاج إلى كثير من الوقت، والأهم يحتاج إلى إرادة سياسة لأن الأدلة والإثباتات لا تكفي وحدها لتجريم النظام، وحتى تتوافر الظروف المناسبة من الجيد أن تواصل هذه المنظمات والهيئات جمع الأدلة وطرق الأبواب وتجهيز كل الملفات.

لكن حدث تطور خطير مؤخراً وهو بمنزلة جرس إنذار علينا جميعا التنبه له والعمل على منع حدوث ما هو أسوأ، قبل أسبوع برأت المحكمة العليا الفرنسية مجدي نعمة الشهير بإسلام علوش وهو ضابط منشق عن جيش النظام انشق عنه نهاية 2012 وانضم إلى فصيل جيش الإسلام العامل في الغوطة الشرقية؛ برأته المحكمة من تهمة خطف ناشطين دوما الأربعة وقالت المحكمة إنه لم يتم إثبات مشاركة مجدي نعمة في عمليه الخطف تلك، وأن الحكم غير قابل للطعن، لكنها أبقته محتجزا لديها لتتم محاكمته لاحقاً بتهمة التواطؤ في جرائم حرب وتجنيد الأطفال. التطور الآخر جرى في ألمانيا قبل شهر بعد أن وجه المدعي العام الاتحادي اتهامات لثلاثة سوريين بجرم الانتماء إلى لواء التوحيد في سابقة خطيرة يمكن أن يكون لها تداعيات كارثية. لواء التوحيد واحد من أكبر فصائل المعارضة التي كانت تواجه النظام والميليشيات الطائفية التي جلبتها إيران، وكان اللواء يتلقى الدعم العسكري والمادي من معظم الدول الغربية والعربية التي كانت في مرحلة ما تدعم فصائل الجيش الحر. في ألمانيا قبل عامين حكم على الضابط المنشق أنور رسلان بالسجن المؤبد في قضية شهيرة حاولت خلالها بعض المنظمات والشخصيات السورية إيهام السوريين بأنها خطوة أولى على مسار محاكمة النظام، لكن هذا الادعاء مضلل لأن الحكم على أنور رسلان لم يكن ضمن قضية مفتوحة لمحاكمة رموز النظام كانت مسار منفصل يتعلق بالقضاء الألماني، أي إنها قضية منفصلة تماما وليست كما حاولوا إيهام السوريين بها. وزيادة في تضليل الرأي العام السوري لم تتحدث هذه المنظمات عن ضابط ثالث لم ينشق عن جيش النظام كان بذات القضية مع المنشقين أنور رسلان وإياد غريب لكن هذا الضابط برأته السلطات الفرنسية بحجة عدم اختصاصها وزادت بأن قدمت له الحماية واللجوء!

ما جرى ويجري اليوم مؤداه واحد: تجريم كل فصائل الجيش الحر والضباط المنشقين وحتى الإعلاميين والناشطين ممن كان لهم ارتباط مباشر وغير مباشر مع فصائل الجيش الحر

عندما تعالت الأصوات الرافضة لمحاكمة الضباط المنشقين ولوقف الاحتفالات التي أشاعها بعض الحقوقيين عبر خداع السوريين بأن مسار محاكمة النظام قد بدأت، لم يكترث لها كثيرون واعتبروها نشازاً، الأصوات هذه كانت تدافع عن مسار تجريم قوى الثورة وكل من حمل السلاح قبل أن تتم محاكمة الأسد وضباط جيشه، لأن ما جرى ويجري اليوم مؤداه واحد: تجريم كل فصائل الجيش الحر والضباط المنشقين وحتى الإعلاميين والناشطين ممن كان لهم ارتباط مباشر وغير مباشر مع فصائل الجيش الحر. صحيح أن جهود هذه المنظمات كان لها دور في محاكمة بعض ضباط النظام ومتزعمي ميليشياته في أكثر من دولة أوروبية لكن أن يصل الأمر لاتهام السوريين بالانتماء إلى فصائل الجيش الحر خطير وخطير جداً، والمطلوب اليوم من كل المنظمات والجهات الحقوقية الدفاع عن المتهمين الثلاثة أمام القضاء الألماني بعد اتهامهم بالانتماء إلى لواء التوحيد والعمل أيضا على منع إيقاف أو توجيه تهمة لأي سوري لمجرد انتمائه إلى فصيل عسكري قاتل النظام، أو لأنه انشق عن النظام في مرحلة ما وأراد الانحياز للمدنيين؛ لأن هذا المسار في حال أكمل بهذه الأدوات سنصل معه إلى يوم نحاكم جميعا في دول الشتات بتهمة الثورة.