طروحات العجز اللبناني وسط تبدلات إقليمية متسارعة

2023.01.24 | 06:27 دمشق

واشنطن وباريس.. تقاطع مفقود بالملف اللبناني!
+A
حجم الخط
-A

تدلل المواقف والتطورات الجارية في لبنان، أنّ الاستحقاق الرئاسي وصل إلى واقع مفاده ألا وجود لحل في الأفق القريب نتيجة عدم اهتمام الخارج بالملف اللبناني بالشكل الذي تعود اللبنانيون عليه خلال العقود الماضية، كما أنه ليس هناك من وصي على لبنان مثلما كان يحصل إبّان وجود النظام الأسدي فيه، بحيث كان الجميع يتفقون بسرعة البرق وبلا أي نقاش.

وبخلاف التصريحات والمواقف المعلنة، فإنّ جميع القوى السياسية اللبنانية مقتنعة بأنّ وصول الأزمة السياسية والرئاسية لهذا الواقع من الاستعصاء السياسي، يدفع إلى الاستنجاد بالخارج لحبك التسويات وأخذ الضمانات تمهيداً لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.

ولم يعد من المبالغة القول بأن هذا الدرب الذي كانت تسلكه دائماً المنظومة السياسية الحاكمة، لانتزاع أثمان دولية تضمن مصالحها وبقاءها واستمراريتها في النظام والسلطة والمنافع الكبرى، لكن المشكلة اليوم بأن دول العالم، وخصوصاً الفاعلة منها، وتحديداً أوروبا التي تكتوي بأزمات الغاز والطاقة والأمن الإستراتيجي، غارقة ومنكبة على مخاضها العسير داخلياً وخارجياً، ما يجعل الملف اللبناني في مراتب متأخرة.

وبعيداً عن واقع الانشغال العالمي بأزمات وحروب العالم، إلا أن المؤسسات الدولية تنظر إلى المؤشرات والأرقام اللبنانية بقلق عميق إزاء ما يكتب من تقارير تتحدث عن تزايد متسارع في حالات الهجرة الشرعية والتي وصلت وفقاً لأرقام الأمم المتحدة إلى 430%، إضافة إلى تصاعد رحلات الهجرة غير الشرعية انطلاقاً من سواحل لبنان الشمالية حيث يقطن أفقر سكان لبنان والمنطقة وتحديداً في ظل تزايد الضغوط على اللاجئين السوريين والفلسطينيين.

وهذا الأمر ليست أوروبا قادرة على الجلوس متفرجة أمامه لأن التقارير تتحدث إضافة إلى أنه ومنذ عام 2018 وحتى منتصف 2021، غادر لبنان 215653 لبنانياً معظمهم من أصحاب الكفاءات والشهادات، وهذه الارقام تعني أن لبنان بات يعاني من ما يسمى "هجرة الأدمغة والنخب" ما يؤسس لمرحلة خطيرة على مستويات الإنتاج في المرفقين العام والخاص.

وأمام هذه الاستعصاء الاجتماعي والنقدي يستمد الاستعصاء السياسي قوته من تلك الأزمات ما يترجم فعلياً أن أي حل لبناني بات مقروناً بعاملين اثنين وهما قوة الدفع الخارجية وتلازم تلك القوة مع موافقة حزب الله، وهذان المساران يشكّلان القوة الحقيقية التي من شأنها إنجاز الاستحقاق الرئاسي، ولا بدّ بعدها من أن تتبلور حركتهما بعد انتهاء النقاشات الخارجية والتي تعتمد على مؤشرات واضحة وهي:

  • أن دخول لبنان في الشهرين الماضيين من الفراغ على مستوى رئاسة الجمهورية، وهذا ما ينتجه التقاطع بين الإرادة الخارجية وموقف الحزب إياه على انتخاب رئيس جمهورية. وقد شكّل موقف "نصر الله" الداعي إلى التوافق على الرئيس تسهيلاً للموقف الإيجابي الخارجي، واعتباره أنّ موقف الحزب هو تسهيل لإنجاز الاستحقاق وليس تعطيلاً له. وفي هذه الحال، لن يكون هناك أحد خاسراً في هذا الاستحقاق.
  • الاهتمام الأميركي في الملف اللبناني بات متفاوتاً وهذا التفاوت نتج عنه تفويض فرنسي-قطري لإنتاج حل لبناني مقرون بفعل انتقال السفيرة الأميركية دوروثي شيا إلى منصبها الجديد الذي سيتأخر إلى ما بعد الحل اللبناني بعدما تقرّر انتهاء عملها، منتصف حزيران المقبل، ليكون ما أُنجز خلال عهدها الدبلوماسي ترسيماً بحرياً مع إسرائيل، واتفاقاً رئاسياً منتظراً.

في إطار متصل تبدو العلاقة بين السعودية وإيران ذاهبة نحو انفراج حقيقي ربطاً بتطورات اليمن، وهذه التطورات مبنية على اهتمام الجانبين على إيجاد حلول ولو كانت مرحلية لأزماتها وهذا ما جرى بتمديد ثالث للهدنة برعاية قطرية-عمانية وبتسهيل أميركي، وهذا ما عكسه وزير الخارجية الإيراني أمير حسين عبد اللهيان خلال زيارته الأخيرة للبنان وحديثه عن حلول تلف المنطقة.

لا يمكن فصل قمة أبو ظبي التشاورية السداسية عن تطورات المنطقة المتسارعة، وعلى الرغم من أن معظم المشاركين في القمة على ارتباط وتواصل وتطبيع مع إسرائيل، إلا أن الجانب الأبرز من اللقاء يشير إلى قلق عربي وخليجي تحديداً من أن يُقدم نتنياهو على مغامرة عسكرية ضد إيران في المرحلة المقبلة..

كذلك لا يمكن فصل قمة أبو ظبي التشاورية السداسية عن تطورات المنطقة المتسارعة، وعلى الرّغم من أن معظم المشاركين في القمة على ارتباط وتواصل وتطبيع مع إسرائيل، إلا أن الجانب الأبرز من اللقاء يشير إلى قلق عربي وخليجي تحديداً من أن يُقدم نتنياهو على مغامرة عسكرية ضد إيران في المرحلة المقبلة، مستغلاً عدم  القدرة الإيرانية في احتواء الاحتجاجات الدائرة منذ أشهر.

والتخوّف العربي من هذا الفعل يأتي تزامناً مع تحولات إقليمية جمة، كذلك التخوف من حرب مباغتة من الجانب الإسرائيلي على إيران، لأن الكلفة في منطقة الخليج ستكون أعلى من أي مكان آخر في العالم العربي والشرق الأوسط، وهذا ما كان قد أشار إليه وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم عبر مجموعة تغريدات.

وعليه فإن تلازم المصلحة الإقليمية في المنطقة تقتضي لجم اندفاعة نتنياهو وتهوره في لبنان وسوريا وإيران، لذا يأتي اللقاء الموسع عبر تقنية "أونلاين كونفرنس" التي تجمع الدول الأربعة حول لبنان (الولايات المتحدة وفرنسا وقطر والسعودية) لمناقشة جدول أعمال واحد وهو رئاستا الجمهورية والحكومة في لبنان وفق دفتر شروط أعدته الدوحة وباريس بالشراكة مع واشنطن والرياض.

بالمقابل تسعى مصر لمشاركة الدول الأربعة في اجتماعها المقرر خلال الأيام المقبلة، انطلاقاً من اهتمامها بالملف اللبناني، كذلك هناك نظرة مصرية مشتركة مع القطريين والفرنسيين حول إيجاد اسم للرئاستين تستطيع فرض واقع سياسي جديد يعيد التوازن، ومن هذا المنطلق أعادت مصر التفكير جدياً بمنطق إيصال سليمان فرنجية - نجيب ميقاتي وباتت تميل أكثر إلى جوزيف عون لرئاسة الجمهورية، وشخصية سنية تقنية لرئاسة الحكومة، لذا فإن هذا السياق سيمكّن المصريين من المشاركة في طاولة عنوانها خمسة زائد واحد، أي إيران التي ستعمل باريس والدوحة على التفاهم معها مستقبلاً.

إضافة إلى ذلك يشكل اعتصام نواب المعارضة داخل البرلمان للمطالبة بانتخاب سريع لرئيس للجمهورية عنصراً جديداً ومباغتاً في الحياة السياسية التقليدية، ويقدم صورة واضحة بأن الاعتراض لا يمكن أن يكون في المقاطعة فقط، إنما بالضغط على القوى لتفعيل عمل المؤسسات وإبقائها مفتوحة على الرغم من التعثر القائم سياسياً.

لكن تبرز هنا نقاشات داخلية وخارجية بعيدة عن الصورة الكبيرة، حول مدى فاعلية هذا المجلس النيابي بصيغته الحالية القائمة على عدم الفاعلية وعدم القدرة على إنتاج حل سياسي أو إصلاحي، طالما أن أي طرف غير قادر على تأمين 65 صوتاً لأي مشروع قانون أو انتخاب رئاسي أو تعديل النظام.

طرح إعادة تأسيس التركيبة اللبنانية برمتها من دون مواكبته مع تحالفات سياسية جديدة، يُفرغ أي مشروع من محتواه. والاستنتاج الوحيد هو أننا أمام تهديدات فارغة المحتوى، في ظل هيمنة قوى سياسية تنتظر الوجهة، ولا تُشارك في صناعتها.

ويترافق هذا النقاش مع دعوات سمير جعجع بإعادة النظر في التركيبة اللبنانية إن نجح "حزب الله" في إيصال رئيس للجمهورية". وعدم القبول باستمرار سيطرة الحزب على الدولة، ما يعني تلقائياً البحث عن بدائل لهذا النظام "إعادة النظر بكل تركيبة الدولة" وفك الارتباط مع خيار البيئة الحاضنة للحزب بمعادلة حماية "ظهر المقاومة".

وأخيراً فإن طرح إعادة تأسيس التركيبة اللبنانية برمتها من دون مواكبته مع تحالفات سياسية جديدة، يُفرغ أي مشروع من محتواه. والاستنتاج الوحيد هو أننا أمام تهديدات فارغة المحتوى، في ظل هيمنة قوى سياسية تنتظر الوجهة، ولا تُشارك في صناعتها.