icon
التغطية الحية

طبيبة بريطانية تسرد قصتها مع الحرب السورية

2023.02.02 | 19:15 دمشق

الطبيبة السورية رولا حلام وهي تقوم بواجبها في الشمال السوري
الطبيبة السورية رولا حلام وهي تقوم بواجبها في الشمال السوري
Metro - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

تسرد لنا الطبيبة السورية رولا حلام قصتها مع الحرب في سوريا فتقول: لن أنسى ذلك اليوم الذي عالجت فيه عشرات المصابين بحروق شديدة، ومعظمهم من الأطفال، أجل، لن أنسى مصيبتهم في ذلك اليوم.

كان ذلك في عام 2013، كنت في زيارة لأحد المشافي الميدانية التي ساهمت في تأسيسها بشمال غربي سوريا، عندما سقطت قذيفة حارقة على مدرسة وتسببت بمقتل وإصابة العشرات من الناس، معظمهم من الأطفال.

حملت سيارات الإسعاف يومها قوافل المصابين الذين كانوا يصرخون من شدة الألم إلى المشفى، لدرجة بت معها أحس بأنه لا نهاية لتلك القوافل.

ذكريات عن سوريا

لم يكن المشفى مجهزاً كما يجب لمعالجة جميع المصابين، ولذلك بذلنا أنا وزميلتي الدكتورة "صالحة أحسن" كل ما بوسعنا، حيث قمنا بتخفيف آلام الجرحى وتضميد حروقهم، وإنعاشهم عند الضرورة.

انفرد فريق برنامج بانوراما على محطة بي بي سي بهذا الخبر الذي ظهر في وقت لاحق ضمن فيلم وئائقي يحمل عنوان: إنقاذ أطفال سوريا، بيد أن ذلك اليوم ما يزال يحز في قلبي وعقلي ووجداني.

كان ذلك سبباً من الأسباب التي دفعتني لمزاولة مهنة الطب، بما أن أصولي تعود إلى سوريا، ولكني أقيم حالياً في المملكة المتحدة.

Dr Rola Hallam in front of a hospital sign in Syria

الدكتورة رولا عندما كانت متطوعة ثم مديرة مركز طبي عند سفرها إلى الشمال السوري

أتذكر بأني عندما كنت ألعب بألعابي وأنا صغيرة كنت أصر على إجراء عملية لأنقذ أرواح الدمى.

إن نشأتي في سوريا تذكرني برائحة الياسمين وشرفة جدتي، وسندويشة الفلافل اللذيذة والسير في الشوارع المرصوفة بالحجارة في دمشق القديمة، والجري بكل سعادة في الحقول التي كانت عائلتي تملكها في ريف حمص ، تلك المدينة التي ترعرع فيها أبي، إلى جانب اللعب مع العشرات من أولاد وبنات أعمامي وعماتي.

بقيت طفولتي على تلك الحال حتى بلغت الثانية عشرة من عمري، يومها قررت أسرتي الانتقال إلى المملكة المتحدة في عام 1992 وذلك بهدف تحصيل فرص مهنية وتعليمية أفضل.

كنت بالكاد أتحدث الإنكليزية عندما وصلنا إلى هناك، بعد ذلك ارتأى أساتذتي بأن علاماتي في الشهادة الثانوية لا تكفي لدخول الطب، فنصحوني بدراسة الكيمياء أو علم الأحياء بما أني برعت بكليهما.

ولكن على الرغم من كل ذلك، تمكنت من التخرج في كلية الطب في عام 2003، وبدأت العمل كطبيبة في قسم العناية المشددة بعد فترة قصيرة من تخرجي.

حماسة بقدر الخوف

بعد ذلك، وتحديداً في عام 2011، قامت احتجاجات سلمية في سوريا للمطالبة بالحرية والكرامة، وعندما تحولت تلك الاحتجاجات إلى ثورة شملت عموم البلد، قابلها النظام المتوحش بالرصاص والقنابل، وهكذا بدأت الحرب السورية التي استمرت إلى اليوم.

Dr Rola Hallam headshot

الطبيبة السورية رولا

كان حجم حماستي يماثل حجم ذعري، فقد تحول أبناء بلادي إلى مصدر إلهام بالنسبة لي عندما أخذوا يطالبون بالحرية والكرامة، إلا أني أحسست بالذعر والخوف من الرد الذي سيتعرضون له وما الذي يعنيه ذلك بالنسبة لأسرتي وعائلتي وبلدي سوريا بأكلمها.

وبما أني كنت وقتها طبيبة تتدرب على التخدير في لندن في تلك الأثناء، فقد قمت بالشيء الوحيد الذي اعتقدت أن بوسعي القيام به وهو المشاركة في العمليات الإنسانية.

وإلى جانب عملي بدوام كامل في المشافي العامة ببريطانيا، بدأت العمل كل ليلة وفي كل عطلة أسبوعية على جمع التبرعات، حيث طرقت باب الأصدقاء والزملاء، وأقمت حفلات لذلك الغرض، جمعت من خلالها اللوازم الطبية، وساهمت بإنشاء مشاف وعيادات ميدانية تهتم بمعالجة الجرحى من المدنيين وذلك عبر سكايبي بالتعاون مع كوادر طبيبة سورية تعمل على الأرض.

تحولت عطلاتي إلى مهمات طبية من خلال الجمعية الخيرية التي أُسست لصالح السوريين والتي تعرف باسم يداً بيد من أجل سوريا.

وبما أني كنت متطوعة ثم تحولت إلى مديرة لمركز طبي؛  فقد سافرت إلى الشمال السوري لأقوم بتنفيذ عمليات تقييم الاحتياجات والنوعية والجودة، ولأساهم في تأسيس ستة من المشافي التابعة لجمعيتنا، ولتقديم المساعدة الطبية والإنسانية، إلى جانب العمل السريري.

وبعد حادثة القصف التي وقعت في عام 2013، تحولت رائحة سوريا في مخيلتي من رائحة الياسمين إلى رائحة الأجساد ذات الجلد المتغضن بسبب الحروق.

وعلى الرغم من الفظائع والأهوال التي شهدتها، رأيت الجانب المشرق من الإنسانية، والذي تمثل بالعاملين في المجال الصحي والإغاثي الذين كانوا يخاطرون بحياتهم لينقذوا غيرهم، وما يزال هؤلاء مصدر إلهام بالنسبة لي، بل إنهم زرعوا بداخلي أملاً أكبر من أي أمل عشت عليه في وقت مضى.

Saleyha Ahsan (left) and Dr Rola Hallam with some medical aid

الطبيبتان رولا وصالحة أحسن في أثناء قيامهما بعملهما

 

عوارض الصدمة

لم أدرك على الفور، بل بعد مرور بضع سنين، بأن الصدمة قد تمكنت من كل خلية في جسمي، فشعرت أخيراً بالتعب بعد مرور عشر سنوات من العمل كطبيبة وكعاملة في المجال الإنساني ومؤسسة لمبادرة CanDo الإنسانية التي تعمل على دعم العمل الإنساني بقيادة محلية إلى جانب توجيه عمال الإغاثة والعاملين في المجال الصحي على الجبهات المحلية ضمن المجتمعات التي تضررت بفعل الحرب.

سقطت وقتها في واد مظلم، وشعرت بالريبة تجاه مواصلتي للدفاع عن فكرة عدم قصف المشافي والمدراس، لكني أحسست بالضياع والتشوش وبأني بت حبيسة لمرحلة معينة، لأنه لم يعد بوسعي وقتها تحديد هدفي وتقدير نفسي حق قدرها.

وخلال رحلتي مع التعافي، أدركت بأن عوارض الإرهاق لدي قد تشكلت بفعل جبل كامل مع الأحزان وكسرات القلب التي لم أحاول أن أعالجها، لأني كنت أدفن في داخلي كل تلك المشاعر والأفكار والصور المؤلمة، وأقوم بتشتيت انتباهي وتفكيري إلى أن أصبحت خبيرة في فصل مشاعري عن تأثيرها على جسمي، ولهذا تحولت حالتي إلى صدمة شخصية وجمعية.

ثمة شيء في داخلي يرغب بأن يرسم لكم صورة عن مهاجرة ناجحة وأن يشجع الآخرين من الشباب على فعل ما فعلته، إلا أن ذلك الشيء في داخلي لم يعد يحس بالأمان، بالرغم من أني أحس بجدارتي وأعرف بأني لست بحاجة لإثبات أي شيء لا لنفسي ولا للآخرين.

على الرغم من أني عدت لتملّك زمام نفسي بفضل الله وعونه، فإني ما زلت أحلم بأن استبدل أي إنجاز أحققه أو أي وسام أتقلده ببقاء بلدي سليماً معافى دون أن ينشطر إلى أجزاء ويتقسم إلى ملايين القطع، وبعدم خسارتي لأكثر من 30 فردا من عائلتي الكبيرة، وبعدم رؤيتي للفقر والتشرد وقد تفشيا في البلد، وبعدم تعرض حقول أهلي لقنابل النابالم، وبعدم رؤيتي لكل هذا الأسى والصدمات والرعب في وجوه كثيرين من أبناء بلدي.

أجل، أود أن أستبدل كل ما لا أحققه بعدم مشاهدتي للجانب الأسوأ من البشرية

Doctor Rola Hallam speaking at an event

الطبيبة رولا في أحد خطاباتها أمام الناس

 

الطب والتضحية بالذات

إن مهنة الطب صعبة وشاقة سواء أكنت تمارسها في آبيردين ببريطانيا أو في حلب السورية.

كما أنها مهنة مقدسة ونبيلة لأنها تدفعك لإنقاذ أرواح البشر، ولكن المؤسف في الأمر أنها تطلب منك أن تضحي بصحتك ومالك وسعادتك في معظم الأحيان.

عندما تكون قريباً من وطنك، فإن الإنهاك سيتواصل على الجبهات، وستصاب القوى العاملة بنكبات، وستصبح الرعاية الصحية على شفير الانهيار، إلى أن ندرك بأن صحة مرضانا مرتبطة بشكل جوهري بصحة العاملين في المجال الصحي.

ولهذا السبب أيدت من كل قلبي الإضرابات التي قام بها الممرضون مؤخراً في بريطانيا.

لأن علينا أن نضع كمامة الأوكسجين على وجوهنا قبل غيرنا، لأننا بدونها لن نفيد أي أحد، وهذه ليست أنانية، بل إنها أصدق تعبير عن الحب والتعاطف.

Dr Rola Hallam talking to a crowd of people in London

الدكتورة رولا تؤيد إضرابات الممرضين

مضى عليّ في هذه المهنة 19 عاماً وأنا ممتنة لله كثيراً لأنني بعونه ساهمت في تأسيس ستة مشاف ميدانية من خلال تعاوني مع جمعيات خيرية سورية طوال 12 عاماً، ومن بين تلك المشافي مشفى حصل على تمويل من خلال التبرعات وتمكن من مساعدة أكثر من 4 ملايين إنسان في الداخل السوري، بحسب البيانات التي جمعتها بنفسي.

عملت لفترة طويلة بشكل يومي، صباحاً ومساءً، خلال أيام العطل الأسبوعية والأعياد، لأني كنت أعتقد بأن اهتمامي بنفسي ما هو إلا مظهر من مظاهر الأنانية.

لكني صرت أعرف اليوم بعدما هويت في واد سحيق من عوارض الإرهاق والصدمة ثم خرجت منه بفضل الله بأني كنت مخطئة تماماً، لأنه من الأنانية ألا تعتني بنفسك، لأن عليك أن تولي صحتك النفسية والجسدية الأولوية القصوى، إذ إنك لن تتمكن من معالجة الناس إن أصبت بجرح بالغ، ولن تنقذ أرواح البشر إن كسرت، ولهذا عليك أن تهتم بصحتك: الجسدية والعقلية والروحية والقلبية، لأن تلك الأمور إن بقيت تنبض بالحياة بكل أمان وخير عندها بوسعها أن تساعدك على إنقاذ حياة الناس.

بيد أني حتى اليوم ما زلت لا أحلم فقط وأتمنى، بل مؤمنة تمام الإيمان بالجمال وبقدرتنا على فعل كل ذلك نحن البشر.

المصدر: Metro