صورة المثقف والدراما وخطاب القسم

2021.07.28 | 06:28 دمشق

star-at-assad.gif
+A
حجم الخط
-A

مع بدايات القرن الحالي شهدت الدراما السورية التلفزيونية تطورا ملحوظا وسريعا، وسجلت انتشارا كبيرا كان قادرا على منافسة الدراما المصرية الشهيرة، وطبعا تفوقت كثيرا على الدراما الخليجية محدودة الانتشار، مع هذا التطور في الإنتاج وكتابة السيناريو والإخراج، حقق العديد من الممثلين السوريين نجومية عربية واسعة، جعلتهم مطلوبين من قبل شركات الإنتاج الدرامي العربية، وجعلت بعضهم يضع قدمه في مصر ويؤسس لمكانة فنية وشهرة مضافة للشهرة التي قدمتها له الدراما السورية، ولا ينطبق هذا على الممثلين فقط بل أيضا على بعض المخرجين السوريين، الذين حجزوا أمكنة لهم في مصر في العقد ما قبل الماضي، ما جعل مصر (كعادتها في ذلك) بعام 2011 مقصدا متاحا ومرحبا، لصناع الدراما السوريين، يشاركون في الإنتاج الدرامي المصري والعربي.

استطاعت الدراما السورية مع بدايات تطورها التمرد على شروط الإنتاج الخليجي الرقابية المتشددة، إذ كان الإنتاج الدرامي العربي في معظمه مجبرا على تطبيق الشروط الموضوعة من قبل المملكة العربية السعودية، حيث ارتبطت معظم شركات الإنتاج العربية بها من حيث التمويل، (الممول يفرض شرطه في كل شيء، ليس فقط في الدراما)، وهو ما جعل من الدراما في تلك الفترة (معقمة أخلاقيا)، ولا تنتمي إلى الواقع بأية صلة، إذ كيف يعقل (مثلا) أن يعود الابن إلى بيت العائلة بعد غيبة طويلة امتدت لسنوات ولا يعانق والدته أو شقيقته، ولا يصافحهما حتى؟!  كان ذلك أحد شروط الإنتاج، إذ إن المصافحة (حرام) بين الرجل والمرأة، حتى في التمثيل. وهو ما استطاعت الدراما السورية الخروج عنه بقوة وجرأة لم تمنعا عنها الانتشار، بل على العكس، حققت الدراما السورية انتشارا عربيا واسعا جدا تلك الفترة، حتى استطاعت حقا منافسة الدراما المصرية، التي كانت تحاول التخلص من شروط الإنتاج الخليجي، وكانت تعاني أساسا، من انتشار الأفكار عن تحريم الفن والفن النظيف وإلى آخر ما أنتجه الفكر الوهابي المنتشر بقوة في المجتمع المصري.

شركات الإنتاج هذه خرجت عن سيطرة الدولة/ كمؤسسات، لكنها لم تخرج عن سيطرة النظام الحاكم

خروج الدراما السورية عن شروط الإنتاج الخليجي كان خلفه شركات إنتاج سورية ذات رأسمال قوي قادر على المنافسة وعلى فرض شروط إنتاجه، وعلى توزيع منتجه (الناجح) على امتداد العالم العربي، لكن كيف نشأت فجأة شركات إنتاج وتوزيع الدراما  الخاصة في سوريا في الوقت الذي تسيطر فيه الدولة على كل ما يتعلق بوسائل الإعلام؟ الأمر ببساطة شديدة هو أن شركات الإنتاج هذه خرجت عن سيطرة الدولة/ كمؤسسات، لكنها لم تخرج عن سيطرة النظام الحاكم، إذ بعد تسلّم الوريث بشار الأسد حكم سوريا في عام 2000، ظهر معه جيل جديد من بطانته، هؤلاء كانوا أبناء رجالات العهد السابق من ضباط الجيش والأمن ورجال النظام الذين كانوا يشكلون بطانة حامية لحكم الأسد الأب وداعمة له، وكانت لهم حصصهم الكبيرة من الموارد السورية المنهوبة على مدى عقود طويلة، من دون أي يكون لهم ظهور مالي علني، إذ تميزت فترة الأسد الأب بمبدأ (التقية) في الفساد والنهب، على عكس الأسد الابن، الذي فتح للفساد أبوابا واسعة وعلنية، والذي اعتمد على أبناء بطانة والده، ليشكل دعامة حكمه، وليتم الترويج له بوصفه الرئيس الشاب العصري المنفتح الداعم للفنون والدراما، هكذا تمت عملية تبييض الأموال المنهوبة من قبل الآباء لصالح الأبناء الذين بدؤوا بفتح شركات مؤسسات إعلامية تضم إضافة إلى الجرائد والمجلات الخاصة، دور نشر ومحطات تلفزيونية، وشركات الإنتاج الدرامي، التي استقطبت غالبية صناع الدراما من كتاب ومخرجين وممثلين، وامتد الاستقطاب ليصل إلى العلاقات الشخصية وليس فقط العمل، فكان من الطبيعي أن نسمع عن وجود(الرئيس الشاب وزوجته) في أحد الأماكن السياحية يرافقه ممثلون مشهورون، كما كانت عادية ودائمة تلك السهرات التي كانت تجمع أصحاب رؤوس الأموال هذه مع الفنانين وصناع الدراما (كتاب ومخرجين)، وما زالت مطاعم دمشق القديمة شاهدة على ذلك التحالف الغريب، واللافت أن غالبية هؤلاء كانوا يصنفون تحت بند (المجتمع المدني) الذي كان النظام يحاربه تماما، ويضع كل من ينتمون إليه في خانة (المعارضة)، حتى إن الغالبية من هذه المجموعة كانت تقدم نفسها بوصفها معارضة سورية، في جدلية نادرة وغريبة ولا يمكنها الحدوث إلا في بلد لا قواعد ناظمة لعلاقاته كـ (سوريا الأسد).

لا يبدو غريبا أن نرى في ما سُمي بخطاب القسم في قصر الشعب، حضور (نجوم) نجوم الغناء السوري الحالي برفقة نجوم الدراما السورية

هكذا تشكلت طبقة ثقافية جديدة في سوريا قوامها (صناع الدراما)، ورغم تميز الفنانين السوريين ثقافيا عن زملائهم في باقي العالم العربي، ورغم خروجهم على تقاليد الدراما العربية التي فرضها التمويل الخليجي، وتقديمهم لدراما متخففة من كل تلك القيود،  فإنهم خضعوا أيضا لأجندات الممولين الجدد، التي فرضت في الإنتاج التلفزيوني الدرامي صورة للمثقف ترسخت حتى الآن: الفوضوي السكير الفقير المتسول غريب الأطوار، هذه الصورة التي أصبحت من النوافل في المجتمع السوري لدى الحديث عن المثقف يمكن ملاحظتها في وسائل التواصل الإجتماعي التي تعج بمنشورات السخرية من المثقفين، أو منشورات تشتم الثقافة وأصحابها وتعتبرهم مسؤولين عن فشل الثورة، أو عن خراب سوريا إن كان الشاتم من مؤيدي النظام، حيث يتفق شقا المجتمع السوري حاليا (معارض ومؤيد) على شتم الثقافة والمثقفين، والمذهل أن يشترك في هذا الخطاب الشعبوي عدد لابأس به من (المثقفين) السوريين، الذين لطالما كانوا ينظرون في الثقافة والفكر، والذين كشفت السنوات الماضية فصامهم، حين انحازوا لمنطوق شعبوي بذريعة الانتماء للشعب في حالة الثورة، أو بذريعة دعم (الجيش العربي السوري) في حالة النظام.

لم تستطع الثورة إنتاج مثقفيها للأسف، إذ طغت جعجعة السلاح والأسلمة منذ السنة الأولى على كل صوت عاقل (مثقف)، وتم تحييد المثقفين أو تخوينهم أو التعرض لهم بالإساءات المتواصلة، في محاولة لإبعادهم عن مركز القرار ليبقى بيد مؤيدي السلاح والأجندات الخارجية، بينما استمر النظام في إنتاج نفس نوعية المثقفين الذين أنتجهم في سنوات ما قبل الثورة: صناع الدراما التي وصلت إلى أسوأ حالاتها بكل حال، ومغنين شعبيين ظهروا وبرزوا في العقد ما قبل الثورة، وتم الترويج لهم من قبل تحالف المثقفين ومبيضي الأموال.

هكذا لا يبدو غريبا أن نرى في ما سمي بخطاب القسم في قصر الشعب، حضور (نجوم) نجوم الغناء السوري الحالي برفقة نجوم الدراما السورية الذين رضخوا للتهديدات بعد توقيعهم ما سمي في 2011 ببيان الحليب، وانحازوا إلى النظام علانية عبر تصريحات ومواقف واضحة، أو سرا عبر حضور مناسبات مثل خطاب القسم أو غيره، بينما لا يمكن تسجيل حضور أي مثقف حقيقي من الصامتين أو من أولئك الذين سمتهم لونا الشبل في محاولاتها تفسير (خطاب القسم) بالرماديين فهؤلاء كما قالت الشبل، سيصنفون كمعارضين للنظام إذ لا مكان اليوم في سوريا الأسد سوى للمؤيدين وللناخبين بالدم، أما المعترضين على الفساد أو على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المزرية، ممن تجاهلوا لسنوات الكارثة السورية الكبرى ومئات آلاف الضحايا وملايين المشردين والمهجرين، فهؤلاء سوف تقدمهم دراما الأسد ذات يوم بوصفهم (فوضويين وبائسين وغريبي الأطوار ومتسولين) حسب رؤيتها الدائمة للمثقف، هذا إذا لم يعتقلهم النظام قريبا بسبب مواقفهم (الرمادية) ويضمهم إلى قائمة معارضيه حتى لو لم يكونوا كذلك.